بقلم: كلود أبو شقرا
إنها مريم العذراء سلطانة السموات والأرض، ملكة القلوب، مصدر الرجاء والتعزية، نبع الحنان… من غيرها أولى بأن تكتب فيه قصائد وموسيقى؟ ملهمة هي وحاضرة دائماً في كل عصر أو جيل أُبدعت على صورتها النقيّة الطاهرة أروع الأعمال الفنية، أبرزها على الإطلاق الألحان التي وضعت لـ “السلام عليك يا مريم” أو باللاتينية Ave Marie صلاة التبشير الملائكي، التي ترددت منذ عصر النهضة ووقّعها Josquin Des Prez، أورلاندو دي لاسو، Giovanni Pierluigi da Palestrina، كذلك أسرت موزار، بيرد، إلغار، Saint-Saëns، روسيني،براهمز، سترافنسكي، شوبيرت، بيروسي، رخمانينوف، سترافنسكي، Bortniansky، انتهاء بـ فلاديمير فافيلوف في سبعينيات القرن العشرين…
تعود شهرة هذه المقطوعة الموسيقية الرائعة إلى جان- سيباستيان باخ (1685- 1750) الذي وضع لحناً لها في إحدى مجموعات مؤلفاته الموسيقية االتي تُعرف بـ Clavier bien tempéré (1722)، وقد بنى المؤلف الموسيقي الفرنسي Charles Gounod (1818-1893) على المقدّمة الأولى Prelude لحناً مع كلمات باللاتينية (1859) فأضحت أشهر نسخة لهذه المقطوعة.
في الأساس ارتجل شارل غونو هذه المقطوعة على البيانو، انطلاقاً من هذه الموسيقى الارتجالية ابتكر عازف البيانو Zimmermann (والد زوجته) نسخة على الكمان مرافقة بجوقة صغيرة. في ما بعد أنجز توزيعاً للمقطوعة على الكمان والبيانو في عنوان “تأملات”، وأصدرها مع الناشر Heugel تحت عنوان Ave Maria de Gounod واعتمد فيها النص اللاتيني الكلاسيكي، فأضحت المقطوعة الأشهر في أعماله.
تمتاز هذه المقطوعة بنغماتها الساحرة التي أسرت زيمرمان، ولم يكد غونو يعزفها للمرة الثانية حتى حفظها زيمرمان ودوّن على الفور نوتاتها، وبعد أيام وزعها، فجاءت أجمل المقطوعات التي أداها أشهر مغني الأوبرا على مدى الأجيال وصولا إلى اليوم، وفي كل مرة تُقدّم تتجدد بنور بشارة مريم المتوهج على مدى الأزمان …
ألهمت فرانز شوبرت (1797-1828)، عندما كان في التاسعة والعشرين من عمره، فكتب موسيقى للبيانو لتمجيد العذراء مريم ونشرها للمرة الأولى عام 1826. في الحقيقة كتب شوبرت الموسيقى (1825) لأشعار والتر سكوت في أوبرا “سيدّة البحيرة” The Lady of the Lake، وفيها تصلّي هيلين سيدة البحيرة للعذراء مريم في المقطوعة الثالثة لهذه القصيدةEllens Gesang III, D839, Op 52 no 6 على ألحان وكلمات الصلاة الملائكية لتمجيد مريم وعرفت بـ Ave Maria أيضاً. وقد ترجمها إلى الألمانية آدم ستروك.
ألف كلاوديو مونتيفردي (1567-1643) سوناتا لثمانية أصوات تمجيداً للعذراء مريم وأهداها إلى البابا، وألف شوبان (1810- 1849) نشيد مريم العذراء، ووضع روسيني (1792- 1868) لحناً من وحي Ave Maria.
مع أنهعرف بسمفونياته، إلا أن لودفيغ فون بيتهوفن (1770-1827) هو مؤلف موسيقى دينية أيضاً، من أشهر مقطوعاته على الإطلاق Missa Solemnis, التي تعتبر أهم موسيقى دينية على الإطلاق ، تزخر بتعبير عميق للإيمان وتمجيد العذراء مريم التي عشقها وعاش حياته يعبدها، ويقال إنه لفظ أنفاسه الأخيرة في 26 مارس/ أذار 1827 وعيناه مسمرتان إلى صورة العذراء واعترف: “لم أتخذ زوجة لي بل بقيت طفلا ومريم أمي”، ولطالما حثّ صديقه لودفيغ Rellstab على كتابة نص يذكر بآلام العذراء وهي ترافق ابنها على درب الجلجلة.
