بقلم: الوزير السابق جورج سكاف (نائب نقيب الصحافة اللبنانية)
هذا الشذا الطيّب أعرفه.
أرِجَ قلمُ جوزف أبي ضاهر باكراً في حديقة صَفحات “الجريدة”: كلماتٍ عطرة ومشاعر صادقة وخواطر تبهجُ الخاطر وقصائد قلادات حُبّ على صدر حبيبة. إلى حديقته الإبداعية الخاصة يقطف الزيتون منمنمات فنية، وترسم بتلات الزهر وأجنحة الفراشات لوحاتِه الزاهية. وعندما ينتقل إلى العمل المضني، يصدر مجلات وينشر الكتب متتاليةً، ما يُعلن عن صدور كتاب إلا ويكون كتاب آخر في طريقه إلى المطبعة: دواوين شعر من كل لون، ودراسات موسوعية تدخل الجامعات والمعاهد العليا، وبرامج إذاعية وتلفزيونية هي الأرفع ثقافة والأغنى معلومات.
توسّعت حديقته ونمت، سوّرها بغابةٍ أرز وسنديان، أعلاماً لبنانية في كل مجال سياسي أو علمي، ثقافي أو اجتماعي وإنساني. يتوئمها اليوم حديقة المبدعين في هذه الجامعة الرائدة، بوجوه من ارتفعت قاماتهم من صخر، ومن يتبعون.
كتاب “وجوه في حديقة المبدعين” ليس كتاب سيرة يروي الأحداث والتواريخ، إنه بورتريه مُبدعين سيماؤهم في وجوههم، علاماتٍ حُفرت خطوطاً من وَهج في تاريخ لبنان والحضارة الإسانية.
ثمانية وجوه مشرقة: أربعة لمُبدعين من لبنان حكموا ويحكمون أميركا ومعظم بلدان العالم: وأربعة أركان في بناء الكيان اللبناني.
أربعة بلغوا العالمية: جبران النبي،
ابن بشري المهاجر من بؤس، لا يحمل إلا صور الطبيعة اللبنانية وروحانيتها، إلى عالم يصعد السلم درجة درجة وهو طير لا ينتظر السلم ليطير. طار بأجنحة متكسرة، يكتب ويرسم ثائراً على مفاهيم متوارثة، ويتمكن، هذا العبقري من الشرق، أن يفرض نفسه نَبياً يبشر بحرية العقل في بلاد ترفع تمثالا للحرية.
كتاب “النبي” صار الكتاب الأول في أميركا طباعة وانتشاراً، وفي معظم بلدان العالم ترجمة، إنه موناليزا جبرانية يُقُرأَ مراراً ولا يُبلغ أعماق معانيه، كما تتبدّى رسومه آيات فلسفية روحانية بأجسام عارية وأحاسيس انطباعات جمالية.
وجه جبران الحقيقي قد يظهر جلياً في رسائله إلى ماري هاسكل، حبيبة أحبته حتى رفض الزواج منه، لئلا تقاسمه عبقريته. ورسائله إلى مي زيادة كتاب الحب الصوفي.
جبران رمز النبوغ اللبناني تشرق شمسه خلف البحار، وجه نبي ثائر تشع من عينيه نوارنية العِشق الروحاني الإنساني.
الأممي شارل مالك، فيلسوف لبنان الكيان ورسوله إلى العالمية.
رأسه راس فيلسوف يوناني، أو امبراطور روماني أو بحار فينيقي على متن سفينة قدموس
استاذ فلسفة رأى عظمة لبنان في مكوناته الفلسفية وانتماءاته الدينية والثقافية، وجده دولةً بالفعل بقدر ما هو سيد ومستقل. يستمد قِيمه الأخلاقية من مُعطيات الإيمان الديني، ومن تجليات الوحي.
آمن بلبنان المؤهل بتراثه وتركيبته أن يكون ويبقى وطنا للحرية والعقل والحقيقة والمحبة والانسان. في ثالوث مقدس: الإنسان والعقل والحرية.
