يسعدني أن تستضيف المملكة الأردنية الهاشمية هذا الاجتماع العربي المرموق لمؤسسة الفكر العربي، التي دأبت منذ تأسيسها، برئاسة حكيمة من صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، في تعزيز العمل الفكري العربي المشترك، رغم الأجواء الملبدة التي تجتاح منطقتنا العربية، فأبقى المؤسسة، بمفكريها ومؤسسيها وأبحاثها ودراساتها، منزهة عن كل أشكال الانقسامات التي يتسم بها الواقع العربي، وتسيطر على دوله ومؤسساته.
إن واقع اللغة العربية في لبنان ينطلق مما جاء في الدستور اللبناني – المادة 11 – التي نصت على أن اللغة العربية هي اللغة الوطنية الرسمية. وقد أسهم الكثيرون، منذ الاستقلال وحتى الآن، في إرساء دعائمها، رغم العثرات التي أعاقت ذلك. ومن أجل أن تبقى اللغة العربية رائدة في كل المجالات في لبنان.
ان خطة النهوض التربوي التي أقرها مجلس الوزراء اللبناني في العام 1994، نصت على ضرورة الاعتناء باللغة العربية لكونها اللغة الأم، ووسيلة تواصل تاريخي واجتماعي وثقافي وعلمي. وعلى الأثر، صدرت مناهج تربوية جديدة، وبدأ تأليف الكتب المدرسية، وطورت أساليب التأليف. كما وضعت في سياق ذلك برامج عديدة لإعداد المعلمين وتدريبهم، ونظم عدد كبير من اللقاءات وورش العمل والتظاهرات العلمية لدعم اللغة العربية وتعزيز استخداماتها في مختلف مناحي الحياة. إلا أن حضور اللغة العربية في الواقع المعيشي، كالإعلام، والسياسة، والأعمال، والاقتصاد، إلخ… لا يدعو إلى الارتياح، خصوصا إزاء ما يسجل من تراجع في الاهتمامات والمهارات المتصلة بهذه اللغة، مطالعة وتأليفا وكتابة وفهما…، وذلك رغم النصوص الكثيرة التي أفردتها خطة تطوير التعليم في الوطن العربي للغة العربية، ولضرورة الاهتمام بها تعليما وتعلما وحضورا واستخداماً.
من أكثر العناصر تأثيرا على اكتساب اللغة العربية المادة التعليمية الموضوعة بتصرف المعلمين والتلامذة”. وقال: “تعود آخر نسخة من المناهج التعليمية في لبنان إلى العام 1997. وما ميز هذه المناهج اعتمادها على الأعمال التطبيقية وعلى النصوص الهادفة المستوحاة من الواقع لإكساب المتعلمين الكفايات المطلوبة. لكن حقيقة اكتساب اللغة العربية من قبل التلامذة لا تبدو مرضية، خصوصا في ظل هجمة اللغة المحكية في وسائل الإعلام وفي الإعلانات المكتوبة، والانتشار الواسع للغة “الواتساب” والتواصل الاجتماعي، وهو ما تظهره جليا نتائج الامتحانات المدرسية والرسمية، والاختبار العملي لمكتساب هذه اللغة في أسواق العمل والتوظيف.
أدركت الوزارة الحاجة لرؤية مطورة للمناهج على نحو تظهر فيه جلية الكفايات المطلوبة، قراءة وفهما وكتابة ومحادثة وتحليلا واستنباطا، من دون مبالغة أو تعقيد، وعلى نحو يتيح للمعلم الإحاطة النظرية والعملية بهذه الكفايات، والتصرف بها من خلال أدلة تقويمية تعتمد معايير علمية واضحة وصادقة، يمكن من خلالها قياس المكتسبات التعلمية بشكل واضح ودقيق. وفي هذا الإطار، تعمل وزارة التربية والتعليم العالي منذ سنوات على إعادة النظر في مناهج مرحلة الروضة وفي مناهج الحلقة الأولى من مرحلة التعليم الأساسي، وقد أصدرت بشأنهما المراسيم اللازمة، وهي تعمل على إنجاز التعديلات على مناهج باقي حلقات مرحلة التعليم الأساسي والمرحلة الثانوية.
