عوالم إيلي مارون خليل المتعدِّدة المتميِّزة في روايته الأخيرة: “حياة تنسَلُّ بين ع و ع”

بقلم: الشاعرة فيكتوريا سلموني

 لعلّ إيلي مارون خليل، أديبًا، اليوم، هو من الأكثر تَنَوُّعًا فنّيًّا بين أدبائنا. فقد بدأ شاعرًا في “مزمور حزين لبلادي”(1970)، الّذي أعيدت طباعتُه مرّتين elie-victoria-salamouny.-1jفي سنة واحدة. فقاصًّا في “عنكبوت الذّاكرة والزّمن”(1997) المميَّز، وقد تجدّدت طباعتُه مرّاتٍ سبعًا حتّى السّنة الغابرة. فروائيًّا في “زهرة المدى المكسور”(1986)، الرّواية الـ في أقاصيص، وصدرت في طبعة رابعة هذا العام. فباحثًا لافتًا في “الياس أبو شبكة والمرأة ـ شِعرُه كرسيُّ اعترافِه”(1997)، وكَشَفَ فيه جديدًا. فكاتبَ مقالة ساخرة، موجِعة، في “أنا أمّيّ”(2003)، تصدر طبعتُه الثّانية هذه السّنة. فواضعَ مقالة فلسفيّة اجتماعيّة في “على حافة الكلام”(2011)، التّجديديّ الرّؤيا والمعالجة. فمحبِّرَ مقالة أدبيّة راقيةٍ في “طقوس الاشتعال”(2012)،  ويُمكنُ أن يقالَ فيها إنّها مجموعةٌ في فلسفة الأدب والفنّ.

  وها نحن الّليلة، نجتمع حول جديدٍ، له، لافت، هو روايتُه الرّابعة الصّادرةُ حديثًا، عن (دار الفكر الّلبنانيّ، بيروت، 2013)، بعنوان مُخاتِلٍ مُوارِبٍ مُخادِعٍ يُشيرُ لا يوضِح، يوحي لا يقول، يرمُزُ لا يُفصّل. وإذًا، فمنذ العنوان، يبدأ إيلي مارون خليل روايتَه بطريقةٍ شِعريّة. هو يُعَنْوِنُ، وعليك أنتَ، كمُتَلَقٍّ، أن تكتشفَ وتؤوِّلَ. بهذا يجعلُك شريكًا له، قريبًا إليه، تسير معه، ومعه تفكّر وتتحرّك وتغوص وتستكشف. هو الأدبُ الخصوبةُ، الأدبُ الثَريُّ المُثْري، ما يُنتِجُه كاتبُنا.

 “حياةٌ تنسلُّ بين ع  و ع”! هو العنوانُ، قلنا، وهو طريف! فماذا يمكن أن يكون قد قصد من خلاله؟ أو إلامَ يوحي بوساطته؟ كيف أنّ الحياةَ تنسلُّ؟ ما هما هاتان الـ”ع” والـ”ع”؟ لماذا هذا الالتباسُ؟ أمقصودٌ هو؟ إلى أين يُريد إيلي مارون خليل أن يصل؟ أو بصيغة أخرى: ماذا أراد أن يقول عَبر التباساته ورموزه وإيحاءاته؟ وتاليًا: هل أضرّت هذه، وهي أقرب إلى الشِّعر، بعمليّة السّرد الرّوائيّ، أو بدراسة الشّخصيّات، أو بالحُبكةِ، من تدرُّج وتأزُّم وحلولٍ ووضْعٍ نهائيّ، على ما للفنّ القصصيّ ـ الرّوائيّ من ملامح ومميّزات؟

 لا شكّ في أنّ إيلي مارون خليل، وأنا العارفةُ شخصيّتَه، والدّارسةُ أدبَه، قد وضع عنوانَه هذا، استنتاجًا، بعد أن أنهى الكتابةَ، وإعادةَ قراءةِ ما كتب. فالسّياقُ واضحُ العفويّة الغنيّةِ والبَساطةِ المتقَنة، وهاتان من أبرز خصائصِ أديبِنا الّليلة: شخصيّةً وكتابة. فهو مفكّرٌ قليل الكلام، في مجتمعاته، حتّى الصّمت الصّارخ، فكيف في أدبه!؟