عمل مع أهل القِيَم على إنشاء “جبهة الحرية والانسان” ثم “الجبهة اللبنانية” للدفاع عن كرامة لبنان وحريته فَي مواجهة حركاتٍ داخلية وخارجية تسعى للسيطرة على قراره الحُر. وأسس مع نخبة منهم “أكاديمية لبنانية” استجابة لنداءٍ صادر عن تاريخ لبنان وبحجم تراث ضخم عمره ستة آلاف سنة”.
بهذه القِيم مثل لبنان في أعلى برج عالمي: رئيساً للأمم المتحدة ورئيساً لمجلس الأمن الدولي ومقرر لجنة شرعة حقوق الإنسان، شرعة من ثلاثين مادة أصر ّعلى أن تنص إحداها على “حرية التفكير والضمير والدين”.
هذا المؤمن بثالوث “الإنسان والعقل والحرية” رأى من قمة برج الأمم المتحدة وعلى رأس سلطة مجلس الامن أن لا القرارات الدولية تُعطي الحقوق أصحابها ولا قرارات مجلس الامن تردعُ المعتدين بقوات حفظ سلام أو بقوات دولية. فجعل فوقها جميعا قوةَ الضمير.
حصر همه في معرفة الحقيقة، أن يعرف حقيقة نفسه أولا وأن يعرف حقيقة الآخرين، وجد حقيقة لبنان في أنه يفتقر الحضورَ إلى مائِدةِ الوجود الكُبرى والعيش والحوار في القيم مع أهل القيم. نجح لبنان في صيانة نظامه الديموقراطي ولكنه فشل في خلقِ ولاءٍ وطني رفيع موحد للبنان. وحذر من التفريط بلبنان قيمته بذاته.
أما نكبة فلسطين فهي في نظره صورة جلية للنكبة العربية، لأن دولة اسرائيل الغازية هي مركزُ تجمّع ونقطةُ انطلاق وتوثبات على الأقطار المُجاورة سياسياً واجتماعياً وعسكرياً. والتاريخ تقرره الأعمال الحاسمة لا الحجج القانونية.
شارل مالك المعلم والفيلسوف يقول للأجيال المقبلة أن النور الإزلي لرؤية الحقيقة هو الضمير..
الدكتور دبغي مُرمّم القلوب ومنقذها
صغيرا جاء به والده إلى بلدته مرجعيون ليتعرف إلى دفء البيت العائلي، ويتشرب فضائل الضيعة بعمل الخير بصمت، فالعمل هو الحب مرئياً. أكمل علومه في أميركا وتخرج طبيباً بارعاً، يعمل بوصية والده: ليس العطاء الحقيقي أن تُعطي مما تملك بل أن تعطي ذاتك.
تخصص الدكتور مايكل دبغي في جراحة الاوعية الدموية وطوّر تقنية العمليات الجراحية بمساعدة شقيقتيه في البيت بحياكة أنسجَة ضماداتٍ للشرايين قبل أن تقوم المختبرات والمصانع بانتاجها، واتقن فن قطبة تعلمها من صنارة جدته.
صار له اسلوبه الخاص في ترميم القلوب. واشتهر في أميركا والعالم كأكبر طبيب في إجراء عمليات القلب المفتوح. عالج خمسة رؤساء أميركيين وآلاف المرضى من أكبر مشاهير وأغنياء العالم ومن الفقراء المعدمين. وحرص دائماً على الكمال لأنه في عمله، يقول، لا مجال للخطأ فحياة الناس أهم من أي شيء.
