أرى فيكم اليوم، لبنةً أساسيةً في مداميك بناء لبنان كمركزٍ لحوار الحضارات والثقافات، وهو مسارٌ اخترت السير فيه منذ تسلمي مسؤولياتي، إيماناً مني بأن الكيان اللبناني، إنما يقوم في الأساس على فلسفة الحوار والوفاق والعيش المشترك. لقد عبّرت من على منبر الجمعية العمومية للأمم المتحدة في أيلول العام 2008، عن طموح لبنان لأن يصبح مركزاً دولياً لإدارة حوار الحضارات والثقافات، بما يتناسب مع دوره كجسر تواصل بين الشرق والغرب، وانطلاقاً من ميزاته الفريدة، وتنوعّه الغني، وتجربته المتجذرة في التوفيق بين الوحدة والتعدد، والمعاصرة والأصالة، وخصوصية الانتماء والمواطنة.
أدعوكم اليوم، ولمناسبة هذه الانطلاقة الجديدة، إلى أن تضعوا نصب عيونكم رؤيةً استراتيجية لمهمتكم، ترتبط بصورة لبنان المتميز والطليعي، في كل ما يتعلق بقضايا الإنسان.
أدعوكم إلى أن تستفيدوا من تعاونكم مع الاتحاد الفلسفي العربي، ومن الرعاية المشكورة لمنظمة الاونيسكو، وما توفره من أفقٍ واسعٍ، يربطكم بشبكةِ تواصلٍ عالمية، مع سائر المراكز الحضارية والفكرية، المهتمة بقضايا الإنسان، بهدف ضمان التنمية المستدامة للجماعات البشرية، وبهدف تعميم قيم التسامح والعدالة.
لقد دأبت منظمة الاونيسكو، على تعميق علاقات الثقة والانفتاح بين الشعوب، عبر رعايتها مجموعة واسعة من النشاطات الفريدة، في المجالات الثقافية والتربوية والإعلامية.
أيها السادة،
انطلاقاً من هذه الرؤية للبنان ولموقعه في محيطه وعلى خريطة العالم، وتأسيساً على هذه المبادئ والقيم الإنسانية، وضعنا منذ البداية، مجموعة أهداف استراتيجية، كان في مقدمها تعميم نهج التلاقي والحوار، وتطوير ممارستنا الديموقراطية، حتى تصبح أكثر عدالةً وتمثيلاً.
وهذا الحوار إذا كان صادقاً وصريحاً، يوصل بالتأكيد إلى مشتركات هي في ذاتها حقيقة تنبع من المعتقدات والتقاليد والحضارات.
إنها مشتركات تجمع المكونات المتنوعة للشعب، حول مفاهيم وطنية تتعلق بالسيادة، تتعلق بالحرية، تتعلق بتحديد المخاطر والأعداء والأصدقاء، وتتعلق بالعلاقات الدولية، ولا يجوز أن نفسد في علاقاتنا التاريخية مع دولة عزيزة، وشعبها، وهنا أعني المملكة العربية السعودية من طريق توجيه التهم إليها جزافاً من دون أي سند قضائي أو حقيقي أو ملموس، أو عبر التدخل في أزمات دولة أخرى وأعني سوريا، لمناصرة فريق ضد آخر، وهذا التدخل من أي طرف أتى هو أيضاً مدان وكل هذا يجري للأسف وعدونا ينتظر ويحقق أهدافه الهدف تلو الآخر، واليوم حقق هدفاً من أهدافه. فلنعتبر ماذا نفعل في وطننا في هذه الايام. هذه الأهداف تتعلق كذلك بتحديد وجهة السلاح وكيفية الإفادة من القدرات الوطنية للدفاع عن السيادة والأرض، وأبرزها طاقات الشباب ومعاني التضحية والاستشهاد.
