بقلم: كلود أبو شقرا
طبع الرسام التشكيلي أرتور k الرسم اللبناني والأرمني على السواء بطابع خاص وفريد، إذ أقام برسومه جسر تواصل بين الحضارتين، وحضنت بيوته القرميديّة المشرّعة النوافذ المُشاهِدَ أيًا كانت جنسيته، وغاصت شخصياته عميقًا في التاريخ، واضعًا نصب عينيه مقولة، “مَنْ لا تاريخ له، لا أرض له، لا هوية، لا وطن، لا بيت”…
ولد أرتور k عام 1945، بدأ حياته العملية بدراسة الطب ثم مارسه سنوات طويلة، فعاين عن كثب معاناة الإنسان وتأثّر بها، وهو الذي تشبّع من مأساة شعبه الذي اضطُهِد واقتُلع من جذوره، إلا أَنّه، بإرادة الحياة المتسلِّحة بالكتاب، تابع مسيرَته في بلدان العالم التي نزح إليها، وأزهر كُتّابًا وشعراء ورسامين، رفعوا القضية الأرمنية على أعلى المنابر.
منذ 25 عامًا تقريبًا، ونتيجة عارض صحيّ تركَ الدكتور أرتور نيقوليان المبضعَ وتناول الريشةَ وراح يرسم ألوان الحياة بكل ما أُوتي من حلم بعالم تسوده شرعة حقوق الإنسان، وينبض بالشعر والموسيقى وكل ما هو جمال، سواء في الإنسان أو في الطبيعة…
أقام أرتور K معارض عديدة في أوروبا والشرق الأوسط وآسيا وأميركا الشمالية، متخذًا من رسم الأكريليك مادة له، وابتكر عبرها لوحات جمعت في بعضها نصوصًا مختلفة وصورًا قديمة وقصاصات ورق ومجلات، في وسطها الحرف الأرمني، بهدف نقل رسالته ومفادها: “رغم المجازر الأرمنية انبثقت إشارات لحقوق الإنسان في أحرفنا”…
حول مسيرته الفنية كان الحوار التالي مع أرتور k.
أنت ابن حضارة تخضّبت بالدماء، كيف تَركتْ تلك المأساة في فنك وفي شِعرك؟
أنتمي إلى جيل عاش هول المجازر وهو يستمع إلى قصص مآسي التهجير عبر الصحارى والتقتيل والذبح على يد العثمانيين، يرويها له أباؤه وأجداده، وقد تشرّبتْ نفوسُنا هذه الآلام، وتلَوَّنتْ بها قصائدنا ورسومنا، فيما جيل اليوم لم يُعانِ منها، فهو قرأَ عنها في الكتب، أو ربّما شاهد بعض المشاهد المُؤثّرة في فيلم “أرارات” لأتوم إيڠويان، من إنتاج المُغنّي الفرنسي الأرمني الشهير شارل أزنافور، أو فيلم “مايريڠ” للكاتب الأرمني الفرنسي هنري فرنوي.
وبرغم المجازر المتكرِّرة في تاريخه القديم والحديث، أسس هذا الشعب الأبي حضارةً أزهرتْ من عمق المأساة إبداعاً فكرياً وفنيًّا، انتشر في أنحاء العالم شِعرًا يدعو إلى الحرية، ومجابهة الظلم والقهر والموت بالريشة والقلم، وإلى التشبث بالأرض والتاريخ والجذور، وكان على مدى السنين، الصوت الذي يُرجّع العالمَ صداه، لا أنيناً وبكاءً، إنّما قوة وتحدّياً وإصراراً، وتمسّكاً بالهوية والانتماء إلى أرض سالتْ عليها دماءُ أبطاله كالأنهر.
إني أعتبر أن جيلنا هو جسرُ تواصُلٍ بين تاريخ المجازر التي راح ضحيتها أباؤنا وأجدادنا، وبين جيل الشباب، ويُكمِلُ الفنانون الأرمن المُعاصرون الطريق التي عبَّدها لهم الشعراء الكبار على مرّ التاريخ، أمثال بدروس توريان، وسيامنتو، ودانيال فاروجان، والرسامون الموهوبون: إيسابكيان، ميناس أفيديسيان، مارديروس ساريان، ميليكيان… ولا شكَّ في أن ما يجري اليوم من مآسٍ في حلب يُدمي قلوبنا ويوقعنا في المأساة نفسها التي عاناها أجدادُنا، ولا بد من أن تُفرز أدباً وفناً يُزهران من قلب هذه المأساة.