أجرى 63 ألف عملية ولم يعتبر الطب مهنةً أو وظيفة بل رسالة، هبة من الله أن يقف أمام شخص يموت ويعيد إليه الحياة. سُجل باسمه أكثر من 70 ابتكاراً في عالم الطب، أكثرها في تطوير القلب الاصطناعي ومضخات الدم وعمليات رأب الشرايين، أنقذت ملايين المرضى. وظل محافظا على مهابة والديه، جاء في السابعة والتسعين من عمره، مع عائلته إلى البيت العائلي في مرجعيون، فرح بالعودة 86 سنة إلى الوراء مردداً قول أبيه. وكان بوده أن يأتي ليحتفل بعيده المئوي في ذاك البيت الأصيل ولكن قلبه خذله. قال فيه الدكتور فيليب سالم الذي عرفه عن قرب: قليلون عرفوا نعمة الرجل الحقيقي فيه.
الصباح، فتى النور الكهربائي
أطل ابن النبطية حسن كامل الصباح، من الجامعة الاميركية وجهاً يصفه الدكتور فؤاد صروف عند دخوله الجامعة، بطالب أسمر كالحنطة او أغمق، سمهري القوام عاليَ الجبهة في مِحجريه عينان سوداوان برّاقتان نافذتا النظر. تخرج منها بتفوق وأبى أن يعين فيها استاذاً أو أن يوظف في مصلحة. سافر إلى أميركا لُيكمل علومه في التكنولوجيا، وتقدم للعمل في شركة جنرال موتور حيث يستطيع تحقيق اختراعاته مقابل مكافأة رمزية، دولار واحد عن كل اختراع. سجل أكثر من اختراع كل يوم بالأجهزة الكهربائية والبث التلفزيوني، وارسال الصور لاسلكياً، وكان أهم اختراعاته تحويل أشعة الشمس إلى طاقة كهربائية.
رغم انشغالاته العلمية ظلّ على ارتباطه بوطنه وإيمانه الديني برسائل متواصلة إلى أمه. كتب لها عن اكتشافه: إذا وضعنا هذه الأجهزة في ميل مربع من الصحراء العربية الشاسعة التي تحرق الشمس فيها كلَّ شيء حي، نستطيع توليد أكثر من مائتي مليون كيلوواط كهرباء تكفي لجعلها جنة غناء.
اكتشافه يعتمد اليوم في الإضاءة والتدفئة وفي محركات السيارات وسائر المركبات. ولكن هذا العبقري من لبنان قضى في بلاد تحتضن وتشجع العلماء بحادث مفتعل، ربما من رفاق أقلقهم تفوقه عليهم أو من شركات نفط بات يشكل خطراً على مصالحها. ولكن ما آلمه شخصيا أنه لم يجد في بلاده مجالا لتحقيق طموحه، لأن الملوك والرؤساء العرب مشغولون بالسياسة ولا يكترثون للتقدم العلمي ولا يهتمون بالمخترعين والمكتشفين.
واربعة لبنان الابداع:
سعيد عقل الشاعر العَالِم
يختصره الكتاب بانه “ملء الزمن حضورُه وملء الدهشة نتاجه، والكلامُ عليه في الشعر هو الشاعر، وفي النثر هو الصائغ، وفي التاريخ والأرقام هوالعارف”.
سعيد عقل ابن زحلة رأيناه صغاراً ممتلئاً من نفسه، يفرض نفسه خطيباً في أي مناسبة، فيكون سيد المناسبة، يكتب في جريدة “زحلة الفتاة” أو “الوادي” مقالا جريئا فتهتز منه القيادات الراسخة. ويأتي الكلية الشرقية معلّما فتخصص له ساعة خارج المنهج الدراسي لشرح تذوق الأدب والشعر فتصبح ساعته هي الأحب لدى التلاميذ…
عندما نزل إلى بيروت، انضم إلى حلقات أهل الفكر في دارة شارل قرم ودار المكشوف يسمعهم شعراً جديداً يُبهرهم فيستزيدون. صار محطّ إعجاب من كانوا في القمة، وفي كل جلسة يفاجئهم بأفضل، صار الشاعر المُختلف صاحب مدرسة في الشعر، شعره الغزلي يقرأ أبعد من الغزل وشعره الملحمي والمسرحي يرفعه إلى حيث لم يجرأ الآخرون. تنازعته الندوات محاضراً في الفكر والماورائيات وفي الوجود اللبناني عبر تاريخ الحضارة العالمية. ورفعته المنابر شاعرا يقيم المهرجان.
