“في تكريم الكبار توقٌ إلى الارتقاء معهم إلى أعلى مراتب الحضور والبقاء، خصوصاً حين تتزامن مناسبةُ تذكّرِ رجالٍ صاروا جزءاً من تاريخنا، مع رحيل كبير هندس مصيرَ بلده على قياس حلمه، فحوّل مجرى التاريخ في إفريقيا والعالم. إنَّه نلسون مانديللا المناضل والرمز لما سّماه “أمة قوس قزحٍ بسلامٍ مع نفسها والعالم”. وهي أمّة تشبه لبنان بجماعاته المتعدٍّدة وبقدَره الصعب ورسالته الأصعب.
لم يستسلم مانديللا لواقعٍ ظهرَ القدر فيه أكبر من الخيار، فاندفع مؤمناً بأنَّ الشجاعة ليست غياب الخوف، بل هي الفوز على الخوف، واندفع كذلك في الكفاح والتحدّي وكسرِ المحرَّمات حتى قهرَ ذلَّ ثلاثمئة سنة من التمييز العنصري في جنوب إفريقيا والقارة السوداء. السجن لم يكسره والنصر لم يسكره، فانحنى له العالم رمزاً للإرادة والصمود والمقاومة، ورمزاً للتمرّد والتحرّر ثمَّ التسامح والمصالحة والغفران.
إن ما قاله وفعله نلسون مانديللا يبقى أهم مما قيل وسيقال فيه، لقد مات الرئيس والمناضل والسجين والزعيم وعاش الرمز والأسطورة.
بين بعبدا ولبنان، قصّة تختزن تاريخا،ً مداميكُه محطّاتُ أحلام وتحديات وذكريات. قبل مئة وأربعين سنة، ارتفع السراي هنا مقرّاً للمتصرِّف، أدار منه حكم لبنان الصغير، الذي شكَّل نواة لما أصبح دولة لبنان الكبير. ومنذ أربع وأربعين سنة ارتفع فوق بعبدا القصر الجمهوري رمزاً للشرعيّة الدستوريّة وعنواناً لاستمرار الحكم الوطني.
اثنا عشر رئيساً في سبعين سنة من الاستقلال، جميعهم شاهدوا وشهدوا ومنهم من استُشهد…
صحيح أنّ تاريخهم في الحكم متروك لحكم التاريخ، إلا أنّ مبادرتكم برفع هاماتهم في هذا الصرح التاريخي، خطوة مشكورة لإخراج رجالنا الكبار، من تصنيف الخير والشرّ، والوطنيّة واللاوطنيّة، إلى مرتبة أخرى، تجعلهم أبطالا لتراث ديموقراطي تراكمي شابه العنف، إلى حدّ المأساة، التي كانت أكبر وأقسى من الجميع، تعدّدت فصولها حروباً وويلات، فتماهى البطل والضحيّة، في إهانة قدريّة واحدة، لم توفّر لا الوطن ولا الحاكم ولا المواطن.
عائلات أصحاب الفخامة،
اصحاب الدولة والمعالي والسعادة والسيادة،
أيّها السيّدات والسادة،
لقاؤنا اليوم، ليس زيارة للتاريخ الساكن في حجارة هذا الصرح، بل هو لقاء على تجديد فكرة وقضيّة، إاسمها لبنان الديموقراطي المتعدّد، السيّد، الحرّ والمستقلّ، مستنطقين تجارب الرؤساء السابقين، ومستخلصين العبر من العهود والأزمات التي توالت. أولى العبر، أنّ مشكلة الهويّة التي رافقت سنوات التأسيس، وأدَت الى نزاعات وصراعات استدرجت تدخّلات خارجيّة، لم تكن سوى نتيجة التعثّر، لا بل الإخفاق في إنجاز بناء الوطنيّة اللبنانيّة، وتحديد موقع لبنان في المحاور الإقليميّة والدوليّة.
من تحصّن داخل الكيانيّة اللبنانيّة الصافية، وتمسّك بفرض اللبننة على الشريك الآخر، استنهض عروبة حادّة عابرة للحدود، فتشابكت مطالب الشراكة الطائفيّة والسياسيّة، بمقتضيات السيادة الوطنيّة وعناصرها، فانقلبت الانتفاضات والأزمات الداخليّة، إلى أزمات إقليميّة ودوليّة، كما في الأعوام 1949 و1958 و1969، وكلّ ما تلى سنة 1975. لذلك فإنّ صحوة الهويّات الدينيّة والمذهبيّة، المهيمنة راهنا،ً على حساب الهوية اللبنانيّة والعروبة والدولة الوطنيّة في آن، هي وصفة جاهزة لحروب أهليّة دائمة.
إنّ الوهم بتخطّي الوطنيّات والكيانات، وإلغاء الحدود في سبيل جهاد أُممي، أو نصرة طائفيّة، أو تورّط في نزاع خارجيّ، حماية لقضيّة أو لسلاح، لا يُسقط الدولة فحسب، بل يحطّم إمكان تكوين الهويّة الوطنيّة الجامعة، ويؤدّي إلى زوال الدولة والوطن معاً.
