بقلم: د. آمال قرامي*
تثبت بعض الأدبيات التي ظهرت حول “الثورات العربية” غياب المثقفين عن مسرح الأحداث، باعتبارهم قوّة دافعة ومؤطرة للحراك، بل إن بعضهم نفى أن تكون النخب المثقفة قد اضطلعت بدور رئيس في هذا الحراك. وعليه، فإن الأوان قد آن لإعادة النظر في موقع المثقفين، وأدائهم، في مرحلة الانتقال الديمقراطي من منظور نقدي. كما لا بدّ من طرح السؤال التالي: أيّ دور للمثقّفين بعد الثورات العربية’؟
يقول الكاتب كمال علوي، في مقاله “أي دور للمثقف بعد الثورة ؟”( موقع صحيفة الصباح/ 30سبتمبر2013): “جاءت الثورات يتيمة بلا مثقفين يسهرون على التخطيط والتأطير لتحقيق التغيير المنشود، لا على صعيد تغيير الأنظمة فحسب، بل في كلّ الجوانب العلمية والأدبية والفنية التي تعيش انتكاسة منذ قرون أضحى فيها حاضر الشعوب ومستقبلها بأيدي غيرها بعدما نفض العالم يديه من كلّ ما هو عربي، يعود الحديث، اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى حول دور المثقف….فبأي صورة سيعود الابن الضال؟”.
وفي السياق نفسه تقول الكاتبة أحلام رحومة في مقالها: “أيّ دور للمثقف العربي بعد الثورات العربية؟”(المنشور في 31 أغسطس 2013، على موقع فلنكتب):”إن غياب المثقف بات واضحاً في المشهد العربي: تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، لأنّه نسي رسالته الإنسانية، وربط نفسه بالأنظمة الديكتاتورية، التي رحلت وسترحل، وتترك له تركة ثقيلة، ووزر الدماء التي أراقتها تلك الأنظمة، في ظلّ تأييده لها طيلة سنوات حكمها”.
بعيداً من هذه الخطابات، وحالة التكلس التي تصيب البعض، نعتقد أنه آن الأوان لإعادة النظر في موقع المثقفين وأدائهم في مرحلة الانتقال الديمقراطي من منظور نقدي يسمح بتفعيل دور المثقفين، ولاسيّما بعد بروز علامات النكوص ومأسسة الجهل، واللاعقلانيات، وانتشار الفكر الخرافي، وغيرها من الظواهر التي تتطلّب نقلة معرفية قادرة على تثوير العقليات. فأي دور للمثقّفين بعد “الثورات العربيّة”؟
التحلّي بأخلاق الاعتراف: هل قصّرنا؟
سؤال واجهه عدد من المثقّفين، وقلّة منهم خاضت مغامرة “المحاسبة”، وقبلت أن تقرّ بمواطن التقصير، وأن تغيّر أسس التصور وآليات الفهم. أما الفئة الغالبة فقد أرجأت التفكير في هذه المسألة إلى حين استكمال المسار الانتقالي، مفضّلة النأي بنفسها عن”التجاذبات” السياسية الأيديولوجية، التي سيطرت على المجتمعات التي خاضت مسار الثورة، والتي خلقت مناخاً استقطابياً، اتّسم بالعنف في جميع تجلياته. وفي المقابل، فضّلت “الطائفة الطفيلية المهتمة بسفاسف الأمور” على حدّ عبارة إدوارد سعيد، التقرّب من الحكام الجدد، وتوظيف خبراتها لخدمة الأنظمة الانتقالية.
لا بدّ من الاعتراف بأنّ المثقّف، مثله مثل غيره من الفئات، عاش محنة الأسر، وكابد في سبيل التمتّع بهامشٍ من الحرية. ولئن آثر بعضهم السلامة، والانخراط في لعبة مهادنة السلطة، فإن البعض الآخر حاول المقاومة، والاضطلاع بدوره، سواء على مستوى بثّ الوعي أم انتقاد السلطة، أم تحليل الأوضاع و الدعوة إلى إصلاح البنى المهترئة؛ وهو أمر سمح بحدوث تراكمات معرفية ونضالية، شكّلت إرهاصات المسار الثوري الذي برز فيه عدد من “اللاعبين الجدد”، لعلّ أهمّهم فئة الشباب.
