بقلم: كلود أبو شقرا
قلما رسم فنان في عصر النهضة وفي العصور التي تلت العذراء مريم بشغف مثلما فعل الرسام الإيطالي رافاييل سانزيو (أوربينو 1483- روما 1520)، فقد كان الأقوى تعبيراً عن الحب في عصره والأكثر شفافية في التعامل مع الرموز الدينية، جمع فنه بين الدقة في التنفيذ والتناسق في الخطوط، واعتنى بالألوان بشكل خاص، فأثر في فن الرسم حتى أواخر القرن التاسع عشر.
“عذراء سيستين”، المعروضة حالياً في متحف “درسدن” في ألمانيا، هي اللوحة الأجمل التي رسمت للسيدة العذراء على مرّ العصور والأكثر جدلاً ونقاشاً بين الفلاسفة والأدباء واللاهوتيين، ويجمع أرباب الفن أنها ستظل نجما يتألق مدى الدهر في أوج الفن الديني، وأن مبدعها رافاييل سيظل اسمه خالداً من خلال اللوحات عن العذراء مريم التي ستبقى، ما بقى الزمن، تمثل حقيقة لا تموت في ذوق فني سليم تتوق إليه القلوب والأذهان .
موهبة مبكرة
تلقى رافاييل تعليمه على يد أبيه، وكان رساماً، فاكتشف باكراً موهبة ابنه، وفي زمن قياسي أصبح فناناً موهوباً وتجلت عبقريته وهو في السابعة عشرة من عمره. انتقل بعد ذلك إلى فلورنسا حيث درس أعمال دافنشي ومايكل أنجيلو وبارتولوميو وتتلمذ على يد پييترو پروجينو، واستمد منه رشاقة التكوينات واللون. من ثم تولى منصب رئيس المهندسين والمشرف على المباني في بلاط الباباوات: يوليوس الثاني ثم ليو العاشر وساهم في زخرفة الفاتيكان..
إبان عمله في فلورنسا تأثرت لوحاته على غرار لوحة ” دفن المسيح” بأسلوب ليورناردو دافنشي وماساشيو. وفي روما تأثر بأسلوب مايكل أنجلو، وأبدع لوحة “مدرسة أتينا “، لوحات الفاتيكان، لوحة “مادونا سيستين” ، لوحات: بالداسار كاستيليون في اللوفر، البابا ليو العاشر في فلورنسا. صمم إلى جانب ذلك كنائس وقصور من بينها: كنيسة القديس بطرس في الفاتيكان وقصر باندولفيني في فلورنسا…
تجسد لوحات رافائيل فكرة الجمال المثالي وعظمة الإنسان، وتمثل “عذراء سيستين” ذروة عبقريته وتفرّده الفني، لذا اعتبر من أعظم الرسامين الذين جاد بهم عصر النهضة في إيطاليا. :
عذراء سيستين
“عذراء سيستين” واحدة من أعظم الأعمال الفنية في العالم، ظلت على الدوام رمزاً مميزا للتطوّر الذي شهدته الفنون خلال عصر النهضة الإيطالية، ودفعت شعبيتها الكاسحة بعض النقاد إلى تشبيهها بلوحة الموناليزا لدافنشي.
أثارت التعابير الغامضة التي رسمها رافاييل على وجه العذراء وطفلها جدلا واسعاً، وحاول النقاد ودارسو الفن فكّها ومعرفة كنهها. كذلك سعى المؤرخون والفلاسفة، عبر العصور، إلى تفسير المعاني والدلالات التي تضمنتها هذه اللوحة، من بين هؤلاء غوته وشوبنهاور وشرودر وشوبنهاور الذي تحدث عن ملامح الخوف التي ترتسم على وجه الطفل وعينيه، بينما تساءل آخرون عن مغزى إظهار العذراء في حالة حيرة وارتباك.
في اللوحة تقف الشخصيات (العذراء وطفلها والقديس والقديسة والملاكان الصغيران إلى أسفل) على الغيم تحيط به ستارتان منفتحتان إلى أعلى. وتبدو العذراء كما لو أنها هابطة من السماء فيما يتوجه القدّيس (إلى اليسار) بنظره إلى الطفل يسوع، بينما توجّه القديسة (إلى اليمين) نظراتها الحانية إلى الملاكين الصغيرين الظاهرين في أسفل اللوحة.
