يسعدني أن أشاركَ في إحياء يوبيل خمسٍ وعشرين سنة على تأسيس كليّة الحقوق في جامعة الروح القدس – الكسليك، فأُحيّي الأب هادي محفوظ رئيس الجامعة، والأب طلال الهاشم عميد الكليّة، وأُحيّي هذا الجمهور الكريم. ويطيب لي اللقاء معكم حول موضوع “القانون والعدالة” – Droit et Justice. فأتناوله بأربع نقاط: الإنسان كأساسٍ للقانون والعدالة، مفهومُهما، أجوبةٌ على تساؤلات، وأخيرًا ما تحتاج إليه العدالة لكي تكون كاملة.
I – الإنسان أساسُ القانون والعدالة
1. لكي نتكلّم عن القانون والعدالة، وكلاهما يتعلّقان بالشخص البشري، ينبغي الانطلاقُ من السؤال الأساسي: “ما هو الإنسان“؟
الإنسان كائنٌ ذو علاقات، كائنٌ إجتماعيّ. وهو في علاقةٍ دائمة مع العالم الذي يحوط به، ومع غيره من الأشخاص. أنْ يكونَ في علاقةٍ مع الآخر، فهذا من صميم طبيعة الكائن البشري. من هنا كان المبدأ:
“حيث الإنسانُ هناك المجتمع – Ubi homo ibi societas.
من ضمن هذه العلاقة، لكلِّ شخصٍ في المجتمع خياراتُه المختصّة بأموالٍ وقيَمٍ وحقوق، ينبغي احترامُها بين شخصٍ وآخر. ولكن في ممارسة حرية الخيارات يمكن أن يضع واحدٌ ذاتَه في علاقةٍ سلبيةٍ مع غيره، عندما لا يحترمُ حقوقَه الشخصية. فكان من الضرورة وجودُ قانونٍ وسلطة يمنعان حصولَ هذه العلاقةِ السلبية، من تسلّطٍ واعتداءٍ وانتهاك. فكان المبدأ الثاني:
“حيث المجتمع هناك القانون – Ubi societas ibi ius،
وبالتالي: “حيث الإنسان هناك القانون – Ubi homo ibi ius.
II – مفهوم القانون والعدالة
2. القانون (La Loi) يضمنُ الإطارَ الذي يحفظُ أموالَ الشخص وقيمَه وحقوقَه، ويضمنُ احترامَها في خيارات الآخر. وعندما يحصل اعتداءٌ على شخصٍ في أمواله وقيمه وحقوقه أو مخالفةٍ للقانون، تأتي العدالةُ (Justice) لتطبّقَ القانون، وتزيلَ الاعتداءَ والمخالفة. العدالةُ هي قولُ القانون في هذه الحالة على لسان قاضٍ
(Juge – iudex=ius dicere).
القاضي هو الذي يقول العدالة، مطبّقًا القانون على الحالة المطروحة. فكان المبدأُ الثالث المكمّل للمبدأين الأوّلَين:
“حيث المجتمع هناك العدالة – Ubi societas ibi iustitia.
العدالة هي احترامُ النظام العام الشامل للجميع، فتُسمّى العدالة الاجتماعية التي تحفظ مكوّنات المجتمع في نظامه الخاص بإعطاء كلِّ واحدٍ ما هو له.
3. حدّد رجلُ القانون الشهير أولبيانوس (من القرن الثاني والثالث بعد المسيح) العدالةَ بأنّها “الإرداةُ الثابتة والدائمة لإعطاء كل واحدٍ حقّه”. هذا “حقُّه – Son droit، هو مضمونُ العدالة بوجوهها الثلاثة:
العدالة التوزيعية ((J. distributive هي التي تُعطي كلَّ واحدٍ ما هو له أو يُصيبُه، وتوفّرُها الدولةُ لكلِّ المواطنين.
العدالة التبادلية أو التعاوضية (J. commutative) هي التي تُعطي كلَّ واحدٍ ما هو له بالتبادلِ والتعاوض، ويوفّرُها المواطنون بعضُهم لبعض في علاقاتهم المتبادِلة.
العدالةُ الشرعية (J. légale) هي التي يوفّرُها المواطنون للدولة بحفظِ شرائعها.