بيد أن “الثورات العربية” تنكّرت للأدوار التي اضطلعت بها النخب، وأرادت الانطلاق من اللحظة الثورية المفصلية باعتبارها “تجبّ” ما سبقها وتدشّن عهداً جديداً. ونجم عن هذا التوجه خلخلة المشهد الثقافي، وإرباك أداء المثقفين، إن لم نقل تهميشهم.
وفي خضم هذه التحوّلات المهمّة، كان على النخب الثقافية مواجهة التحديات الجديدة المطروحة، إن كان ذلك على مستوى المواقع، أم رؤية الذات، أو إنتاج الخطاب، أو الأداء . فقد اعترف عدد من المثقفين بأنهم كانوا يؤثرون التمركز حول ذواتهم من منطلق امتلاكهم المعرفة، والدفاع عن مواقعهم. كما أن أغلبهم كان يميل إلى الإغراق في التجريد، والإيغال في الطوباوية أو الركون إلى العالم الافتراضي، بدل الاحتكاك المباشر بالناس، ومعرفة إشكاليات الواقع المعيش. غير أن التحولات الجديدة أكّدت أن المعرفة أضحت مشتّتة، وأن الفاعلين قد تعدّدوا، وأنه ما عاد بالإمكان السيطرة على الجماهير، ومحاولة الهيمنة عليها بدعوى امتلاك القدرة على التفكير والتخطيط والتحليل. غاية ما في الأمر، أن الجميع يتفاعلون وينتجون ويبدعون.
وأقرّ عدد من المثقّفين، بأن عدوى النرجسية قد سرت في صفوف معظمهم، فتعالوا على الناس، بحكم أن المعرفة تمنح المرء إحساساً بالتفوق، وتجعله مزهوّاً بانتصاراته المعرفية؛ وهو أمر جعلهم يتجاهلون احتياجات شرائح مجتمعية عدّة، يعتبرونها في الغالب، عقبة في سبيل التقدّم. بيد أن الحراك “العربي” أثبت فقدان المثقف قوّة التأثير والنفوذ في مناخ عمّم الحق في ممارسة التأثير، ووفّر هامشاً من الحرية للجميع، فبرزت أصوات ما كان بالإمكان أن تعبّر عن مواقفها وآرائها من قبل.
ومن الانتقادات التي وجّهها عدد من المثقفين إلى ذواتهم، انجذاب النخب نحو فضاءات خاصة، توفّر لها الحماية، وافتقارها إلى حالة من التطابق بين الآراء والخطاب والمواقف والسلوك؛ وهو أمر جعل أغلب المثقّفين، لا يحظون بالاحترام، ولا يعدّون نماذج يقتدى بها.
هكذا كان على المثقّفين الابتعاد عن المنزع الدفاعي والأسلوب التبريري، وأن يبادروا للانخراط في فعل البناء، بخاصة أن الحاجة إلى المثقف الملتزم بقضايا وطنه، قد ازدادت بعد المخاطر، التي تهدّد الشعوب (كالتهميش، الإرهاب، الاحتجاجات المستمرّة، العنف..إلخ)، والتي جعلت المجتمعات المعاصرة تغدو مجتمعات “حارّة ” أي متحوّلة.
ما الدور الذي يمكن للمثقف الاضطلاع به؟
إن النظرة السائدة بشأن المثقف، ما زالت تجترّ فكرة مفادها أنه إنسان يتميّز عن باقي أفراد المجتمع بقدرته العالية على التفكير والتحليل، وإدراك علامات الوهن، والانتباه إلى التحديات التي يتعرض لها المجتمع؛ فضلاً عن قدرته على التعبير، والتأثير في الجماعة، وعن قدرته في تشكيل الرأي العام. إذ يعدّ نشر الفكر النقدي، أحد أهم الأدوار المنوطة بعهدة المثقف، سواء تعلق الأمر بالتفاعل مع السلطة السياسية أم الدينية أم الاجتماعية، وهو سؤال طرحه عدد من المثقفين منذ عقود كالطاهر لبيب، وبرهان غليون، وغالي شكري، وجورج طرابيشي، ونديم البيطار، ومحمد عابد الجابري، وعبد الإله بلقزيز، وغيرهم العشرات. بيد أن الحراك “العربي” يفرض معالجة مغايرة وفق آليات فهم جديدة.