لا شك في أن الجزء الأشهر في هذه اللوحة الفريدة هما الملاكان الصغيران إلى الأسفل، إذ طبعت صورتهما على ملايين الملصقات والصور التذكارية.
كان مقدّراً أن تزيّن لوحة “عذراء سيستين” قبر البابا يوليوس الثاني، وقد عثر عليها في ما بعد في أحد الأديرة لتجد طريقها إلى موسكو بعد الحرب العالمية الثانية، قبل أن تنقل إلى متحف مدينة درسدن الألمانية وهي محفوظة فيه لغاية اليوم.
يذكر أن هذه اللوحة أصبحت رمزا للأمومة المثالية، كما أن خطوطها المنحنية والعريضة نزولا وصعودا، وتوازن الكتل فيها وتوزيع الألوان الدقيق بين الذهبي والأخضر، البني والأزرق، كلها أمور تضفي على الرائي شعورا بالسلام والطمأنينة.
في الفاتيكان
عام 1503 رسم رافاييل لوحة تمثل تتويج العذراء وهي موجودة اليوم في الفاتيكان، وفيها يقف الرسل ومعهم مريم المجدلية حول تابوت خال، ويتطلعون إلى أعلى حيث يقف المسيح فوق السحب ويضع تاجاً على رأس مريم ، بينما يحييها الملائكة بالعود والرق.
لاقت اللوحة نجاحاً إلى درجة طلبت إليه كنيسة سان فرانشيسكو في Citta di Castello وهي تبعد نحو ثلاثين ميلاً عن بروجيا أن يرسم لها لوحة مماثلة، فرسم لوحة “زواج العذراء”، تبدو فيها سمات العذراء شبيهة بسمات نساء رافاييل ورشاقتهن، من ناحية: الرأس المائل بتواضع، الوجه الحنون، الانحناء الخفيف في الكتف والذراع والثياب..
الحق أن رافاييل بلغ هذه الدرجة من العظمة لأنه كان في مقدوره أن يجرب وسيلة بعد وسيلة وطرازاً بعد طراز، ويستوحي عناصر ثمينة وأسلوباً خاصاً، مدفوعاً بحماسة للخلق والإبداع.
من أبرز لوحات رافاييل أيضاً: “العذراء والطفل”، التي ابتدعتها ريشته الساحرة، “عذراء الكرسي”، وهي معروضة في متحف بتي Pitti في فلورنسا،Madonna del Cardellino (سيدة الحسون) وهي موجودة في متحف أفيزي. يبدو الطفل يسوع في هذه اللوحة آية رائعة من آيات التفكير، ويمثل وجه العذراء حنان الأم الشابة المتسامحة، لذا لا يمكن أن يمحى من الذاكرة. Madonna del Baldacchino ، وفيها تبدو الأم العذراء جالسة فوق مظلة، يفتح طياتها ملاكان، ويقف إلى جانبيها قديسان ويغني عند قدميها ملاكان آخران.
من إبداعات رافاييل في رسم العذراء لوحتان إحداهما ستار مذبح رسم عليه راهبات دير القديس أنطونيوس، ويعتبر اليوم من التحف النادرة في متحف نيويورك، وفيه تبدو العذراء داخل إطار منحوت نحتاً جميلاً، جالسة على عرش والطفل بين يديها يرفع إحدى يديه ليبارك القديس يوحنا تحيط بها القديستان تشيتشيليا وكاترين الإسكندرية، في مقدمه الصورة يظهر القديس بطرس عابساً والقديس بولس يقرأ، وفي أعلاها الله الأب تحيط به الملائكة ويبارك أم ابنه ويمسك العالم بإحدى يديه.
من إبداعته أيضاً، لوحة تمثل مريم الأم الحزينة وهي ترفع جسم المسيح الميت وتقبّل مريم المجدلية قدميه الجريحتين. تمتاز هذه اللوحة بتأليف متكامل يأخذ بمجامع القلب ويجعلها من الروائع التي أبدعها رافاييل ولا ينازعها في ذلك منازع.