4. لفظة Droit تعني، من جهة، الحقَّ والحقوق، ومن جهة أخرى، القانونَ أو الشرع الذي يتكوَّن من مجموعة شرائع أو قوانين تُعلنُ الحقوقَ وتنظمُها. فنقول: الشّرعَ أو الحقَّ الكنسي، والحقَّ القانوني، والشّرعَ المدني أو الحقوقَ المدنية. ونقول: الحقَّ الإلهي لنَعنيَ الشريعةَ الإلهيةَ الموحاة، والحقَّ الطبيعيَّ، والشرائعَ المكتوبةَ من الخالق في طبيعة الإنسان. ونقول أيضًا: الشّرعَ العام الذي يطالُ جميعَ مكوِّنات الدولة أو الجماعات الكنسية، والشّرعَ الخاص الذي يختصّ بفئة أو بجماعة معيّنة.
العدالةُ تحمي الحقوقَ الشخصية بواسطة تطبيق القوانين والشرائع. هذه الحقوقُ الشخصيّة نطالب بها لدى العدالةِ في المحاكم، حيث يعلن القاضي العدلَ في حكمه وقرارِه. وكذلك الخيرُ العام، مثلُ الحقوقِ الشخصيّة، يُعلنُه القانونُ، وتضمنُه العدالةُ وتُحافظ عليه إذا انتُهك. ذلك أنَّ مِنَ الخيرِ العام يتوفّر خيرُ كلِّ إنسان وخيرِ الجميع.
III– تساؤلات وأجوبة
5. أين يختلف القانون عن العدالة وأين يلتقيان؟ وهل يختلطان؟
يختلف القانونُ عن العدالة في المعنى: فالقانونُ يُعلنُ الحقوقَ الشخصيّة والعامة وينظمُها، أمّا العدالةُ فتضمنُها في الممارسة وتحميها عند انتهاكها. وُجد القاضي ووُجدت المحكمة لهذه الغاية. على هذا المستوى ليس القانونُ والعدالةُ مرادِفَين.
ويلتقيان في المواصفات. نقول: قانونًا عادلاً و قانونًا ظالمًا وفقًا لمقياسٍ واحدٍ هو كرامةُ الإنسان وخيرُه بكلِّ أبعادِه الروحية والاقتصادية والإنسانية والإنمائية، وخيرُ المجتمع، ووفقًا لمقياس الحريات العامة وحقوقِ الإنسان الأساسية. على هذا الصعيد تكون العدالةُ صفةَ القانونِ أو الشريعة.
ويختلط القانونُ بالعدالة عندما يدعو القانونُ أو الشريعةُ الناسَ للتصرّف لشكلٍ عادلٍ ومستقيم.
6. هل احترام الشريعة أو القانون كافٍ لتأمين العدالة وتحقيق عالم عادل؟
تُقاسُ العدالةُ والعالمُ العادلُ بمقياسِ الشخص البشري لا بمقياس القانون الذي قد يكون ظالمًا عندما لا يحترمُ كرامةَ الشخص أو حقوقَه الأساسية أو حرياته. فكرامةُ الإنسان تأتي من كونه مخلوقًا على صورة الله ومثاله (تك1: 26). على أساس هذه العلاقة مع الله، تتحدَّدُ علاقةُ الشخص بالخلق الذي أخضعَه اللهُ له وجعلَه في عُهدته، وسلّطَه عليه (تك1: 28؛ 1: 15)، وعلاقتُه بأمثالِه من الناس (راجع تك2: 22-24). ومن هذا القبيل، الإنسانُ الذي هو مِنَ الخلق ويعيشُ في المكان والزمان، إنّما يسمو أيضًا على الخلق. فهو محورُ القانون والعدالة، وهما في خدمته لا في خدمةِ حرف القانون، وإلاّ كانت العدالةُ ظلمًا، حسب المقولة القانونية:
“منتهى العدالة، منتهى الظلم – Summum ius summa iniuria“.
لذلك نجيبُ على السؤال بالنفي: أي لا يكفي احترامُ الشريعة لتأمين العدالة ولتحقيق عالمٍ عادل. فعندما تُنتهِكُ الشريعةُ كرامةَ الشخص البشري وحقوقَه وحرياته وخيرَه الروحيّ والمعنويّ والماديّ، وعندما تتقيّدُ ممارسةُ العدالة بالحرفِ لا بالروح نقول: لا يمكنُ الاكتفاءُ بالشريعة لتأمين العدالة، “فالحرفُ يقتل أما الروحُ فيُحيي”(1كور3: 6).
IV– حاجة العدالة لكي تكونَ كاملة
7. تحتاج العدالة، لكي تكون كاملة، ولا ظلمَ فيها، إلى إنصافٍ ومحبةٍ ورحمة.