إنَّ استقرار لبنان، قاعدته عقد وطني واجتماعي حرّ، يؤمّن الشراكة السياسيّة والمصالح المشتركة، ويفتح الأزمات لتطوير اتفاق الطائف، لا بل تحصينه ضمن آليّاته، نحو دولة مدنيّة حديثة.
يقودنا تنازع الهويّة، والصراع على السلطة، والموقع الإقليمي، إلى العبرة الثانية، التي أكدتها تجارب العهود السابقة، وعنوانها، حياد لبنان الإيجابي عن المحاور، وبكلام أدقّ، تحييده عن الصراعات، والتي ترجمت في انحياز لبنان إلى العرب إذا اتفقوا، والحياد بينهم إذا اختلفوا، وجسّدها ميثاق عام 1943، الذي أكّد ضرورة إبعاد لبنان، عن منطق الأحلاف.
فكلّما حاد اللبنانيون عن الحياد والتحييد، وانجرفوا في لعبة المحاور، تعرّض الوفاق والميثاق للاغتيال، وانفجرت البراكين الكامنة، كما في الأعوام 1957 و1958، 1969 و1975، 1982 و1983، والسلسلة الطويلة من المحطّات الصعبة، منذ العام 2004 وحتى اليوم. لذلك، لا يجوز تحت ذريعة أية قضية داخلية، تشريع الأبواب لتدخلات أطراف خارجية، أو تأسيس مشاريع خارجية.
فالقاعدة الذهبيّة تبقى، في اعتماد سياسة خارجيّة، تعكس الثوابت الوفاقيّة الداخليّة، متجنّبين في ذلك، الاهتزازات الناتجة من التغيير في موازين القوى، والنفاذ دائماً من الفجوة، بين الأحكام الدستوريّة والتوازنات الظرفيّة المتبدّلة، والسعي تالياً لتغيير المعادلة داخل النظام.
عبرة ثالثة، ناتجة من الدور الطليعي، الذي قام به رؤساء الجمهورية، في مواجهة العدوانية الإسرائيلية، المتمثلة بالإحتلالات، والاعتداءات والخروقات المستمرة، وشبكات التجسس وعمليات الاغتيال، وآخرها العمل الانتقامي الحاقد، الذي حصل صباح الاربعاء الفائت. هذه العبرة مستوحاة من مناسبة استرجاع التجارب الرئاسيّة.
إنّها ازدواجيّة السيادة وإمرة السلاح على أرض واحدة، وفي ظلّ دولة واحدة. فمنذ إباحة الحدود وانتقاص منطق السيادة، بعد اتفاق القاهرة العام 1969، دخلت وتداخلت عناصر الاحتلال ودعوات التصدي له، وتناسلت الحروب، وتراجعت هيبة وفاعليّة القوى الأمنيّة الشرعيّة، الأمر الذي لم ينتقص على الإطلاق، من مقدار الاعتزاز والافتخار بما تمّ إنجازه من تحرير على يد المقاومة، في ربيع العام 2000.
وأدهى ما كشفته المراحل السابقة، أنّ أيّ سلاح خارج منظومة الدولة ووحدة قرارها، يتحوّل جزءاً من أدوات الصراع على السلطة أو الهيمنة، أو قوّة احتياط، لتسعير النزاعات والحروب الأهليّة. وذلك أيضاً، شأن أية مهمة، تنبري فئة أو قيادة لتنكبها، من دون الإرادة الوطنية الجامعة.
من هنا، واجب مقاربة مسألة السلاح، من منطلق نهج الحوار، ومنطق الدولة، بعيداً من منطق الاتهام والتشكيك ومن سياسات العزل أو الهيمنة والإلغاء.
أما أبرز العبر المتّصلة بسيرة الرؤساء ومسيرتهم، والجمهوريّة، سيداتي سادتي، فيتعلّق بأهميّة التمسّك بمبدأ التداول الدوري والسلمي للسلطة، وهذا ما يسمح بإجراء مثل هذا الاحتفال، وهو ما ميّزنا طوال عقود عن غيرنا من الدول، في هذا الشرق المضطرب.
إلا أن حرصنا على توسيع قاعدة الحكم بتجديد الطبقة السياسية بالانتخاب وفقاً لقانون حديث يساهم بصحة التمثيل، لا يوازيه الا حرصنا على تطبيق الدستور والقوانين المرعية، كضمان لعدم الوقوع في إغراءات التمديد أو فخ الفراغ في المؤسسات على مستوياتها كافة، وخصوصاً في موقع رئاسة الدولة، رمز الوطن الواحد، والسقف الضابط للسياسة الخارجية وللمؤسسات الأمنية والقضائية والعسكرية والإدارية، والمساحة العازلة بقوة الدستور، بين مختلف الفئات والجماعات المتخاصمة والمتباعدة.