إنّه يتماهى مع أدبه، حتّى في عناوينه، وعنوانُ روايةِ الّليلة واحدٌ من بينها، ومنها، مثالا: “عنكبوت الذّاكرة والزّمن”، “ذاكرة الّليل والرّيح”، “غافلتُ ذاكرتي و…”، “بحثًا عن…”، “حدثَ وأحببتُ” . ولهذا التّماهي ما هو له، وما هو عليه. وأنتَ، قارئًا، لك أن تستنتج. هذا هو دورُك، يريدُه، صادقًا، لك. يؤمن بحرّيّتك في الفهم والتّأويل. ويرضى بما تذهب إليه. لعبةٌ خطِرة!؟ هي كذلك! لكنّه يفقهُ ويُريد! إنّه الأدبُ الحيّ الحقيقيُّ، والمُحيي!elimaroun.-1jpg

  أرى أنّ الحياةَ تنسلُّ، كونُ أديبِنا يحسُبُ أنّها تنقضي بدون انتباهٍ منّا، مُغافِلةً إيّانا، غادرةً بنا، فلا نُفيقُ، ممّا نحن فيه سادرون، وعنه غافلون، إلاّ وتكون الحياة انسلّت كلصّ الّليل، أو غدرت كغيمةٍ لم تُمطِرْ. إنّ إيلي مارون خليل، إذًا، يعي انسِلالَ الحياةِ الّتي يحلُم بأن تكون ملأى بالخير الحقّ الحبّ السّلام الجمال، وسائر القِيَم. لذلك نقرأه يُحارب الفساد، بأشكاله، والظّلم بظروفه، والبُغضَ والحسد والحقد والكَيدَ والشّرَّ، إجمالا، بما لها، جميعًا، من وجوه واتّجاهات وأنواع ومراتب وظروف، وما ينتجُ عنها من نتائجَ وخيمةٍ، وعقبات غيرِ مُحَبَّبةٍ على كلِّ صعيد.

 أمّا “ع” و “ع”، فأرى، من خلالِهما، من بين ما أراه، أنّه يجعل أبطالَه يفكّرون ويتحرّكون ويتحدّثون، متّخِذين وُجْهاتِ نظرٍ متقابِلة، من خلال نظرة كلّ منهم إلى المسألة المنظور إليها. فكلٌّ منهم ينظر إلى المسألة نفسِها، بعينٍ مُغايِرة. وقد تكون مسألةَ الصّراع بين العاطفة والعقل، أو بين العمل والعاطفة، أو بين المادّيّة والعقلانيّة، أو بين الحياديّة والانحياز، أو بين العقل والإيمان، وهلمَّ… هذه ثنائيّات يطرحُها الكتابُ، كما يطرح سواها، بواقعيّة تجاور الموضوعيّة، وبشاعريّة تجاور المثاليّة، عَبر صراع فكريّ نفسيّ اجتماعيّ حضاريّ راقٍ، يُشيرُ، في بعض ما يشير إليه، إلى ثقافة واسعة معمَّقة، وإلى نَباهة في التّحليل النّفسيّ، وغَوصٍ إلى الأعماق، حيثُ الجذورُ والمنبع.

 إلامَ يوحي، إذًا، هذا العنوانُ المُوارِبُ المُلتبِسُ المُثيرُ الرّيَب، وببراعة مميَّزةٍ لافتةٍ، ومقصودةٍ من الكاتبِ، وعنده!؟

  يوحي هذا العنوانُ: “ألحياةُ تنسلُّ بين ع و ع”، إلى الشّيءِ ونقيضِه. إلى الحياة: هَشّةً سريعة الزّوال، بطيئة متثاقلة، مرتبِكة حائرة، منيرة مظلِمة، وما فيها من ثُنائيّات متناقضة، من مثل: الحبّ والبغض، العلانية والتَّخَفّي، الإيمان واللامبالاة، وغيرِها كثير؛ ومن صراع مادّيّ فكريّ عقليّ نفسيّ ثقافيّ اجتماعيّ حضاريّ قائم في الحياة، وفي كِيان الشّخصيّات، ما ينعكسُ على طرق العيش وأنماطه: سُلوكًا واتّجاهات. وهو ما يجعل من هذه الرّواية، حياةً منفلِشة على غير صعيدٍ ومستوى واتّجاه، حياةً ثَريّةً خصبةً، كما يليق بالحياة أن تكون.