تحتاجُ إلى الإنصاف. هذا لا نجده في القانون المدني، بل في الكنسي. الإنصاف القانونيُّ يقتضي اللجوءَ إلى عدالةٍ أعلى من العدالة الوضعية، هي العدالةُ الإلهية التي تُعبِّرُ عن محبةِ الله وتقودُ إليها، وتهدفُ إلى الخلاص الأبدي، فتسعى إلى شفاء الإنسان وتربيتِه، بدلاً من معاقبتِه. في الإنصاف القانوني تظهرُ الميزةُ الراعويةُ في الشرع الكنسي، وتشكّلُ علامتَه الفارقة. بهذا المعنى يُختصرُ الحقُّ القانونيّ الكنسيّ بقانونٍ واحد يقول:
“الشريعةُ العُليا خلاص النفوس – Salus animarum suprema lex“.
نكون منصفين، أي عادلين عندما لا نتقيّد بحرف الشريعة، بل بروحها. الحكمُ بإنصاف هو بذلُ الجهد من أجل تصحيح ما تنطوي عليه الشريعةُ، في شموليتِها، من إشكالية. بحيث إنها لا تستطيع أن تستبقَ دائمًا إحتمالَ حدوثِ أوضاعٍ خاصّة لدى الخاضعين لها. يقول Pascal: “إذا كانت العدالةُ الدقيقة تقتضي “روح علم الهندسة”(géometire)، فالإنصافُ يقتضي “روحَ النعومة”(finesse)؛ وقيل أيضًا: “العدلُ والانصاف أمرٌ واحد. ولئن كان الاثنان مرغوبَين، فالإنصافُ أفضل”.
8. وتحتاجُ العدالةُ إلى المحبة. العدالةُ فضيلة إنسانية، إلى جانب الفطنة والشجاعة والاعتدال، أمّا المحبةُ ففضيلةٌ إلهية مثلُ الإيمانِ والرجاء، بمعنى أنها تعبيرٌ إلهي فينا. “فاللهُ محبة”(1يو4: 16)، وخلقنا على صورتِه، وسكبَ محبتَه فينا بالروح القدس. المحبةُ شريعةٌ إلهية أساسية في الكتب المقدسة (أح 19: 18)، ووصيةُ المسيح الكبرى (يو 15: 12). المحبةُ كمالُ الإنسان.
صحيح أن العدالةَ فضيلةٌ إنسانيةٌ تُعطي كلَّ واحدٍ حقّه، ولكن ثمّة حالات تتجاوز المحبةُ فيها العدالةَ عندما تتقيّدُ هذه بالحرف. لنا أمثلةٌ عديدة في الإنجيل. نذكر منها مَثَلَ الأب الذي له ولدان، عندما رجعَ الابنُ الأصغر إلى البيت من ضياعه، استقبله أبوه بحبٍّ شديد، مُعتبرًا أنّه “كان ميتًا فعاش، وضالاًّ فوجد”. أما أخوه الأكبر، الذي حافظ على طاعةِ أبيه والعيشِ معه تحت جناحَيه ولم يخالف له أمرًا، فتمسّك بالعدالة ورفضَ المشاركة في فرح العائلة وفي استقبال شقيقِه العائد من ضياعه (راجع لو 15: 11-32).
المحبةُ أقوى من الخطيئة، وأقوى من حرف العدالة والقانون.
ونذكر مَثَلَ الفعلة الذين أرسلهم سيّدُ الكرم للعمل في كرمه في ساعاتٍ متفاوتة من النهار (راجع متى 20: 1-16). إقتضت العدالةُ أن يدفعَ السيِّدُ لفعلةِ الساعةِ الأولى ما اتّفق عليه معهم، أي دينارًا. لكنْ محبّتُه دفعتْهُ ليدفعَ أيضًا دينارًا لفعلة الساعة الأخيرة الذين لم يتّفق عليه معهم. ذلك “لأنه صالح”(متى20: 16)، أي محبّ. فاعترض فعلةُ الساعةِ الأولى لأنّهم تمسّكوا بعدالتهم. أمّا الربّ فوبّخهم على عدم محبّتهم لأنّ “عينَهم شريرة”.