هل انصرافك إلى الشعر والرسم هو هروبٌ من مهنتك كطبيب وما تشهد من أمراض الناس وآلامهم؟
أبداً، فأنا أعشقُ مهنتي كطبيب لأني أعملُ جاهداً على تخفيف آلام الناس، تعلّمتُ وتخرّجتُ في أرمينيا، واليوم أنا عضوٌ في رويال كوليج بلندن. لكنني ترعرعتُ منذ طفولتي في أجواء الأدب والفن، حيثُ ولدتُ في دمشق، وتربّيتُ وسط عائلةٍ تهوى الآداب والفنون، وفي صبايَ أنشأتُ صداقةً مع كبار الفنانين الأرمن من بينهم: كوتشار، پراجانوف، ميناس أفيديسيان، إيسابكيان، إليبكيان… هؤلاء هم رفاق دربي وأعتبرهم أيقونة الشعب الأرمني، كذلك ليفون نارسيسيان الناقد الكبير كان من أوفى وأعزّ أصدقائي. وكنت على تواصل مع كثير من أرباب الشعر الأرمن، وأذكر هنا الشاعرة الراحلة سيلفا كابوديكيان التي احتفلنا بعيدها الثمانين في بيتي لدى زيارتها إلى لبنان، وابنها النحات آرا شيراز ( رئيس جمعية الفنانين في أرمينيا وابن الشاعر الكبير هوفانس شيراز) الذي زار لبنان أيضاً وشارك في سيمبوزيوم النحت في راشانا وله منحوتة هناك.
تستعمل في لوحاتك تقنية تجميع نصوص وصور قديمة، وقصاصات من صحف ومجلات وأحرف أرمنية، هل لك أن تشرح لنا إلام تهدف من كل ذلك؟
صحيح، هذه التقنية فيها بعض من أسلوب باراجانوف، أريد من خلالها القول إنني لا أتقيّد بمدرسة معينة، بل لدي حرية التعبير في كل ما أرسم وأكتب، وعندما أبدأ برسم لوحة أتطلّع حولي وأستعمل ما أجد من قصاصات ورق وغيرها، لأنها من صلب حياتنا اليومية، وأود من خلالها اختراق الواقع، أعتبر نفسي هاوياً ولست محترفاً، وسأبقى كذلك لكي أبدع وأنطلق من بوتقتي الضيقة إلى العالم الأوسع. فأنا لا أطيق القواعد في الرسم ولا أنتمي إلى أية مدرسة… وأكبر الفنانين في العالم مثل بيتر بروك وسومرست موم كانوا أطباء وبرعوا بالفنون التشكيليّة…
هل المجازر التي تعرّض لها الشعب الأرمني حفّزتك على الدفاع عن حقوق الإنسان في لوحاتك؟
المجازر التي تعرّض لها الشعب الأرمني تستمر فصولها مع شعوب أُخرى، ولم تكتفِ بعد من الدموية ولم تملّ من الوحشية. حُصد الأبرياء في مختلف أرجاء العالم، حتى بات الإنسان رخيصاً والموت حالة عادية، ويتطلع العالم إلى المآسي عبر شاشات التلفزيون، وكأنّه يتابع شريطاً سينمائياً، من هنا حملي لواء قضية حقوق الإنسان في أي بقعة من الأرض، بعدما أضحت كذبة كبيرة يتشدّق بها العالم لتمرير مصالح القوى العظمى في حين أنّها لا تجد موطئ قدم على أرض الواقع.
كونك كاتباً ومفكّراً وشاعراً ورسَّاماً بِِِمَن تأثّرت من المفكرين في العالم؟
تأثّرت بأينشتاين وفرويد لأنَّهما غيّرا المفاهيم التي كانت سائدة، وقد قلبا النظريات البالية رأساً على عقب، فبعدما طُرد أينشتاين في طفولته من المدرسة، اشتغل على نفسه وأضحى أهم شخصيّة في العالم.
أما التأثير الأكبر فكان لوالدي، على الرغم من تفوّقه في الهندسة، أُجبِر على الخروج من لواء اسكندرون إلى حلب وكان في سنته الجامعية الثانية (1939) بعدما ضمت فرنسا لواء اسكندرون إلى تركيا، ولجأ بعدها إلى عنجر. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عمل في السفارة الأميركية في دمشق، وفي دار الهندسة ببيروت… ورغم كل المعوّقات التي واجهته، إلا أنه بقي محافظاً على هدوئه، ولم أسمعه يوماً يشتكي أو يتذمّر، وأمسى بالنسبة إلي، مدرسة في الحياة، ولذلك أذيّل أعمالي “أرتور k” أي كابريال وهو اسم والدي.
