بقلم: الدكتور أنطوان سيف
يُبحر الوعي في الذاكرة المثقلة، يشجذِّبها، يستدرج النافر في منعطفاتها، يُسقط بعضها، ويعصاه كثيرها، ليضع سيرةً ذاتية يحتمي بها من عاتيات سوء الفهم والاساءة وغارات الآخرين. فالسيرة التي نجهد النفس لكتابتها هي التي تكتبنا باستمرار. فالولد الجنوبي الذي كانه يوماً في مدينة صور لا يزال يُستدعى الى الشهادة عن واقع حاله في “عائلة أقل بكثير من المتوسِّطة”، كما يصفها بمصطلحات السوسيولوجيا المؤدلجة اللاحقة، وعن الأب “الفوَّال” صاحب المطعم الصغير لبيع الفول الذي على أميّته كان يصحبه معه الى سهرات ثقافية عامليَّة؛ وانتسابه الخاطف الى المدرسة الجعفرية الناشئة حديثاً في المدينة.
ومع وفاة الوالد تبدأ مسيرة الصبي المهنيَّة التي طلَّقت المدرسة وصناعة صحن الفول، وانحازت إلى مزاولة مهن موسمية لا قرار فيها: مزارع، فبائع خبز، فبائع ترمس، وياسمين في المقاهي، أي كل ما مردوده قروش وفرنكات لا ترقى إلى سقف الليرة الواحدة، فإلى حامل حجارة باطون الى معلم العمار. إلى أن برع أخيراً في تصليح بوابير الكاز التي ستلتهمها لاحقاً حضارة البوتاغاز. إلا ان نجاحه التقني في معالجة بوابير الطبخ هذه لم يوقف انحرافه بعدها نحو مهنة بيع الورق وأكياس الورق، وهذه المرة في بيروت الخمسينات التي استقر فيها.
بموازاة ذلك الصخب العملي خارج المدرسة وخارج التلمذة، كان التعلم العشوائي والتثقف بالعشرة. وكانت معها الكتابات الأدبية الأولى للقصة والنقد التي كانت تعلو معه شيئاً فشيئاً بموازاة صفوف مدرسية وهمية لتؤسس للشخصية الراشدة. يعتز محمد دكروب بسيرته القديمة لكأنه بها حاز أفضل شروط الانتساب إلى حزب الطبقة العاملة الذي ينتمي إليه أترابه المدرِّسون الذين كانوا له، مشفوعين بقراءاته النهمة للأدب العربي الطليعي الذي تحمله إليه المجلاَّت والكتب، بديلاً عن الثقافة الأكاديمية التي أخطأ باكراً الالتقاء المطوَّل بها.
إلاَّ أنه يعترف ان نهمه للمعرفة لم يكن ممكناً إرواؤه خارج تلك الرفاقية التي غدت له بدائل مثالية عن العائلة الأميّة وعن المدرسة التي لم يظفر بملازمتها طويلاً، فظلّ حرمانه منها جرحاً أبدياً لاسعاً، استعاض عنها بالانتماء إلى مركبة ذاخرة بعديد من الذين يشاطرونه أحلاماً زهرية كبرى في الوحدة العربية وتغيير وجه العالم. الانتماء إلى الحزب الشيوعي الممنوع حينذاك والنضال فيه من خلال مجلته الناشئة “الطريق” التي التصق بتحريرها ونشرها عقوداً متعاقبة، كان البوصلة الناظمة التي ضبطت ثقافته المتشعبة، جعلته يتأثر باتجاهات فكرية متنافرة ومتناقضة ويعجب بها جميعاً، بصرف النظر عن قواعدها الفكرية وخلفيَّاتها. “فالطريق” أضحت مدرسته الجديدة للمعارف والمواقف في ميادين العلوم الإنسانية المتطورة والآداب المتنوعة، العربية والمعرّبة، الوافدة. فيها استبدل ياقته الزرقاء بياقة بيضاء تشبه سريرته. أثر صداقته وصحبته لحسين مروة كان حاسماً في بناء شخصيته.
إلاَّ أن الشاب فتح نوافذ حياته الأدبية الملتزمة على عشرات الأسماء الأدبية والفكرية، غالبيَّتها عرفها معرفة شخصية زادته رفاهةً وعمقاً في مقاربته النقدية لأعمالها، كان بهذه المقاربة يعبِّر عن فرادة أدبية خارجة عن مألوف المواقف الرسمية الشائعة عن الأحزاب العقائدية. فها هو يفصح على سبيل المثال عن إعجاب فائق بطه حسين الذي كان ينظر إليه اليساريون، بخاصةٍ من خلال كتابه “مستقبل الثقافة في مصر” نظرة عدائية لانتمائه برأيهم الى جبهة الغرب الليبرالي، كما يكنُّ بالمقابل إعجاباً فائقاً، كما ستالين، برواية الأم لماكسيم غوركي! كان في قرارة نفسه قومياً عربياً وشيوعياً ماركسياً، بينما كانت الجبهتان الشيوعية والقومية خارجاً في حالات اصطدام سياسي وعنفي.