هذا، ويوحي العنوانُ، بعدُ، أو هو يريد أن يجعل عواصفَ في فكرنا، أن يخضَّه، عميقًا، ليركّز في مسائلَ أخرى كثيرة، ومنها: الحبّ/المصلحة، الحبّ/الذّاكرة،الحبّ/الارتقاء،الحُبّ/الواجب، المادّيّة/المِثاليّة، الرّغبة/الحاجة، الواقع/المِثال، الصّراحة/التّعمية، إلخ… وهذا يُفيد بأنّ الكاتبَ، بقصدٍ أو من دونه، يصوّر الحياةَ “منسلَّةً”، “غادرةً”، “مُوارِبة”، بين هذه الصّراعات/الثّنائيّات/المَسائل، هادئةً وهادِرة، ليّنةً وقاسية، واضحةً وغامِضة، سَوِيّةً ومُلتوية، ما يجعل منها “خطأً شائعًا”، لكنّه مستَحَبٌّ. فيبدو لك أنّ إيلي مارون خليل، وفي هذا السِّياق، من أنصار نظريّةِ “الفنّ للفنّ”، فكأنّه يكتب ليعرض قدراتِه الّلغويّة، البَيانيّة، الخياليّة، الأسلوبيّة، الفنّيّة، الشّعريّة، الإيقاعيّة، فضلا عن عالَمي العاطفة والفكر.

 إنّما لا. ليس هو من أتباع هذه النّظريّة، فيكون أدبُه ﭘَرناسيًّا جماليًّا يحوي الفَراغَ. لا! إنّه، وفي الوقت نفسِه، الأدبُ الرّومنسيّ، ولا ضَعفَ نفس، أو دموع كآبة وألم؛ وإنّه الرّمزيُّ، ولا شُحناتٍ غزيرة من الصّورِ الشّديدة الغموض؛ والواقعيّ، ولا تشاؤم أسود؛ والسّورّياليُّ، بعيدًا من الّلاوعي… فإيلي مارون خليل واعٍ، منتبِهٌ، مسؤولٌ، وهو أيضًا، وفي الوقت نفسِه، الذّاهِلُ، الغافِلُ، الّلامبالي، تمامًا كشخصيّات رواياتِه، ومن بينها هذه “الحياةُ المنسلّةُ بين “ع” و “ع”! والأمثلةُ وافِرةٌ: منصور وغالب، الزّوج وطارق، الحبّ بين المادّة والرّوح، الانحطاط والسُّمُوّ…

 أمّا الالتِباسُ، ونجدُه في العنوان والمضمون والألفاظ والصّور والمواقف والحوار والوصفِ، على أنواعه كلِّها، فمقصودٌ في اعتقادي. الأسباب؟ الكاتبُ ناثرٌ شاعرٌ، وهو لا يستطيع أن يتخلّى عن الشّاعريّة فيه، فتأتي الصّور والألفاظُ والتّعابير من خيالٍ خصبٍ وخَلاّقٍ وبعيد الآفاق، فيوحي لا يوضح، يوجِز لا يفسّر، فعليك، قارئًا، ولك، حرّيّةُ التّأويلِ إلى المدى الأرحب! ما يرتفع بالأدب إلى الإبداع فيجعله مُشَوِّقًا، مؤثّرًا، موحيًا. إنّه دورُ الأدب بامتياز! فالالتِباسُ لِباسُ الخيال، محرِّضُ الفكر على التّصَدّي للتّأويل. وهو المُغرِقُ القارئَ في سراديبِ التّشويق، وحبِّ الاكتشاف. وهو المساعد على الاقتحام الحرّ لعوالِم الكاتبِ وألغازه وآفاقه، وما يريدُ أن يوحيَ إليه، أو يرمُزَ، أو يُثير.guilaf-elie..

ولكن: أنعرفُ، تحديدًا، ما يُريدُ الكاتبُ، خصوصًا الكاتبُ الرّافلُ ببُردة الشّعر!؟ أيجبُ، حقًّا، أن نعرفَ؟

  إذا كان الجوابُ بالإيجاب، فإيلي مارون خليل لا يُسعِفُنا، وعن عمْد. هو يُريدُنا نُعمِلُ فكرَنا والخَيال والثّقافةَ، لنتّجهَ في أيّما اتّجاه. “ألشّاطرُ” فينا، مَن “يرى” أكثر من سِواه. هذا ما أرى أنّ كاتبَنا يرغبُ في أن نعملَ عليه. فالأدبُ لا يُكتَبُ مرّة واحدة. “كلُّ قراءةٍ كتابةٌ جديدة”، يقول إيلي مارون خليل، نفسُه، في كتابه (طقوسُ الاشتِعال)! والحقُّ إلى جانبِه. فقراءتُه، ولو من خلال أقاصيصِه ورواياتِه، لا تتمّ للتّسلية، إنّما للتّفكير التّأمُّلِ الإبداع. أنت، كقارئ، “مبدِعٌ آخر للنّصّ”، على قولِه، هو أيضًا. إلى هنا، قد يريدُنا أن نصل، وتاليًا، إلى أقصى ما يمكن لنا أن نصل إليه، بمعونة الفكر والخيال والقدرة على التّأويل.