كيف تقيّم الحركة الفنية الأرمنية في العقود الأخيرة؟
حفلت ستينيات القرن الماضي برسامين كبار في أرمينيا، فجروا إبداعاً لا تزال أصداؤه تتردّد لغاية اليوم، وكان من المتوقّع أن نشهد تفجراً للفنون بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لكن هذا لم يحصل، ونشهد للأسف اليوم تدهوراً للفنون، في العالم كله، بسبب سيطرة المال والربح السريع. ولم يعد القلب والإحساس يحرّكان ريشة الفنان، بل المال للأسف، وهذا الأمر يطاول الفنون كافة حتى الهندسة، وإذا نظرنا حولنا في بيروت، نلاحظ أن الباطون يطغى على جماليات الأبنية الحديثة، والقصور، أما البيوت القرميدية التراثية فقد هدمتها الأيدي العابثة… وأعتبر ذلك جريمة بحق الإنسانية تقضي على حضارة شعب بأكمله.
هل لهذا السبب رسمت مجموعتك “البيوت الذهبية”؟
كانت البيوت في الماضي الشاشة التي تودي بالصوت والصورة إلى البعيد، لذلك أردت في مجموعتي هذه التي استعملتُ فيها تقنية mixte أن أدق ناقوس الخطر من اندثار جوانب مهمة من تراثنا ومن هويتنا، وتحلّ محلّها أبنيةٌ لا هوية لها ولا انتماء، وهنا أتساءل، هل يجوز هدم أحد قصور حي سرسق في الأشرفية لبناء مجمّع تجاري مكانه، ألهذا المستوى بلغ حب المال عند بعض المستثمرين، لدرجة أنَّهم لا يأبهون بالحفاظ على جذورنا الأصيلة وتراثنا العريق، وقد سمّيتُ مجموعَتي البيوت الذهبية، فال
بيت يرمز إلى الأمان والاستقرار، الذاكرة والذكريات، وللأسف بات اليوم مجرّد أحجار تكوّمت فوق بعضها البعض، وهندسة غريبة تشعرنا بالغربة.
كيف تحاول أن تمحو هذه الغربة التي باتت تسيطر على محيطنا؟
من خلال التمسك بأصدقائي الذين يؤمنون مثلي بضرورة الحفاظ على تاريخنا وأرضنا، وأذكر في هذا المجال رجل الأعمال يرتشو صاموئيليان الذي لا يألو جهداً في دعم الثقافة، سواء الأرمنية او التي تتعلّق بلبنان باعتبار أن الأرمن في لبنان انصهروا في نسيج هذا المجتمع وباتوا شريحة كبيرة منه، ولطالما حدث في محطات تاريخية عدة تبادل وتلاقح بين الثقافتين. وكان ليرتشو الفضل الأكبر بإعمار كنيسة سان فارتان ببرج حمود وصالتها الرائعة، كذلك مطران لبنان للأرمن الأرثوذكس كيغام خاتشريان الذي أسس جمعية three-color foundation التي تساعد المبدعين في إنجاز أعمالهم إلى أي لغة او طائفة انتموا، وأنا فخور بصديقيَّ لأنّهما تجاوزا الأبعاد الطائفية وكرّسا نفسيهما لخدمة الثقافة والإنسان.
على ذكر تبادل الثقافة بين الحضارتين العربية والأرمنية، صدر أخيراً كتاب شعراؤنا ويتضمن ترجمة مجموعة من الشعراء الأرمن إلى العربية أنجزته الأديبة جولي مراد، ونشرته “دار المراد”، وبما أنك كنت على اطلاع على هذا المشروع، كيف تُقيِّمه؟
أعتبره إنجازاً مهماً لأنه عرّف كبار الشعراء الأرمن إلى اللبنانيين والعرب، هؤلاء الذين حملوا البندقية بيد والكتاب بكف، وقد نجحت المترجمة في نقل أحاسيس الشعراء الأرمن وروحهم، عبر كلمات متناغمة تميَّزَت بموسيقى جميلة، جعلتنا نعتقد أن هذه القصائد مكتوبة بالعربية أصلا، وليست مترجمة. وهنا لا بد لي من توجيه تحية إلى القيّمين على هذا العمل، أي “دار المراد” لأنهم آمنوا بضرورة التعريف بكبار الشعراء الأرمن والرسّامين… ونظراً إلى شموليته بات هذا الكتاب بمثابة مرجَع يُمَهّد لكتب أُخرى تُكمل ما بدأه، لأن الأدب الأرمني يَزخَر بشعراء كبار ورسامين، يجدر ترجمة أعمالهم والإضاءة عليها.