كتب وحاضر في السياسة لا لانتقاد سياسيين أعجز من أن يكون لديهم ما يُنتقدون عليه بل لطرح مشاريع في مستوى أرقى الدول.
لم يسع مرة إلى مركز سياسي وأتته التمنيات بتولى أعلاها شأناً. رُشح لرئاسة الجمهورية، واعتبره الرئيس شارل حلو، عندما زاره في بيته، رئيس لبنان. وكان سعيد عقل يتصرف كرئيس وصاحب سلطان، يمنح الجوائز أوسمة استحقاق، ومقدماته للكتب فرمانات ترفيع.
أتقن قراءة الحرف كما اتقن قراءة الرقم، يحكم على رُقيّ الدول والشعوب بنسبة حجم موازنتها من الدخل القومي، ونسبة الأمية بين ابنائها ونسبة إصداراتها للكتب وعدد القراء…
من قراءاته الرقمية أن الشاعر شكسبير يوفر لوحده دخلا سنوياً لبريطانيا يزيد على نصف دخلها القومي: من طبع الكتب إلى الإنتاج المسرحي، ويعدد العاملين فيها جميعاً فيزيد على عدد الجيش.
ونقرأ سعيد عقل بالأرقام: عند بدء التحضير للاحتفال بعيده المئوي وجدت اللجنة أنها لا تستطيع ،خلال سنة، إعادة طبع مؤلفاته ونشر كل ما كَتب وما كُتب عنه. وما أدلى من أحاديث إذاعية ومقابلات تلفزيونية وما قُدم عنه. وإذا به في سنة واحدة بعد المائة يُكتب وينشر عنه ويقال فيه أكثر بكثير مما أنتج في حياته. إنه ثروة شكسبيرية للبنان وأكثر.
الأخوان رحباني، عصر فني جديد:
عاصي ومنصور ثنائي موحد، حكاية عامية انطلياسية فنية بدأت بضربة دف وعزف على البزق في مقهى الفوار، وقَدّ مراجل بين مخول وأبوفارس، إلى قيادة أوركستريات فيلارمونية ومَسْرَحةِ معارك فخر الدين وشعر المتنبي وقلاع جبال الصوان.
ارتقى الفن اللبناني إلى أعلى مستوى بهوية رحبانية، في نهضة وطنية جعلت لبنان أجمل الأوطان. قيل فيه وطن أحلام.
كبر قدر الرحابنة، ولم يقربوا السياسة أو يتقربوا من سياسييها، ومع ذلك اعتبرت الأعمال الرحبانية من أجرأ المواقف السياسية. في “الشخص” جعلوا الحاكم من دون اسم ولا مركز، يحكم بمن حوله، هو لا يُفكر هُم يفكرون عنه وهو لا يقرر هُم يقررون عنه، تصدت له “بياعة بندورة” فاعتقلت وأعفى عنها بمصادرة عربتها وأكل ما عليها. سلطةٌ بيد سمسار وببرطيل.
على “جسر القمر” تقاتل أهالي الضيعتين على جرّة ماء، والماء يذهب هدرا، انتهى النزاع بالمصاهرة، عروس من هنا وعريس من هناك. وإذ ينتقل الصراع إلى “جسر البحر” على آبار النفط، والنفط يذهب اغتصاباً من قراصنة، فالحل بمصاهرة بين بئر نفط من هنا وبئر غاز من هناك.