كذلك لوحة تمثل العذراء على عرشها، تعلم الطفل يسوع القراءة وإلى يسارها نقولاس قديس باري Bari في ثيابه الأسقفية الفخمة منهمك أيضاً في الدرس، وإلى يمينها يوحنا المعمدان، يشير بإصبعه التقليدية إلى ابن الله. لوحة “دفن المسيح” يظهر فيها المسيح ضامر جسم ممدداً على غطاء وهو ميت، يحمله شاب متين البنية قوي العضلات ورجل ملتح مجهد؛ ومريم المجلية منحنية فوق الجثة، ومريم العذراء فاقدة وعيها في أحضان النساء. تختلف هذه الشخصيات عن بعضها في تعابيرها لكنها جميعها رسمت بشكل دقيق من حيث تشريح الجسم ورشاقته وشفافيته، وقد امتزجت فيها الألوان الحمراء والزرقاء والبنية والخضراء بشكل رائع بحيث اضحت وحدة متناسقة مشرقة، ضمن منظر طبيعي جميل تظهر فيه صلبان الجلجلة الثلاثة تحت سماء المساء.
روح خالدة
قّلما اجتمع في مدينة فنانون عظماء منذ أيام فيدياس مثلما اجتمعوا في روما في عصر رافاييل. كان مايكل أنجيلو يحفر منحوتات ً للقبر الضخم ليوليوس وينقش سقف كنيسة سيستين، برامنتي يصمم كنيسة القديس بطرس الجديدة؛ الراهب جيوفني، فنان فيرونا البارع في الحفر على الخشب، يحفر أبواباً وكراسي ومقاعد للحجرات؛ بيروجينو، وسنيوريلي، وبرودسي يرسمون الجداريات، Ambrogio Foppa المسمى كردسا Caradossa بصنع الذهب على اختلاف أشكاله.
وسط هذا الجو العابق بالإبداع رسم رافاييل لوحات ضخمة للعذراء مريم، من بينها العذراء ذات التاج التي يعود فيها إلى طرازه التقي المتواضع، Madonna della Casa Alba (سيدة البيت الأبيض) تميزت بألوان قرنفلية وخضراء وذهبية، خطوطها كبيرة منسابة كخطوط عرافات مايكل أنجيلو، Madonna di Foligno المحفوظة في الفاتيكان وتمثل العذراء وطفلها فوق السحاب، يشير إليها المعمدان بوجهه الأصفر، Madonna della Pesce (سيدة السمك) المحفوظة في متحف برادو وهي رائعة في أجزائها: وجه العذراء ومزاجها؛ الطفل الذي ظهر بأسلوب فريد لم يكرره رافاييل في أي من لوحاته، ثوب الملاك الذي يقوده، رأس القديس جيروم. تحاكي هذه اللوحة، من حيث التأليف واللون والضوء، لوحة “عذراء سيستين”.
خلاصة القول إن رافاييل ارتقى بالرسم الملون إلى مستوى لم يرقَ إليه فنان غيره في عصر النهضة، وهو يعكس تحرره بأسلوب نبيل في عصر المباهاة والتفاخر.
توفي رافاييل في شبابه بعدما أرهق نفسه في الرسم، فأحاطته روما بالمجد ووضعته في بانتيون الخالدين، ولا عجب في ذلك فهو سطر في شبابه روح روما الوثابة المتطلعة إلى النهوض، ونبض رسمه بالبحث والتجارب في الفضاء والتكوين والتشريح والمنظور وغير المنظور، فعكس عن حق سحر فن الرسم وروحه الوثابة في صفاء ورصانة أين منها موسيقى كبار الكلاسيكيين.
كلام الصور
1- رافاييل بريشته
2- لوحة عذراء سيستين
3- لوحة تتويج العذراء
4- لوحة العذراء رمز الأمومة المثالية
تحبون الفن وتدافعون عن الأصالة والعمل الفني الرائع وللاسف كل هذا لم يمنع من أن تكون مطية للإنقلاب العسكري في بلدكم لتضيعوا أفضل فرصة تاريخية لديمقراطية حقيقية . كيف تفسرون ذلك ؟ مجرد سؤال لأنني حقا محتار في أن كل هذا الفن والتجربة العظيمة لم تطهر القلوب وتصفيها لحماية تجربة لن تتكرر ثانية غلى بعد ستين عاما !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!