المرأة التي تبتسم.. في حُلمي

 بقلم: الأديبة المصرية  عزة رشاد

اعتادت أن تطرق باب شقتنا كل يوم في نفس الموعد، طرقتين متلازمتين، كنت أميزهما بسهولة رغم حداثة سني في ذلك الوقت.

azza_rashadتحمل أمي الصحن الفخاريَّ الفارغ الذي تكون قد وضعت به النقود منذ الصباح فتعطيها إياه بيدها اليسرى وتأخذ منها الصحن المملوء باليد الأخرى، فتتلامس كفها وكف تلك المرأة للحظة ثم تنسحب كلٌ منهما مبتعدة عن الأخرى.

كانت تبدو لي ـ تلك المرأة ـ مدهشة في كل شيء، لم أرها أبداً تبتسم ولا تتجهم ولا تتكلم، حتى أن أمي كانت تحسبها بكماء. فقط كانت تذكرها بحياد وهي تطعمني الزبادي التي ما كنت أستسيغ مذاقها.. ” لازم تاكلي عشان تكبري”.

بعد غياب أبي استسلمت أمي لمسؤولياتها الجديدة رابطة الجأش، أتذكرها وهي تضغط كفي الصغيرة حين كنت أرتجف من صفير الغارة، تؤكد لي، بضغط كفي وبضغط حروف كلماتها كذلك، وهي تقودني إلى البدروم، أن لا شيء يستحق الخوف.

أتذكرها وهي تقف على كرسي الخيزران تدندن لحناً حانياً، فيما تعمل يداها على تغطية زجاج النوافذ بورق أزرق سميك، حتى لا تكشفنا أعين الطائرات ونهلك.

هكذا نصحنا أبناء الحي الذين شكلوا فريقاً اهتم بتنظيم أحوال المُهَجَّرين الذين تدفقوا على مدينتنا وفي وجوههم ترويع القصف، وشظايا النكسة.

كل ليلة كانوا يمرون على عددٍ من المنازل لجمع التبرعات، وفي إحدى المرات تحيرت أمي قليلاً ثم أعطتهم بعض الشراشف والأغطية القديمة، وقد أشاحت بعينيها للأسفل، فرأيتُ ـ أنا التي تتجاوز قامتي ركبتها بقليل ـ رأيت نظرتها الخجلى وتسرب إليَّ قلقها.

لمّا أتت البائعة في اليوم التالي قابلتها أمي خالية اليدين، حزرتُ أنها تريد أن تقتصد ليكون معها ما تتبرع به ويحفظ كبرياءها، أخبرَتْ البائعة بأننا لن نأخذ اليوم شيئاً، وطلبت منها أن تأتي في اليوم التالي، فسمعتُ صوت البائعة عميقاً كأنه يخرج من باطن الأرض:

ـ أنا عملت حسابكم، لازم تأخذوها النهارده.

قاطعتها أمي بنبرةٍ حاسمة:

ـ بكره. تعالي بكره. ودفعت الباب.

في تلك اللحظة قامت البائعة بدفع الباب من الجهة الأخرى نحونا، ويبدو أن أمي فوجئت بقوة المرأة، إذ ارتعشت يداها وهي تستجمع قوتها لغلقه، وبينما كان الباب يتأرجح بينهما رأيت خوفاً حقيقياً بعيني أمي لم أره من قبل ولم أتخيله.

كان صوتها متقطعاً وهي تستنجد بي لأساعدها.

حركتُ كفيَّ المرتجفتين جهة الباب ولم أقوَ على أي فعلٍ آخر.

وأخيراً تركت المرأة الباب فانغلق وحده، وعبره أتانا صوتها ضعيفاً، ممزقاً مع خطواتها الذاهبة على سلالم الدرج، حتى اختفى:

ـ أنا.. عملت حسابي.. أنا.. وعدت…

بعد أن اختفى صوتها، صوتها الذي لم نسمعه قبل ولا بعد تلك المرة، جلست أمي تلتقط أنفاسها، ثم شهقت فجأة وهي تحدق بالصحن الفارغ الذي نسيت أن تعطيها إياه.

انتهت الحرب التي عاد منها أبي بمرضٍ أودى بحياته بعد أشهر من المعاناة، وذهبت تلك المرأة ولم نرها بعد ذلك ولا مرة، ولا حتى لتطالبنا بصحنها الفارغ، لكن مزق كلماتها المعدودة مازالت تشغلني.

من الذي وعدته؟ مازلت أحاول أن أحزر: ما ذلك الوعد؟…

ما ذلك السر الذي جعلها تباغتنا مستنفرة ردة فعل أمي على هذا النحو؟

ربما كانت مدينة تسعى لرد دينها، أو كانت تعول مريضاً وعدته بالدواء، أراها في خيالي أماً لأطفالٍ كثيرين، تستحق الشفقة، وأتعجب من ملامحها الهادئة الكتوم، ثم أخاف أن تكون قد ماتت وحيدة أثناء الغارة، وتركت من سيحزنون عليها.

في مراتٍ نادرة كانت تفاجئني في نومي، تأتيني مرتدية ثياباً مثيرة، ثم أراها ترقص بمجون في بؤرة مشبوهة، وتتلاعب بقلوب رجالٍ كثيرين. تبتسم ابتسامة ساخرة وهي تنظر نحوي وتتوغل في نظرتي، ثم تغمز لي بعينها، مشيرةً إلى أبي الذي أكتشفُ أنه أحد زبائنها، فأصحو ناقمة عليها، حانقة من ملازمة أبي لها في الحلم.

لما أخذت أدقق في ذلك الحلم الذي لم يبق منه سوى ذكراه.. فكرت بأن المرأة التي كان عقلي يلومني بسببها في النهار، ربما كان الليل يأتي ليحمَّلها الخطأ عني، يحملها خطيئة لا تليق بامرأةٍ كانت تخرج تحت القصف من أجل لقمة العيش، أحملها خطيئة بعيدة كل البعد عن امرأةٍ كاد ثمن كوب زبادي أن يفقدها رشدها.

وتبقى أفكاري تنزلق كالسيل على رأسي، وبقيَ اليقين نائياً جداً، وبقيت أخشى الشعور الذي يجتاحني في تلك اللحظة، أخشى التفكير بأننا.. لو” عملنا حسابها “، لو لم نخذلها، لما مات أبي، لما هُزمنا.

أهرب من قسوتي على نفسي بأن أتهمها بالحساسية المفرطة، فربما تجلس تلك المرأة الآن هانئةً بين أبنائها لا تحمل ضدنا أدنى ضغينة، بينما أحمِّل أنا نفسي غماً لا يُحتمَل.

أهرب منه فقط بتذكر السبق المدهش الذي حققته في ذلك الوقت، وأنا ابنة الأعوام الخمسة، حين اكتشفت لأول مرة أن أمي، أمي الكبيرة جداً، هي الأخرى تخاف، ويتقطع صوتها حين تخاف.. مثلي. فأضحك حتى تدمع عيناي..

اترك رد