تبقى الإجابةُ عن السّؤال الأخير: هل أضرّ الالتباسُ والأجواءُ الشّعريّةُ وضرورة التّأويل، بعمليّة السّرْدِ القصصيّ؟

 لا أعتقد! فقد رأيتُ أنّ الكاتبَ بارِعُ السَّرْدِ، حاذقُ الحَبْكِ، متمكّنُ التّحليل، ساحرُ الوصف، عميقُ التّحليلِ، قويُّ التّصوير، مُلَوِّنُ الحِوار، خَصيبُ الخَيالِ، مَوفورُ الغِنى، فاتِنُ التَّنَوُّع. يأخذ بك، إيلي مارون خليل، في هذه الرِّوايةِ الزّاخِرةِ بالمفاجآتِ المدروسةِ، المترابِطةِ، الغنيّةِ بالتّشويق والتّأثير والإيحاء، فلا تُفلِتُ من شبكته، إلاّ مع الكلمة الأخيرة، لتبدأ، أنت، التّفكيرَ والتّأويلَ والاستيحاء، لَكأنّ “حياة تنسلّ بين ع  و  ع”، تنتهي على الورق لتستمرَّ تبدأ فيك، كمُتَلَقٍّ، عميقِ الثّقافة، واسع الخيال، مشاركٍ في الأحداث. إنّه يأخذ بك من الصّفحة الأولى، ويُقيمُك في تشويقٍ مستمرّ، فتُكثر التّسْآل: ما قصّةُ هذا الكلب؟ لم اهتمام طارق يبلغ إلى هذا الحدّ؟ مَن هو منصور؟ أشَحّادٌ ومثقَّف؟ لمَ هذا الغموض؟ مَن هي الغامضة والسّاحرة؟ ما علاقتها بمنصور؟ مَن هو غالب؟ أهو منصور نفسُه؟ أهو على انفِصامِ شخصيّة؟ إلى أن “تكتشفَ” أو “تؤوِّلَ”، وقد “تجرؤ” على الاستنتاج أو لا… وهنا قِمّةُ الالتِباس، الّذي يجعل القارئَ فيك، حائرًا، قلِقًا، متشوِّقًا، يَغصُّ برؤاه وباستنتاجاته الوفيرة والمتناقضة. إذًا، ينجح إيلي مارون خليل، في ّخَضِّ الرّأس”، وهو أحدُ أهدافِه.

 لا شكّ في أنّ هذا الكاتبَ المتمرِّسَ في الفنّ القصصيّ: أقصوصةً وروايةً، أثبتَ، في عمله هذا، مرّةً بعدُ، أنّه مجدِّدٌ في تآليفِه. فالكتابُ الجديدُ استمرارٌ لشخصيّةٍ غنيّةٍ، متجدِّدة، خلاّقة، متميِّزة. فأنتَ، حين تقرأ نصًّا له، أيَّ نصّ، تعرف أنّه له، من دون أن يكون موقَّعًا باسمِه. هذه خُصوصيّةٌ له تجعله رائدًا في أيّ نوعٍ أدبيّ كتب.

إيلي مارون خليل! شكرًا. لا زلتَ تُثري القرّاء الجدّيّين، المثقَّفين، المؤوِّلين، بهم تغتني وتُغني! ثِقْ أنّ روايتَك، هذه، ستبقى عملا مميَّزًا بين أقرانِه، مميِّزًا لشخصيّتك المتفرِّدة! ولكن، ينخَزُني سؤالٌ مُماحِك لا أستطيعُ إلاّ أن أُمَرِّرَه: أليست بعضُ شخصيّات روايتِك هذه، في حواراتِها ونفسيّاتِها والمَسار، استمرارًا لبعض شخصيّات روايتِك السّابقة؟ فهل قصدت هذه الثُّنائيّة، أم ستكون ثُلاثيّة؟ أم ستفاجئ برُباعيّة، فيتمّ لنا فَتْحٌ جديد في الرّواية!؟

 إنّا لَمنتظرون!

كلام الصور 

1- فكتوريا سلموني

2- الأديب إيلي مارون خليل

3- غلاق الرواية

اترك رد