يوهانز براهمز (1833- 1897) الذي اعتبر خليفة بيتهوفن، ألف مقطوعات عدة لمريم من بينها Ave Maria (pour chœur féminin et orchestre op. 12)، بينما ألف فرانز ليست (1811-1886 ) أكثر من مقطوعة. أما غابريال Fauré (1845- 1925)، فكتب ثلاث مقطوعات لمريم من بينها: Ave Maria (pour voix féminines et harpe)، وكتب Camille Saint Saens (1835- 1912) أوراتوريو الميلاد: Ave Maria.
عاش المؤلف الموسيقي الإيطالي نيكولا زينغاريلي (1752- 1841)، في ظل Notre Dame de Lorette وألف من وحيها 18 مقطوعة حول آلام مريم قرب ابنها على الصليب، وألف Luigi Cherubini (1750- 1842) موسيقى جديدة لـ Ave Maria .
كان جيوسيبي فردي (1813- 1901) موسيقياً عطيمأً، مع ذلك عاش طيلة حياته ببساطة فانطبعت مقطوعاته الموسيقية بها ، وفي وصيته طلب أن تكون جنازته بسيطة: كاهنان وشمعتان، من دون أن ينسى الابتهال إلى العذراء مريم. كان يحضر القداس باستمرار ويشجّع المحيطين به على حضوره. برزت حماسته الصوفية في أعماله من بينها: Ave Maria، وصلاة دانتي إلى العذراء التي كتبها في القسم الثالث من الكوميديا الإلهية واصفأً إياها بوردة الجنة.
تعدّ الكوميديا الإلهية من أهم وأبرز الملاحم الشعرية في الأدب الإيطالي، ويرى كثيرون أنها من أفضل الأعمال الأدبية على المستوى العالمي. تتمحور حول نظرة خيالية إلى الآخرة بحسب الديانة المسيحية، وتحتوي فلسفة القرون الوسطى كما تطورت في الكنيسة الغربية (الكاثوليكية الرومانية) موزعة على أقسام ثلاثة رئيسة: الجحيم، المطهر، الجنة.
دون لورنزو بيروزي (1872- 1956)، عرف بموسيقاه السهلة والنبيلة والعميقة، أهدى أوراتوريو Dies iste (1904)، إلى العذراء مريم. قُدّم للمرة الأولى في الفاتيكان في 9 كانون الأول 1904 في حضور البابا بيوس العاشر، وفيه مقطوعة في عنوان “كم أنتِ جميلة”، وينتهي الأوراتوريو بالتهليل: مريم، مريم، مريم… Ecce Ancilla Domini موسيقى تغني جواب العذراء مريم إلى ملاك البشارة، وتفسر نغمات الآلات الوترية استعداد مريم لتكون أم الرب يسوع…
بعد ارتداده إلى الأرثوذكسية، طائفته عندما كان يافعاً، ألف إيغور سترافنسكي (1882- 1971) ثلاث مقطوعات موسيقية دينية من بينها: Ave Maria (1930).
المؤلف الموسيقي الروسي فلاديمير فافيلوف (1925- 1973) سجل عام 1972 ميلوديا مستوحاة من Ave Maria للمؤلف الموسيقي الإيطالي جيوليو كاتشيني (1551-1618). وقد سجلتها السوبرانو إينيسا غالنتي بصوتها عام 1995، بعدما استمعت إليها أثناء جولة غنائية لها في روسيا، وراحت تغنيها في حفلاتها، فحققت شهرة واسعة في روسيا وفي أوروبا والعالم.
مع أنه توقف منذ فترة طويلة عن ارتياد الكنيسة والصلاة، إلا أن سيرغي رخمانينوف (1873- 1943) خصّ العذراء مريم بحركتين في مؤلفه الموسيقي الديني Les Vigiles nocturnes المكوّن من 15 حركة، هما: “إفرحي يا مريم” (الحركة 6)، “أيتها الملكة الممجدة” (15الحركة ).