لماذا تسيطر على لوحاتك ألوان الأسود والأحمر والأزرق والذهبي؟
الألوان التي أستعملها هي ابنة اللحظة ولا أُخطط لها مسبقاً، لكنني أُحب الأحمر، لأنه لون أرمني، وهو بالأرمنية “غارمير” وينبثق من دودة، وقد استعمله رسامو المنمنمات الأرمن في عصر النهضة لا سيما طوروس روسلين. أما الأسود فربما يرمز إلى الظلمة التي نعيشها اليوم بسبب الأوضاع المتوتّرة، أمّا الأصفر والذهبي والأزرق، فترمز إلى بداية جديدة، لأنّ بعد كل تدمير وقهر وظلم، لا بد من بداية جديدة وأمل جديد…
في لوحاتك تتجاور وجوه كلاسيكية مثل ليوناردو دي فنشي، ووجوه حديثة مثل فرويد وبرخت وبافاروتي …
أحرص على أن أبيّن الوجه المضيء من تاريخ الحضارة الإنسانية، لكي أُدين الوجه المظلم لحضارة اليوم التي وصلت إلى حد استنساخ الكائنات، ولا نعلم ما الذي يخطط له العلماء في المستقبل من تلاعب بالجينات وربما محاولة استنساخ إنسان… هل التكنولوجيا اليوم باتت تعني خلط الأوراق وفوضى، وتغيير مسيرة الكون الطبيعية؟ لنتأمل بافاروتي هذا الفنان العظيم الذي يغني فاتحاً يديه للأمل والحياة ويدعو إلى الحب، هذه هي الحياة بالنسبة إلي وليس استنساخ النعجة “دولي”.
كذلك تتجاور في لوحاتك وجوه فينيقية وحديثة، إلامَ ترمي من خلال هذا الربط بين التاريخ القديم واليوم؟
أرمي إلى إظهار مدى تطور الحضارات القديمة. اليوم ما زلنا نجهل كيف تمّ بناء بعلبك مثلا والهياكل الضخمة فيها، ونعجز عن القيام بأمور نفذها القدماءُ بوسائل بدائية، معتمدين على فكرهم الخلاق وسواعدهم المتينة.
كيف تجمع في اللوحة الواحدة بين الرومنسية والعنف، وما أهمية ذلك على صعيد تركيب اللوحة؟
ثنائية الحب والعنف، الخير والشر… هي جزء من حياتنا التي هي عبارة عن مجموعة من السلبيات والإيجابيات، يفصل بينها خيط رفيع، لذا أود من خلال لوحاتي، أن أُظهر النواحي الإيجابية، وأذكّر العالمَ بالحب وبالفرح، وبضرورة العمل للخير العام على الدوام، وبهذه الطريقة نخدم قضية حقوق الإنسان.
أين موقع المرأة في لوحاتك؟
هي مصدر إلهامي ورمز الجمال والعطاء، وأنا أراها كذلك في مراحلها العمرية كافة. كطبيب أتعامل مع المرأة كمريضة تقصدني لأُعالجها، أما كفنان فأرى المرأة محور الكون وتتمتع بجمال أبدي. هنا أطبق مقولة الشاعر الأرمني الكبير فاهان تيكيان “أن الفتيات الجميلات اللواتي مررن أمام عيني يتأملنني من بعيد”، أي ان صورتهن في عيني تبقى كما رأيتهن للمرة الأولى.
عرضت في أنحاء العالم فكيف كان تفاعل الناس مع لوحاتك؟
تتميّز لوحاتي بالغرابة، لذلك فهي تصدم المتفرّج، وتترك لديه ردة فعل قوية، قد تكون سلبية في بعض الأحيان، لكنّ غالبية الشبان يحبّونها، لأنهم يعرفون قراءتها، ويفهمون من خلالها رفضي للدماء والظلم والشرّ ومحبّتي الشاملة للإنسانيّة. في أعمالي يبرز النقيض نقيضه وينتصر الحبّ والجمال والسلام على البشاعة واليأس والحزن.
كلام الصور
1- من أعماله
2- أرتور K
3 – 4 – 5 من أعماله