سلاح القلم المستغانمي في عيون نظرية الرموز الثقافية (*)

بقلم: د. محمود الذوادي(*)

 في مقابلة أخيرة لها، قالت الروائية الجزائرية الشهيرة أحلام مستغانمي: ”أنا مثل قائد جيش. عندما ترفع سلاحاً أنت جندي، وعندما ترفع قلماً أنت جيش عتاده عدد logo fikrقرائك”. نودّ وضع مقولة أحلام مستغانمي في ميزان نظريتنا للرموز الثقافية لنكتشف مدى صدقية ما جاء على لسانها. ونحن نفعل ذلك كما سبق أن استعملنا نظريتنا هذه في تحليل قول آخر مشابه يعلن في كلمات قليلة:”يرحل الكبار ولا يرحلون”.

ففي القولين، ثمة إشارة واضحة لأهمية القلم كسلاح لغوي يكتب به الإنسان أفكاره، فينتج ثقافة تجعله جيشاً بين قرائه، الذين يعيشون معه، أو تؤهله لشيء من الخلود عبر العصور بعد مغادرته الحياة. فالحالتان تشيران بكلّ شفافية إلى الأهمية المركزية القصوى لرصيد الثقافة في هوية الإنسان في الحياة وبعد الممات. وبعبارة أخرى، فأهمّ ما في كينونة الإنسان هو الرصيد الثقافي، الذي يتميز به عن باقي الكائنات على وجه الأرض، ويعطيه السيادة عليها، على الرغم من ضخامة أجسادها مقارنة بجسمه. ويعني الرصيد الثقافي عندنا هو ما نسمّيه منظومة الرموز الثقافية، أو البعد الثالث في الإنسان ( الجسد، الروح، الرموز الثقافية): اللغة والفكر والدين والمعرفة/العلم والأساطير والقوانين والقيم والأعراف الثقافية. وهكذا يجوز للكائن البشري أن يقول: أستعمل رموزاً ثقافية، إذن فأنا إنسان. وهي مقولة تختلف عن مقولة للفيلسوف الفرنسي الشهير رينيه ديكارت. “أفكر، إذن فأنا موجود”.

 معالم تميّز الجنس البشري

 تستند مقولتنا حول السلاح الثقافي بتعبير الروائية الجزائرية (الإنسان كائن ثقافي بالطبع) إلى ملاحظات فكرية وبحثية شخصية مستحدثة حول خمسة معالم ينفرد بها الجنس البشري عن غيره من عالم الحيوانات، مثلاً:

 1. يتصف النموّ الجسمي (البيولوجي الفيزيولوجي) لأفراد الجنس البشري ببطء شديد، مقارنة بسرعة النمو الجسدي، الذي نجده عند بقية الحيوانات.

2. يتمتع أفراد الجنس البشري بأمد حياة (سن) أطول من عمر معظم الحيوانات.

3. ينفرد الجنس البشري بلعب دور السيادة / الخلافة في هذا العالم، من دون منافسة جدية له من طرف الأجناس الأخرى كلّها.

4. يتميّز الجنس البشري بطريقة فاصلة وحاسمة عن الأجناس الأخرى بمنظومة الرموز الثقافية المذكورة سابقاً.

5. يختصّ أفراد الجنس البشري بهوية مزدوجة تتكوّن من الجانب الجسدي/البيولوجي الفيزيولوجي، من ناحية، والجانب الرموزي الثقافي المشار إليه آنفاً من ناحية ثانية.

 والسؤال المشروع في هذا الصدد هو أولاً: هل من علاقة بين تلك المعالم الخمسة التي يتميّز بها الإنسان؟ وثانياً: هل إن منظومة الرموز الثقافية تؤثر تأثيراً حاسماً في المعالم الأربعة الأخرى؟

 ثمة علاقة مباشرة بين المعلمين1 و2. إذ إن النموّ الجسمي البطيء لدى أفراد الجنس البشري، يؤدي بالضرورة إلى حاجتهم إلى معدل سنّ أطول يمكنهم من تحقيق مراحل النموّ والنضج المختلفة والمتعددة والمعقدة المستويات. أما الهوية المزدوجة التي يتصف بها الإنسان، فإنها أيضاً ذات علاقة مباشرة بالعنصر الجسدي (المعلم 1) للإنسان، من جهة، والعنصر الرموزي الثقافي (المعلم 4)، من جهة أخرى.

 أما سيادة الجنس البشري على وجه الأرض، فهي ذات علاقة قوية ومباشرة بالمعلميْن 5 و 4 : الهوية المزدوجة والرموز الثقافية. والعنصر المشترك بين هذين المعلميْن، هو منظومة الرموز الثقافية /البعد الثالث. وهكذا يتجلّى الدور المركزي والحاسم لمنظومة الرموز الثقافية في تمكين الإنسان وحده من السيادة / الخلافة على وجه الكرة الأرضية. وبتعبير مستغانمي، فرفع الإنسان لسلاح منظومة الرموز الثقافية، جعلت باقي الكائنات تستسلم له.