“ملوك الطوائف” قامت ممالكهم وازدهرت على الاقتتال فيما بينهم، وما استطاعوا تفاهما، وإنما استسلموا خاضعين لأمر الغازي…
وبقي الفن الرحباني وحيداً ملكاً، في الذاكرة الوطنية الشعبية، قديماً وحديثاً وفي المستقبل.
عاشق الفن الساحر وليد غلمية. وقف في مصاف كبار الشعراء والأدباء ورجال الفكر ليُعطي وليد غلمية الموسيقى هوية لبنان الحضارية، ويضفي بالموسيقي على الحياة الوطنية لذة عقلية ولذة مشاركة وجدانية ونشوة تعاطف مع ما يصوّره الفنان.
كتب وألّف مئات الأغاني ووضع مُقدمات موسيقى الأفلام والمسرحيات والحوارات، كما ألف أشهر السيمفونيات والملاحم الغنائية والأناشيد الوطنية.
عندما عُين رئيساً للمعهد الوطني العالي للموسيقى، الكونسرفاتوار، كان همه إرساء ثقافة موسيقية. تمكن من تطوير وتجهيز المعهد وفق متطلبات العصر: مائة بيانو و200 استاذ وأوركسترا سمفونية من 88 عازفاً، وانشأ دار نشر تعنى بنشر المؤلفات والدراسات الموسيقية. فبلغ عدد الطلاب خمسة آلاف.
بقي حلمه الأكبر يستأسر بكل قواه لإنشاء أكبر دار أوبرا في الشرق. وفي حفل افتتاح مهرجان البستان أعلن بفرح عظيم أنه استحصل على قطعة الأرض في أفضل موقع وانجز وضع تصاميم وخرائط دار اكبر وأجمل من دار سيدني. وستكون فرحته أكبر عند الاحتفال بوضع الحجر الاساس… قبل الموعد ذهب وحلمه معه.
غسان تويني فتى الحُرية الأغر.
أول ما أطلّ عملاق الصحافة اللبنانية على الحياة العامة، كان فتى جاء من عالم الفلسفة إلى الصحافة كواجب عائلي ليحل مكان والده الراحل رئيسا لتحرير “النهار” ويكتب افتتاحيتها. لم يكن يتقن العربية، فأخذ يملي أفكاره عفوياً، بمنطق شبابي ثوري، على كاهن النهار فيصوغها مقالا ناريا يجر صاحبه إلى المحاكمة، محاكمة الحرية، فنترك الدرس في معهد الحقوق لنحضر إلى قصر العدل ونحضر أهم محاكمات العصر، لصحافي شاب تجرّأ ووجه الانتقاد إلى مقام الرئاسة، وهي جريمة لا تُغتفر، ويتطوع كبار المحامين للدفاع عنه وهم من أقطاب السياسة.
صار غسان تويني وجه الحُرّية في الصحافة وقدوة للسياسيين في مواجهة أهل الحكم. ومِثالا أعلى للشباب المتحرر وجاذبا للأقلام إلى الصحافة.
في مقابل مكاتب النهار العتيقة، آخر سوق الطويلة، تقع مكاتب الصحيفة الكبرى “الأوريان” التي تصنع السياسة وتُنصّب الرؤساء. استشعر صاحبها الصحافي الكبير جورج نقاش أن عهد الفرنسية إلى انحسار فقرر انشاء جريدة كبرى بالعربية، أشرك قلم المحامي البليغ نصري المعلوف في تأسيسها وضم إليه اصحاب صحف كرؤساء أقسام بإدارة رشدي المعلوف. كان صدورها الحدث الصحافي الأكبر، اول جريدة عربية تصدر بثماني صفحات وتصميم جديد في ثمانية أعمدة وعنوان مانشيت بلونين. وكان نجاحها حافزا لسائر الصحف إلى التطور والتقدم.