السيرة الذاتية التي طلبتها منه الحركة الثقافية – انطلياس، لنشرها في هذه المناسبة، عكف على كتابتها كقصَّة شهراً كاملاً داعماً لها بمختلف عناوين كتاباته في القصة والرواية والمسرح والسينما والنقد الأدبي والسجال الفكري ومقدمات لكتب وأبحاث وأحاديث إذاعية، مثبتة جميعها مع تواريخ نشرها. إلاَّ أنه أوقف فجأة رواية سيرته عند توقُّف مجلة “الطريق” (ربما “مؤقتا”ً كما قال) عام 1993، أي منذ خمس عشرة سنةً! بعد هذا التاريخ ثمة سيرة ذاتية أخرى لم يكتبها بعد، ولكنَّه أشار الى بعض عناوينها في اعادة النظر في آراء نقدية سابقة لم تفسح حينذاك عن كامل مكنوناتها الثورية المكبوتة. منها تأكيده بالمعاينة والمعايشة وجود طبقة حادَّة وأزمات فقر ونظام قمعي في الاتحاد السوفياتي السابق، وهذا برأيه ما كان سبباً في سقوطه؛ ومنها قوله لا بل صرخته: لماذا سكتنا؟ رغم اننا كنَّا نلمس الأخطاء والتجاوزات؟ ومنها تأكيده انه لا يزال ينظر الى طه حسين على أنَّه يساري أكثر من يساريين عديدين… إلا أنه لم يذكر أياً من هؤلاء اليساريين العديدين، كما لم يذكر أياً من تلك الطبقة وممثليها داخل الأحزاب الشيوعية غير السوفياتية، القريبة منها على وجه التحديد!
يعترف محمد دكروب، وكأنه يعتذر من تاريخ لم يعد يكترث للعديد ممن أساؤوا إليه، بأنه كان “ناقداً بهدوء”، ومن أنَّه لم يكسر الصمت عن الانحرافات، فهو بروحه المحببة لم يكن من طينة أصحاب تلك المواقف العدائية الثورية في الأدب والسياسة. فهو بمحيَّاه المحبب كأحد حكماء الصين ما قبل الماوتسي تونغيَّة لم يضع مخالب في قلمه ولسانه، لا ضد الأبعدين ولا إزاء الأقربين. فهو لطيبته – وبعض أصحاب النفوس الأمارة بالسوء يقولون لبساطته او لسذاجته- لم يجد في الثقافة والأدب، وهو الآن على عتبة الثمانين، مالاً أوفر من ذاك الذي كانت توفِّره له السمكرة وبيع أكياس الورق لكأن الحياة الفعلية تتجسَّر بين الفاقة والفاقة. نقطة ضعفه هنا هي على الحقيقة ميزة من مزاياه التي تشبهه بامتياز: لقد ظل كياناً اميناً لأنه لم يعرف ولم يسع إلى ان يفرِّق بين الوفاء والولاء. وحيداً يقف اليوم مع صداقاته الوفيَّة، منطوياً على خيباته، كبيراً بجراحه عمن فقدهم أو أفقدوه عمداً إياهم! ومع ذلك، بل على الرغم من ذلك، فإن آمال المبدعين تفضحها مشاريعهم التي يخبئونها “تحت الطبع” إلى زمن آتٍ.
سيدي،
ان الحركة الثقافية – انطلياس اذ تتشرف بتكريمك، وتجعل هذا اليوم من ايام المهرجان اللبناني للكتاب باسمك، هنا في المكان التاريخي لعامية 1840، وفي هذا المسرح مسرح الاخوين رحباني، تتقدم منك باسم الثقافة العربية الطليعية المتحررة المنفتحة على كل مصادر الابداع في العالم أجمع، بآيات التقدير والمحبة. وأعلم، وانت الشيخ العليم، ان ذكرى الشقاء ليست بالضرورة شقية والوعي بالشقاء ليس بالضرورة وعياً شقياً فعطاؤك لن تطمسه غيوم ظلاميَّة سوداء. ودمت في صومعتك، كما كنت في “طريقك”، علماً في الثقافة الوطنية الطليعية العربية.
***********
(*) كلمة ألقاها الدكتور أنطوان سيف (أمين النشاطات في الحركة الثقافية أنطلياس) في حفل تكريم الأديب محمد دكروب ضمن تكريم الأعلام في المهرجان اللبناني للكتاب (2008)، وننشرها في محطة وفاء لمحمد دكروب في غيابه.
كلام الصور
1- د. أنطوان سيف
2- محمد دكروب مكرماً في المهرجان اللبناني للكتاب (2008)