مغنو الأوبرا
مهما كانت حفلات الأوبرا ضخمة واحتوت أعظم الموسيقى وأروع المقطوعات لن تكتمل إلا مع أداء Ave Maria على مدى أيام السنة. هكذا أبدع فيها كبار مغني الأوبرا، فمنهم من أدى مقطوعة باخ-غونو ومنهم من أدى مقطوعة شوبيرت… إلا أنهم جميعهم أدوها بحنان كبير لمريم العذراء، فقد غنى لوتشاينو بافاروتي Ave Maria شوبيرت، سارة بريغتمان Ave Maria باخ، ماريا كالاس غنت شوبيرت، أكيكو شيكاتا (يابانية) وأندريا بوتشيللي غنتا غونو-باخ، ماريو لانزا غنى النسخة اللاتينية لشوبيرت، كذلك غنتها نانا موسكوري، بياتريس غوبان، شارل أزنافور، روبرتو ألانيا، جوزيه كاريراس، بلاسيدو دومينغو…
Ave Maria استوحاها نوا من غونو، وغنتها سيلين ديون في ألبومها These Are Special Times (2008) مستوحاة من شوبيرت، وغنتها أليسيا كايز في مهرجان سان ريمو (2002)، كذلك دافيد بيسبال وكانت سبب شهرته وتندرج ضمن ألبومه Corazon latino. (2002)، وغنتها بيونسيه في ألبوم I am … Sasha Fierce (2008)، كوكيا (2008)، جاكي إيفانشو في ألبوم Prelude to a dream (2011).
جورج براسينز لحن وغنى قصيدة “صلاة” من تأليف الشاعر فرانسيس جامسّ (1905) وتتضمن خمسة مقاطع: اللآلام، إكليل الشوك، حمل الصليب، الصلب، الموت، وقد زينها في 1906 بصلاة المسبحة الوردية. تعتبر من أجمل الأغاني التي أداها براسنز.
في السينما
أفلام سينمائية لا تعدّ ولا تحصى حملت عنوان Ave Maria، وهي في معظمها لا تتناول بشارة العذراء مريم، إنما استوحت منها قصصاً اجتماعية تركز على قيم التواضع والتفاني والقبول بمشيئة الله، وعلى الحلم بحياة أفضل وإنسان أكمل، بعيد عن آفات العصر المتزايدة التي تشوّه صورته وتغرقه في قاع الشر بدل الارتقاء به نحو الخير…
ظهر الفيلم الأول من إخراج البريطاني ويلفرد نووي (1918)، بعد ذلك تتالت سبحة الأفلام لمخرجين أوروبيين وأميركيين من بينهم: الإيطالي ميمو جينويا وديانا كارين (1920)، ماكس Ophüls الذي اخرج فيلما استوحاه من Ave Maria لشوبيرت (1935)، جوهانز Riemann أخرج فيلمين إنتاج ألماني- أيطالي مشترك (1936)، الألماني ألفريد بروون (1953)، الفرنسي جاك ريشار (1984)، المكسيكي إدواردو روسوف (1999)، البرتغالي جوا بوتلهو(2006).
يتناول فيلم جاك ريشار (1984)، قصة ماريا، فتاة في الخامسة عشرة من عمرها تعيش في مجتمع مغلق في القرية، تتمرد على واقع الخضوع الذي يعيشه سكان القرية خوفاُ من استبداد الأقوياء في القرية وتتعرض لشتى أنواع العذاب.
“السلام عليك يا مريم” فيلم من إنتاج فرنسي-سويسري مشترك إخراج جان-لوك غودار(1985): ماري طالبة تمارس رياضة كرة السلة وتعمل عند والدها، جوزف سائق تاكسي، يعمل الملاك الحارس على إقناع يوسف بقبول حمل مريم، أي أن الفيلم يقدم نسخة معاصرة لمريم ويوسف…
“ماريا مليئة النعمة” (2004)، فيلم كولومبي، إنتاج مشترك كولومبي- أميركي، إخراج الأميركي جوشوا مارستون: ماريا كولومبية شابة بعمر 17 عاماً تهرب من مدينتها الصغيرة قرب بوغوتا الرازحة تحت المخدرات والفقر وهي حامل من طبيب أميركي، وتسافر إلى أميركا وتعاني أبشع الظروف، فتتحدى مروجي المخدرات وتتحرر منهم وتتفرغ لتربية ابنها وهي مليئة بقيم الخير والحب والتضحية والإخلاص…
كلام الصور
1- لوحة التبشير الملائكي لـ Francesco Granacci
2- جان-سيباستيان باخ
3- Ave Maria شوبيرت
4- شارل غونو
5- رخمانينوف
6- لوتشيانو بافاروتي
7- ماريا كالاس