وفق هذا الطرح، رام عدد من المثقفين الانتقال من وضع كانوا يميلون فيه إلى الارتباط بالمؤسسات حفاظاً على مواقعهم، وتجنّباً لمحاولات التشكيك، أو الانتقاد، أو سوء الفهم، إلى وضع جديد يفرض عليهم الالتحام بالجماهير، والتعبير عن الإرادة الشعبية من موقع المشاركة التفاعلية وتحمّل المسؤولية الاجتماعية، والرغبة في خدمة المصلحة العامة. ويتضح أن هؤلاء المثقفين أدركوا أن الوضع القائم أفقدهم الريادة، وجرّدهم من “حقّ” ممارسة الوصاية على الآخرين، بعدما أثبت الشبان المدوّنون، والحاضرون على الشبكات الاجتماعية التواصلية، والمحتجّون في الميادين، أنهم قادرون على ابتكار الأفكار، وتحقيق المكاسب، بالاعتماد على وسائل جديدة.
ويكمن دور المثقف الذي واكب الحراك “العربي” في إعادة بناء الحقل الثقافي، والدفع باتجاه طرح أسئلة مغايرة، واقتراح مسالك بحثيّة جديدة. ولعلّ أهمّ مشغل أثار اهتمام المثقفين، هو استقصاء مواقع الفئات التي كانت تعدّ من ضمن الأقليات، فإذا بالهوامش تتجرّأ على إعادة تعريف المركز، وخلخلة بنيانه وتصوراته. ومن هنا كان على النخب أن تتدبر ملامح الخلخلة، وأن تعيد النظر في خطاباتها، وأدوات تحليلها من منظور منفلت من قبضة النظام الثنائي المتضاد: الأنا/الآخر، المركز/الهامش …
إنّ تغيير بؤرة التحديق، ومفارقة الأشكال المألوفة لبناء المعرفة، ستخوّل المثقفين توليد معانٍ جديدة، ومعارف مختلفة، وبناء مقالة فكرية تفارق التوقعات المعهودة. وقد تفضي إلى التنظير في زمن ادعى فيه البعض أن النظرية ماتت، وأن المثقّف “الشعبويّ” قد برز. وليس يخفى أن نبذ القراءة الآمنة، والتوغّل في شعاب وعرة، والنظر في آليات مقاومة السلطة، رمزياً واجتماعياً، من شأنها أن تؤدي إلى فتوحات معرفية منشودة.
ولا يتسنّى للمثقّف مفارقة حالة التكلّس، إلا متى تجاوز لحظة الصدمة والغرابة، التي أتت بها الثورات ليطرح بناء معرفياً جديداً، ويكتشف قوانين بديلة قادرة على هيكلة البناء الثقافي من موقع من ينزع عن نفسه الأسطرة والقداسة.
نخلص إلى القول إن الثقافة حقل أدائي بالضرورة. وطالما أن المثقف لم يُعِد النظر في سياسات النطق والخطاب، ولم يتأمل في خارطة ترتيب الحدود المتعارف عليها، ونمط العلاقات والمواقع من منظور جديد يؤكّد على أهمية الفضاء “البيني”، فإنه سيبقى “رهين محبسين” فرضا عليه.
إن اختلاف اللحظة الزمنية الراهنة، وخصوصية السياق الثقافي والتاريخي، يدعوان المثقف إلى بلورة الذات من جديد، في عالم سمته الترحال، وصوغ مشروع إعادة النظر والتقييم، ثم البناء وفق منطلقات مختلفة. وهو مشروع يأخذ المجتمعات إلى أفق أبعد من شروط اللحظة التاريخية، وشروط الحاضر السياسي المكبّلة. فهل ستشهد المجتمعات التي خاضت الحراك، ولادة جيل من المثقفين ينأى بنفسه عن ممارسة الثقافة، بوصفها نشاطاً أيديولوجياً وأداء بيداغوجياً، إلى ممارسة الثقافة بوصفها ضرورة حياتية، وأداء يضمن الإسهام في بناء جمالية تحررية تفاعلية، تليق بمسار يبشّر بتحرير الإنسان من الأوهام، وأوّلها وهم امتلاك الحقيقة؟.
(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة “افق”
(*) برفسورة في الجامعة التونسية
كلام الصور
1- أحلام رحومة
2- الطاهر لبيب
3- جورج طرابيشي