لوضع الأمور في نصابها، فإنه لا يمكن عزو واقع اللغة العربية لدى المتعلمين في لبنان، وفق ما سبقت الإشارة إليه، إلى سبب بعينه، أي إلى المادة التعليمية منهجا وقياسا وتقويما، بل تشترك معه أسباب أخرى. ويجب هنا مراجعة مؤهلات معلم اللغة العربية والمعلمين القائمين بتدريس مواد أخرى بهذه اللغة، كالتاريخ، والجغرافيا، والتربية المدنية، إلخ…، إذ لم يعد بالإمكان تجاهل تمهين التعليم كسبيل وحيد لرفع القدرات اللغوية لدى معلم اللغة العربية (والمعلم بهذه اللغة) والمتعلم على حد سواء.
ضمنت الوزارة مشروع قانون تنظيم التعليم العالي الجديد، الموجود حاليا لدى الهيئة العامة في مجلس النواب، نصا يعتبر المهن التربوية مهنا موصوفة، تستدعي حيازة شهادات معينة. ويشير إلى وجوب أن تصدر مضامين هذه الشهادات بمراسيم تتناول الإطار العام والمحتوى، وهذا ما تعمل عليه الوزارة حاليا، خصوصا مع مسؤولي كليات وأقسام ودوائر التربية في الجامعات اللبنانية، وتأمل بمحصلة ذلك أن تأتي برامج الإعداد على مستوى يضمن تكوين المعلم الكفء في المجالين العلمي – إتقان اللغة العربية، والتربوي – إتقان فنون تعليم اللغة العربية، وأساليب التقويم ذات الصلة. في الموضوع ذاته، أحالت الحكومة بمرسوم مشروع قانون يتضمن أربع وظائف تعليمية، هي: معلم روضة، معلم ابتدائي، معلم متوسط، معلم ثانوي، جرى تصنيفها بحسب الخصائص العمرية والمعرفية لكل مرحلة تعليمية، وما تستدعيه هذه الخصائص من إعداد، ويشير بوضوح إلى أهمية مكوني: التواصل – أي اللغة العربية ولغة أجنبية، والثقافة العامة، في متن الإعداد المذكور.
لا يستقيم الحديث عن الإعداد من دون أن تواكبه منظومة للتدريب والتطوير المهني، ولا بد من الاعتراف بضرورة إعادة النظر في التدريب القائم في لبنان لجهة:
– تطوير التشريعات والأنظمة حول إلزامية التدريب.
– وضع نظام حوافز يرتكز إلى تقييم الأداء والتطوير المهني.
– إرساء آلية فاعلة لمواكبة المعلم وتوجيهه وتحديد احتياجاته التدريبية.
– تقييم أداء المعلم.
– تقييم منظومة التدريب وأثرها”.
أنشأت الوزارة جهازاً وطنياً للتقييم تأمل من خلاله جمع المعلومات والمعطيات حول مدى اكتساب اللغة العربية لدى المتعلمين، وعززت جهاز الارشاد والتوجيه بعدد كبير من العناصر الكفوءة بهدف مواكبة المعلمين، وتوفير التوجيه المناسب لهم وتحديد احتياجاتهم. كما أنجزت في سبيل تعيين هذه الاحتياجات أداة مطورة للمشاهدة الصفية، هي حاليا قيد التجرية في عدد من المدارس الرسمية والخاصة، ووضعت معايير متقدمة لاختيار الموجهين التربويين. أما في مجال التدريب المستمر، فقد سبق ووضع نظام لتقييم هذا التدريب، من دون أن يوضع موضع التطبيق، وهذا ما تعمل عليه الوزارة حالياً.
لتعزيز واقع اللغة العربية في لبنان من خلال التربية والتعليم، هناك حاجة لإعادة النظر في الحياة المدرسية، أي إعادة طرح السؤال عن أيام العمل السنوية، وتوزيع الحصص الدراسية، والأنشطة الصفية واللاصفية، والشراكات الفكرية والثقافية مع هيئات المجتمع المدني، وذلك من أجل تكريس جملة من المفاهيم والممارسات الضرورية، كالتربية البيئية، والتربية على التراث، والتربية على المواطنية…، وتعزيز كفايات منهجية أخرى، كاللغة العربية وغيرها من المواد المعرفية.