انضممت يومها إلى الجريدة محرراً، ومع أن الجريدة والنهار في سباق يومي ومنافسة على الأفضل، كنا نلتقي كل صباح مع غسان تويني في مطعم العجمي كأصدقاء ونتبادل الرأي، ينتقد بعضنا الآخر على تقصير ويهنئه على تفرد وسبق صحفي. صارت مكاتب الجريدة ومكاتب النهار ملتقى السياسيين جميعاً في منتدى سياسي وطني لاتخاذ القرارات الكبرى. ألّف جورج نقاش وغسان تويني وثالثُ قُطبي الاستقلال هنري فرعون وسواهم، ما سُمي بالقوة الثالثة لمعارضة التجديد لأي رئيس وفي أي ظرف.
غسان تويني ابن العقل الفلسفي كان لأكثر من عمل صحافي، يؤمن بنظرية فلسفية تقول إن الرأي الصح يحتمل الخطأ والرأي الخطأ يحتمل الصح، امتحنها في كل المجالات، في النشاط الحزبي وفي العمل الحكومي. يدخل الحزب منظّراً ومناضلا ويخرج منه ناقداً متبرماً: من الشيوعي إلى الكتائبي إلى السوري القومي والاشتراكي. وهكذا تعاطى مع كل العهود ركناً من أركان كل عهد: وزيراً أو سفيراً أو مندوباً أو مستشاراً، ويتركه معارضأ عنيفاً لأكثر من مواقف.
أثبت غسان تويني أن الصحافي رجل دولة أكثر من السياسي لأنه يمسك بنبض الرأي العام ويرى تقلبات لعبة الامم. في أثناء الحرب اللبنانية التي وصفها بحرب الآخرين على لبنان، فرطت حكومة الإنقاذ الوطني، وعاد الأقطاب السياسيون فيها إلى مواقعهم، وبقي وزيران صحافيان لا يخشيان المغامرة بمستقبل سياسي، يعملان حرصاً على مقومات بقاء الدولة، فكانت قراراتهما وتواقيعهما هي وحدها الفاعلة والنافذة. وتميز غسان تويني بفاعلية شبكته الإعلامية يُطلع كل وزير على ما يجري ويتعلق بوزارته ليعمل ما في وِسعه.
في الأمم المتحدة استطاع، بجرأته وقوة حججه، أن ينتزع قراراً من مجلس الأمن الرقم 425 ضد إسرائيل، ما كانت الدولة بأسرها ولا أي دولة أخرى تستطيع أن تحصل على مثله.
لربما الوجه الأحب لغسان تويني العلماني، وقد تزوج من غير طائفته، أنه في أعماقه أيقونة أرثذوكسية بيزنطية، أشرف بنفسه على ترميم كاتدرائية ساحة النجمة بكل تفاصيلها وأتى بفنانين من روسيا واليونان لإعادة رسم ايقوناتها أبهى مما كانت، من اهتمامه بمدرسة زهرة الإحسان ذهب إلى الاهتمام بانشاء جامعة البلمند وإقامة الكرسي البطريركي فيها.
وتبقى صورة غسان تويني الإنسان عنواناً عالمياً للثقافة، محاضرٌ في أكبر الجامعات من أميركا إلى باريس إلى دبي… وعنه حاضر كبار المُفكريين العالميين. واجمل إنجازاته الثقافية اأه جعل من زوجته الراحلة أيقونة شِعر رفيع، ومن قََسَمِ ابنه في ساحة الشهداء أيقونة شهادة وطنية بجرأة غلبت الأحقاد.
شكراً لصديقي جوزف صاحب حديقة المُبدعين، على هذه النزهة الجمالية بين خمائلها، وهنيئاً له موقعه في صدارتها يستقبل المبدعين تباعاً بتوليفة تُمتّع الزائرين والقُراء بسيماء وجوهِ مُشعة وشميم أريج إبداعاتهم في سلاف العُصور.
******************
(*) محاضرة ألقيت في الندوة حول كتاب “وجوه في حديقة المبدعين” في الجامعة الأميركية للعلوم والتكنولوجيا- بيروت.