أما في موضوع تطوير الممارسة الديموقراطية، فقد تحدّثت الورقة الخلفية لمؤتمركم، عن حيزٍ واسعٍ تشغله الديموقراطية في مجالات الفكر السياسي والاجتماعي، وعن فكرة الديموقراطية التي لا تزال تنمو وترتقي، بالتلاؤم مع المجتمعات المختلفة وظروفها. ولقد ثبُت بالفعل، أن الديموقراطية المستندة إلى مبدأ الأكثرية العددية، بحاجة إلى تحديث، يجعل منها أكثر تمثيلاً وعدالةً، وأكثر إنسانية. ديموقراطية تتناسب مع مقتضيات العولمة والانفتاح، الناتج عن حجم التطور العلمي، الذي شهدته وسائل التواصل، وعن سهولة انتقال الاشخاص واندماجهم في مجتمعات جديدة، مغايرة لتلك التي نشأوا وتعلموا فيها.
لقد غدت المدن الكبرى حول العالم، تجمعات بشرية متعددة الثقافات والحضارات، وهذا التنوع يتمدد بسرعة إلى مناطق اوسع على مساحة الكرة الأرضية، فضلاً عن تلك المجتمعات التي عرفت التنوّع منذ نشأتها مثل لبنان.
ولا بد تالياً من قيام ديموقراطية جديدة، تتناسب مع هذا التنوّع والعولمة، اللذين أصبحا حقيقة قائمة وواقعاً ملموساً، وتسمح بإشراك كافة المكونات في الحياة السياسيّة، وفي إدارة الشأن العام، بالنظر إلى قدراتها الحضارية، وليس نظراً لحجمها العددي. هذه الديموقراطية الجديدة تعزز فكرة المواطنة والتنوّع من ضمن الوحدة، وصولاً إلى الدولة المدنية، الضامنة لحقوق المواطنين من دون تمايز أو تفضيل، ومن دون أن تكون نسخة واحدة جامدة تنسحب على كافة المجتمعات.
وفي عالم اليوم أصبح العديد من الدول يدير مبدأ “التنوّع من ضمن الوحدة”، كمقاربة تتوافق مع المعادلات الجديدة، التي فرضها عالم الاتصالات وسهولة التواصل والانتقال. وهذه المقاربة، يعزّزها اعتماد مبدأ النسبيّة في القوانين الانتخابيّة، كما تعزّزها اللامركزيّة الإداريّة، لما تساهم بتحقيقه من تنمية مناطقيّة متوازنة ومستدامة. كذلك فإن التنوع ضمن الوحدة يحول دون ذوبان الدول الصغيرة في دنيا العولمة ، كما يجنبها في الوقت نفسه التقوقع والإنعزال.
أيها الاعزّاء،
إنّ استقرار الدول وهناء شعوبها، يتوقّف إلى حدّ كبير، على طبيعة العقد الاجتماعي، الذي قد تعتمده المكوّنات المختلفة، لهذه الشعوب ، ويتوقّف كذلك، على مدى توصّلهم إلى فهم مشترك لمفردات هذا العقد ومصطلحاته، حتى إذا ما تمّ ذلك، أمكن القول، إنّ هذا التوافق فعليّ وقائم، لأنّه مبنيّ على الحوار والمعرفة، أيّ على الحقيقة، وهو تالياً ملزم بامتياز للأفراد والمجموعات، ويؤسّس لممارسة ديموقراطيّة سليمة، ولانتظام في عمل المؤسسات.
هذه المعادلة، تصلح في أيّ مجتمع من المجتمعات، كما تنطبق على لبنان، الذي توافق أبناؤه منذ العام 1943، على ميثاق وطنيّ جامع، إلا أنّهم لم يتعمّقوا ربما في مفاهيمه، ولم يلتزموا دوماً بمندرجات هذا الميثاق وروحه، حتى إذا ما ابتعدوا عنه، كما حصل مراراً في تاريخهم المضطرب، وقعوا في شرك الفتنة والتقاتل والاحتراب.
تطرح هذه الإشكاليّة، مسألة البحث من جهة، عن كيفيّة بناء الدولة، التي هي عنصر أساسي لقيام الأوطان، وللمحافظة على الاستقلال، على ما ذهب إليه وطالب به الرئيس الراحل اللواء فؤاد شهاب، عندما دعا الى بناء “دولة الاستقلال”. إلا أنّ الواقع الاجتماعي المؤسف، الذي بات مطبوعاً بالطائفيّة والمذهبيّة، وروح التبعيّة والارتهان، ومشوباً بالفساد والمحسوبيّة، وسوء الممارسة الديموقراطيّة، يفرض علينا جميعاً، العمل بشكل ممنهج وحثيث، لبناء “مجتمع الاستقلال”، أيّ مجتمع المعرفة والثقافة، والفكر المستنير والعدالة، والحوار المبني على الحقيقة، والحريّة وحقوق الإنسان. ذلك أنّه يصعب بناء الدولة، إذا لم نسعَ بصورة موازية، لبناء قدرات الإنسان الثقافيّة والفكريّة والخلقيّة.