في هذا المضمار، أصبحت الوزارة في المراحل النهائية من إقرار نظام داخلي للمدارس الرسمية، بعد جمود امتد لعقود طويلة، وتسعى من خلاله إلى تعزيز دور الإدارة المدرسية، وتعزيز النوادي المدرسية على أنواعها، وكذلك إلى تعزيز الأنشطة المنهجية اللاصفية ومساهمة الجمعيات، كما باقي هيئات المجتمع المحلي، في العملية التعليمية، من دون أن تغفل عن مراجعة النصوص القائمة لتأمين المواءمة والتناسق في ما بينها وبما يضمن حسن وضع أحكام هذا النظام موضع التطبيق”.
تبقى الإشارة إلى مسألة مطروحة باستمرار، أقصد تقانة التربية، التي تكتسب اليوم أهمية خاصة، ونحن في عصر المعلوماتية والتواصل العالمي. ولا يقتصر العمل في هذا الجانب على بلد عربي بعينه، نظرا لعالمية التقنيات الحديثة المستخدمة في التعليم والتعلم، ما يجعل من أي عمل عربي مشترك في مجال تصميم الموارد التعليمية الرقمية وتطوير الاستخدامات التربوية للتكنولوجيات الحديثة ممكنا، بل ضروريا، إذ يتيح هذا العمل الإفادة من الخبرات الموجودة وضمها وتطويرها، وتوفير الجهد والوقت والمال لصالح إنتاج علمي تعليمي يمكن تعميمه على المكتبات والمؤسسات التعليمية العربية. ومن الفوائد المؤكدة أيضا، الناتجة عن هذا العمل، تطوير مقاربات عملية توفر التواصل المباشر بين اللغة العربية وعالم اليوم، وتؤمن المؤالفة بين الحياة المعاصرة واستخدامات اللغة العربية. وفي هذه المسألة، كلنا أمل أن تتضافر جهود أصحاب القرار والتربويين والخبراء، وبمبادرة ودعم من مؤسسة الفكر العربي، وتُثمر تحديثا مؤثرا في تعليم اللغة العربية وتعلمها.
بموازاة ما سبق حول تقانة التعليم، أختم بالتأكيد على أن تعليم اللغة العربية وتعلمها ليس ماركة مسجلة لبنانية، أو براءة اختراع لبلد عربي معين، وأسأل لماذ لم نقم جميعا بعمل مشترك، يمكن لمؤسسة الفكر العربي أن تكون راعيته، يتمثل بتحديد الغايات والأهداف والكفايات الخاصة بتعليم وتعلم اللغة العربية، والمبادرة إلى وضع إطار مرجعي عربي موحد، أسوة بالإطار المرجعي الأوروبي الموحد للغات، للناطقين بهذه اللغة، كما لغير الناطقين بها، مع ما يلزم من أدلة ومراجع، كقواميس ومترجمات وقصص وغير ذلك، وأنا على يقين أن الأوان ما زال متاحا لمثل ذلك.
أشكر مؤسسة الفكر العربي، رئيسا، وأمينا عاما، وإدارة، وأمناء ومفكرين، والسادة الوزراء والمهتمين، على اختيار موضوع اللغة العربية والتطوير التربوي عنوانا لأبحاث هذا المؤتمر، آملا ان تتكلل الجهود المبذولة في هذا الصدد بالنجاح والتوفيق.
**************
(*) كلمة ألقاها وزير التربية والتعليم العالي في حكومة تصريف الأعمال الدكتور حسان دياب في افتتاح اعمال “المنتدى العربي السنوي للتطوير التربوي 2013” الذي عقدته “مؤسسة الفكر العربي” من خلال مشروع “عربي21” في عمان، بدعم من مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، وبالتعاون مع أكاديمية الملكة رانيا لتدريب المعلمين.
كلام الصور
1- الوزير دياب يلقي كلمته في المنتدى
2- جانب من الحضور