في تعليم الكنسية الاجتماعي، المحبةُ هي ديناميةُ العدالة: تحرّكُها وتجعلها تضامنًا مع المحتاج والفقير والمحرومِ من خيرات الدنيا. محبّةُ الإنسان، وبخاصةٍ المحتاج، ترى فيه وجهَ المسيح، فتندفعُ إلى تعزيز العدالة. المحبةُ تستحثُ العدالةَ لتؤمّنَ لكلِّ واحدٍ، ولاسيما للفقير، حقَّه من خيرات الأرض المُعدّة من اللهِ لجميع الناس. ينطوي الفقرُ على أشكالٍ كثيرة: إقتصادية وثقافية ودينية. ويدخلُ في فئة الفقراءِ الأشخاصُ المهمّشون والمسنّون والمرضى وضحايا الإستهلاكية واللاجئون والمُهاجرون والمهَجّرون (السنة المئة، 57 و58).
9. وتحتاجُ العدالةُ أخيرًا إلى الرحمة التي هي طريقةٌ خاصّة تتجلّى بها المحبة. في سرّ الصليب كان اللقاءُ المُذهل بين العدالةِ الإلهيةالتي اقتضت موتَ ابن الله المتجسّد تكفيرًا عن خطايا البشر، والرحمةِ التي افتدتهم بموتِ الابن الوحيد وغسلت خطاياهم بغفران دمه. فكانت “الرحمةُ قُبلةً طبعتها على جبين العدالة”(مز 85(84)، 11).
العدالةُ بحدّ ذاتها تتبع قاعدةَ “العَينُ بالعين والسِّنُ بالسن”(متى5: 38)، أما الرحمة فتلطّفُها وتدعوها لتُبَادِل الشرَّ بالخير(روم 12: 17).
العدالةُ تتبعُ قاعدة “أحببْ قريبَك وأبغضْ عدوّك”(متى 5: 43)، أما الرحمةُ فتقول: “أحبّوا أعداءكم، وأحسنوا إلى مَن يبغضكم…لكي تكونوا كاملين مثل أبيكم السماوي”(متى 5: 44 و 48).
بين الرحمةِ والعدالة رباطٌ عميق. “إذا كانتِ العدالةُ تقوم بدور الحَكَمِ بين الناس في توزيعِ الخيور المادّيّة في ما بينهم بطريقةٍ متوازنة، فإنّ الرحمةَ تستطيعُ وحدَها أن تُعيدَ الإنسانَ إلى نفسه. إذن، هي أكملُ تجسيدٍ “للمساواة” بين الناس، وبالتالي أكملُ تجسيدٍ للعدالة. المساواةُ التي تَقرُّها العدالة تنحصرُ في حدودِ الخيورِ المادية الخارجية، فيما الرحمةُ تحمِلُ الناسَ على التلاقي على هذا الخيرِ الذي هو الإنسان… وهكذا تُصبحُ الرحمةُ عنصرًا لا غنى عنه لإنشاء العلاقات المشتركة بين الناس، بروحِ الاحترامِ العميق لكل ما هو إنسانيّ وللأخوّة المتبادلة”(البابا يوحنا بولس الثاني، في الرحمة الإلهية، 14).
بالعودةِ إلى المَثَلَين الإنجيليَّين، في مثل الابن الضال، نرى كيف أنّ رحمةَ الأب تطبعُ قُبلةً على جبين عدالةِ الابن الأكبر. وفي مثل فعلةِ الكرم، محبةُ سيِّدِ الكرم تطبعُ قبلةً على جبين عدالة فعلةِ الساعة الأولى. هي الرحمةُ أقوى من الإساءة، لأنّ عند الرحمةِ الحياةَ أفضلُ من الموت، والتوبةَ أفضلُ من البقاءِ في حالةِ الخطيئة. العدالةُ تُعاقبُ، أمّا الرحمةُ فتشفي وتُصلح. وهي الرحمةُ أقوى من العدالة، لأنّها تتجاوزُها لتعطي المحتاجَ مثلَ غيره.
9. ما أحوجَ مجتمعَنا إلى عدالةٍ مُنزَّهة من التسييس والرشوةِ والتمييع! وما أحوجَ العدالةَ إلى إنصافٍ ومحبةٍ ورحمة. نأملُ أن يكون يوبيلُ الخمس والعشرين سنة لتأسيس كلية الحقوق في جامعة الروح القدس – الكسليك قبلةً في جبين هذا النوع من العدالةِ الذي تعزّزه تثقيفًا وتربيةً.
*********
(*) كلمة الكردينال البطريرك مار بشاره بطرس الراعي فــي اليوبيــل الفضّــي لكليّـــة الحقــــوق جامعة الروح القدس – الكسليك