لذلك، ومع اقتراب موعد الاستحقاق الرئاسي، فإنّي أدعو القيادات المسؤولة والنواب، إلى تحمّل مسؤوليّاتهم، وعدم التنكّر للواجب والوكالة الممنوحة لهم من الشعب، بتأمين النصاب للجلسة الانتخابيّة، وتجنّب الوقوع في خطأ، لا بل في خطر الفراغ الرئاسي. ذلك أنّ تجربتي 1988 و2007 أثبتتا أنّ الفراغ يفتح الباب لتسلّل الفوضى الأمنيّة والسياسيّة والدستوريّة، ولم يعد الشعب، ولا الهيئات الاقتصاديّة، ولا النقابات والعمّال، في وارد القبول بالمزيد من الأزمات السياسيّة، ومن التدهور الأمني والاقتصادي والاجتماعي.
إنّ التطوير والتأقلم مع مستلزمات الحداثة من داخل المؤسسات، أجدى وأرقى وأصحّ، من التغيير من خارج الشرعيّة الدستوريّة، ومن خارج منطق الحوار والتوافق، الذي بني عليه الكيان اللبناني. وهذا التوافق يجب ألا يكون سبيلاً إلى المحاصصة، واقتسام عائدات الدولة وخيرات الوطن. فضلاً عن أن شخصنة الاستحقاقات وتطييف المؤسسات يؤدّيان إلى فقدان شرعيّتها الوطنيّة الجامعة، وإلى اجتياح قوى الأمر الواقع أطر الدولة وحدودها.
ايها الحضور الكريم،
إنّ الحديث عن التوافق والتوافقيّة، يدفعنا إلى استحضار الحديث السائد راهناً، حيال مواصفات الرئيس العتيد الذي يريده الشعب قوياً بقوة الإرادة الوطنية الجامعة، وبقوة الدستور، وبقوة حكمته وشجاعته وتجرده.
وقد أظهرت التجربة التاريخيّة، أن الوطن المحكوم بالموازين الدقيقة لا يحتمل الخيارات القصوى، على مستوى الرجال والعقائد والمؤسسات، ويتطلّب الاعتدال والشجاعة والحكمة، على كافة مستويات الحكم والمسؤوليّة.
وبقطع النظر عن الجدل القائم إن أيّ رئيس مؤتمن على الدستور وعلى واجب المحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه، يحتاج، بالإضافة الى إعلاء النبرة والصوت وسقف المطالب، إلى توفير مستلزمات النجاح لرؤيته السياسيّة، خصوصاً من خلال ضمان الأداة التنفيذيّة اللازمة، وتوضيح الصلاحيّات المنوطة برئيس الجمهوريّة، بالتماهي مع سلطة تنفيذيّة متجانسة وفاعلة، وسلطة تشريعيّة مراقبة وضابطة للإيقاعات.
من هذه المبادئ، يستمد رئيس لبنان قوته، وليس من طائفته أو حزبه، وليس من الشارع أو تحالفات الخارج، أو عبر تركيز همّه وجهوده، على قطف نجاح سياسة شعبوية لمصلحته الشخصية.
أيّها السادة، إنّ الناس لا تعرف التاريخ الذي تصنعه، إلا بعد أن يصير تاريخاً، ولا بدّ لهذا التاريخ من أن يسجّل الحروب والمآسي التي ينجح الحاكم في تلافيها، لا فقط تلك التي يتسبّب بإشعالها.
علينا جميعاً، أن ندرك أنّنا على أعتاب تحوّلات واستحقاقات تاريخيّة، في الشهور المقبلة، تمهّد لصناعة المستقبل. وما يفتح نافذة الأمل، هو الرهان على رغبة المواطنين، في تحييد أنفسهم ولبنان، عن منزلقات الفتنة والحروب، وعلى بشائر التسويات والحلول السياسيّة التي تطلّ على المنطقة، وعلى كون محيطنا العربي في مخاض يمكن، وإن طال الأمد، أن يحوّله إلى ما يشبه لبنان التعددي والديموقراطي والمنفتح والضامن للتنوّع المغني من ضمن الوحدة.
السيدات والسادة،
تحيّة إلى رؤساء لبنان، الذين توالوا على خدمة الوطن بإيمان وإخلاص وثبات، وعهد جديد على أنفسنا، بالعمل على ترسيخ الديموقراطيّة وقيم الانفتاح، والحوار والعيش المشترك، وثقافة العدالة والسلام.
شكراً لبلدية بعبدا ورئيسها ومواطنيها
عشتم! عاش لبنان!
***********
(*) كلمة الرئيس سليمان خلال الاحتفال الذي أقيم يعد ظهر 7 ديسمبر في سراي بعبدا الأثري لإزاحة الستار عن التماثيل النصفية لرؤساء الجمهورية منذ الاستقلال ولغاية اليوم.
كلام الصور
1 الرئيس سليمان يلقي كلمته
2- 3- 4- 5- مشاهد من الحفل