 مقدرة مقولتنا على التفسير

 إن الرموز الثقافية تسمح بتفسير المعلمين 1 و 2. فالنموّ الجسماني البطيء عند الإنسان، يمكن إرجاعه إلى أن عملية النموّ الشاملة عنده تشمل جبهتين : الجبهة الجسمانية والجبهة الرموزية الثقافية. وهذا خلافاً للنموّ الجسدي السريع عند الكائنات الأخرى، بسبب فقدانها لمنظومة الرموز الثقافية بمعناها البشري الواسع والمعقد. وهذا يعني أن نموّ الكائن البشري على مستويين، يؤدي بالضرورة إلى بطء عملية النموّ ككل عنده: أي على الجبهتين. وبعبارة أخرى، فانصراف جهود عملية النموّ عند الإنسان إلى جبهتين لا جبهة واحدة، يعطل سرعة النموّ على الجبهتين عند الإنسان: أي إلى بطء في النموّ الجسدي، وبطء في النموّ الرموزي الثقافي.Ahlemmostaghannemi

 فالمعالم 1 ، 2 ، 3 ، 5 المميزة للإنسان هي حصيلة لمركزية الرموز الثقافية في هوية الإنسان. ومن هنا تأتي مشروعية استعمال الرموز الثقافية لبناء نظرية لفهم وتفسير طبيعة الإنسان وسلوكيات الناس وشؤون مجتمعاتهم.

 إن مركزية الرموز الثقافية في هوية الإنسان، أدت عندنا إلى بروز مفهوم جديد نسميه البيولوجيا الرموزية الثقافية CS Biology، أي إن الرموز الثقافية تؤثر حتى في هندسة جسد الإنسان، من حيث بطء نموه، وطول أمد حياته. إنه مفهوم معاكس لمفهوم السوسيوبيولوجياSociobiology الذي يرى أنه يمكن تفسير الكثير من السلوكيات الاجتماعية والثقافية البشرية، )انطلاقاً من معطيات بيولوجيا الإنسان) Wilson, Sociobiology: The New Synthesis, 1975. وهكذا يتقارب مفهوم سلاح القلم لمستغانمي مع مقولة نظريتنا للرموز الثقافية في التأكيد على ريادة أهمية الجوانب الثقافية في هوية الإنسان على غيرها من الجوانب عنده.

 اللغة ونشأة الثقافة في المجتمع البشري

 عند التساؤل عن أهمّ عنصر في منظومة الرموز الثقافية، يقف وراء ميلاد هذه المنظومة المميّزة للجنس البشري، فإن اللغة البشرية المنطوقة والمكتوبة، تكون هي وحدها المؤهلة لبروز منظومة الرموز الثقافية. فلا يمكن تخيّل وجود باقي عناصر الرموز الثقافية كالدين والعلم والفكر، من دون حضور اللغة البشرية المنطوقة على الأقل. ومن ثم جاءت مشروعية اعتبارنا أن اللغة هي أم الرموز الثقافية جميعاً. ونظراً لمركزية اللغة المنطوقة والمكتوبة في نشأة منظومة الرموز الثقافية أو الثقافة، فإن وصف الإنسان بأنه حيوان ناطق، وهو وصف مشروع جداً، لأن أكثر ما يميّز الجنس البشري عن باقي الأجناس الأخرى ويعطيه السيادة عليها بواسطة منظومة الرموز الثقافية، هو اللغة المنطوقة والمكتوبة.

 يتبيّن أن نظريتنا للرموز الثقافية ترتكز على أن الثقافة، هي ذلك الجانب غير البيولوجي الفيزيولوجي لهوية الإنسان المزدوجة الطبيعة (الرموز الثقافية +الجسم)، وأن جانب الرموز الثقافية، هو بيت القصيد في هوية الكائن البشري. أي إن هيمنة هذا الأخير على باقي الكائنات الحيّة الأخرى، وسيادته عليها، يأتي من الجانب غير المادي في هويته المزدوجة، أي من الرموز الثقافية، وأن اللغة المنطوقة والمكتوبة هي مصدر تميّز الجنس البشري عن سواه بمنظومة الرموز الثقافة . ومن ثم، فالإنسان ليس حيواناً ناطقاً فحسب، بل إنه أيضاً كائن رموزي / ثقافي.

 التصدع الثقافي بين النخب العربية

 تسهّل منظومة الرموز الثقافية تفسير العديد من الظواهر في الوطن العربي ذات العلاقة بسلاح القلم الأخطر من سلاح الجندي الذي أشارت إليه أحلام مستغانمي. نكتفي هنا بذكر كيف أن سلاح القلم الأجنبي الاستعماري أحدث/ يحدث تصدعاً خطيراً في صلب النخب العربية المعاصر. فليس من المبالغة القول، إن هناك اليوم اختلافات في الرؤى الثقافية للنخب السياسية والثقافية المهيمنة في الوطن العربي. وتتلخص هذه الاختلافات في انقسام تلك النخب إلى صنفين رئيسين: النخب السياسية الثقافية الحمّالة للثقافة الغربية لغةً وفكراً ورؤيةً ثقافية لإدارة الشأن الخاص والعام في المجتمعات العربية. أما الفريق الثاني، فهو يتمثل في تلك النخب السياسية والثقافية العربية، التي تؤمن بمشروعية التحرر في الفكر والثقافة واللغة من وزر الاستعمار الغربي، وتأسيس مجتمعات عربية تعتمد في المقام الأول على مكوّنات هويتها اللغوية والثقافية. فتُعطى الأولوية فيها إلى العقيدة الإسلامية واللغة العربية، وثقافتهما، والرؤية الحضارية المنبثقة عنهما.

************

(*)  مؤسسة الفكر العربي- نشرة افق

(*) بروفسور في علم الاجتماع- جامعة تونس

 كلام الصورة

أحلام مستغاني

اترك رد