إنّ للقطاع الخاص، ولاسيما منه المؤسسات التربويّة ووسائل الإعلام، والاتحادات الفلسفيّة كاتحادكم، وللمجتمع المدني، والقوى الحيّة بشكل عام، إلى جانب المؤسسات الرسميّة والوزارات المعنيّة، دوراً أساسيّاً في بناء هذا المجتمع الجديد.
أيها السادة المشاركون،
لقد جئتم، مندفعين من مناطق ودول متعدّدة، لكي تتفاعلوا فيما بينكم، ومع أترابكم من لبنان، وتتبادلوا تجاربكم، وخبراتكم، وواسع علومكم. فلطالما حمل العلماء والمفكرون مشاعل المعرفة والنور، وساهموا فعلياً بتكوين الحضارات والثقافات. أما وقد اخترتم لمؤتمركم عنوان “الحوار، الحقيقة، والديموقراطية”، فإنني أرى أن مهمتكم سوف تكون شاقة ومحفّزة على السواء، حيث سيكون عليكم معالجة مجموعةٍ من الإشكاليات البحثية، المطروحة بقوة على بساط البحث والتشريح، على امتداد الوطن العربي، وفي العالم، كما عندنا في لبنان. أنا على ثقة بكفاءتكم وقدرتكم وقدرة المسؤولين عن هذا المركز، من رئيس مجلس الإدارة، إلى رئيس المركز والمجلس التنفيذي، على الخروج بتوصياتٍ ومقترحاتٍ علميةٍ رفيعة، وأتوّقع أن تتضمن استراتيجياتٍ قابلة للتطبيق، يمكن وضعها بتصرف صانعي القرار وأصحاب الحل والربط، لعلهم يجدون فيها فائدةً مرجوة، تخدم أجيال الغد وشباب لبنان، وقيمة مضافة في مجالات العلوم الإنسانية، ويكون عملكم وجهدكم في خدمة لبنان وشعب لبنان.
عشتم، عاش لبنان.
********
كلمة ألقيت في افتتاح مؤتمر “الحوار الحقيقة والديموقراطية” الذي نظمه المركز الدولي لعلوم الإنسان –بيبلوس وحضره رئيس الحكومة المكلّف تمام سلام، ووزراء ونواب وشخصيات ثقافية وسياسية وإعلامية لبنانية وعالمية.
في ختام الحفل قدم ليون ورئيس المركز الدكتور أدونيس العكرة درعاً تذكارية للرئيس سليمان الذي جال في أرجاء المركز. ودون الرئيس سليمان في السجل الذهبي للمركز الكلمة التالية: “لقد تماهت بيبلوس مع تاريخ الإنسان وفكره، في لبنان والعالم، هي المبدعة الحرف لغة تخاطب حضاري ورسالة سلام، فارتفعت ابداً شاهدة للعلم والحقيقة والحياة. اليوم من المركز الدولي لحقوق الإنسان فيها، ولمناسبة مؤتمر الحوار، الحقيقة والديموقراطية” نحيي جهود القيّمين على هذا الصرح، ليبقى من ابهى صور لبنان، وطن مساحتات التلاقي وآفاق العيش الإنساني معاً. ففي ذلك غتقان التحدي لرسالة لبنان وهويته وخدمة القدوة التي وحدها مرادف دعوته التاريخية.
كلام الصور
1- الرئيس سليمات يتوسط المشاركين في المؤتمر
2- الرئيس سليمان يلقي كلمته
3- الوزير غابي ليون والدكتور أدونيس العكرة يقدمان درعاً تذكارية للرئيس سليمان
4- الرئيس سليمان يدوّن كلمة في السجل الذهبي للمؤتمر
5- الرئيس سليمان يجول في المركز الدولي لعلوم الإنسان