“على شفا جسد” نشيد حب في زمن مشؤوم (*)

 بقلم: د. سلوى الخليل الأمين (رئيسة ديوان أهل القلم)

 guilaf rasha لم أدر والصديقة رشا فاضل تخاطبني عبر الهاتف لكي أشارك في ندوة حول روايتها “على شفا جسد” أنها ستعيدني فورا إلى مطارح الحنين وخفق الأشواق وهتاف الحكايات ومواسمها الجميلة المطبوعة في ذاكرتي...

لم أكن أعلم أنني سأوقع فوراً على ارتقابات مشهديات قرأتها في روايتها “على شفا جسد” آلمتني… واغتالت الفرح من وجهي… وألقت برذاذ القهر المفجع على محياي… وأمدتني بشحنات من الغضب… جعلتني أسوح في ميادين العروبة، أفتش عن كرامات أهدرت في ساحات العراق.

وللعراق في خاطري هدهدات طفولية مغناجة، حملتني على زند أمي… وأرجعتني إلى مشهديات مضت كنت فيها أغب من عذوبة الأغنيات العراقية، المشبعة من سحر العشيات وبدرها المنير… ومن تعابير تدبج كل الحنان، برقة مفردات غزلت نسائم الشعر … رقراق دمع، يتوسل الهوى العذري، المترسل فوق أحلام العرائس، المحمولة على أكف الحياة، قرابين نذور وفداء… لأرضك العراق… المتأرجحة مجدا فوق سلالم العصور.salwa-3-jpg

وفجأة قفزت إلى خاطري بغداد، موطن القصائد، وحقب التاريخ، وقبلة الآتين إليها من معارج الدهور، وتهيؤات الهوى المنثور طيباً على ضفاف دجلة والفرات، ونسائمهما الملتفة شعشعانية أنوار، ترسم ألوانها على صحائف القلوب أساطير حب… تنز هوى، بين الرصافة والجسر من حيث ندري ولا ندري.

فبغداد هي كل هذا العبق المضمخ بالطيب وذكريات الصبا المصقولة بحداء السنين، أعادتني إليها فجأة الصديقة رشا، وأنا على قاب قوسين من تلاحم غرامي مع كل ما هو عراقي، أفقدنيه الزمن القاهر، وإن لم يغادر بيتي في العشيات العكاظية حين “استكانة” الشاي النجفي المعطر بوهج الشعر… نرتشفه رويداً من ذاكرتنا الحاضنة قصائد بدر شاكر السياب ومهدي الجواهري ولميعة عباس عماره ونازك الملائكة،  وكل زمان بغداد الملون ساحات العراق ببريق الشعر العربي، المرسوم على سبحات الحياة، أبجدية طقوس، وإرثاً حضارياً، وتاريخاً موصولا بالدم، والنبض الذي لا تميته عاديات الزمان وألوانه المخططة بالحقد والقهر والعتب.

لهذا دعيني يا رشا، قبل أن أخوض في مجاري الدمع الذي اسقطته على قلبي، وأنا أقرأ روايتك “على شفا جسد”  أن أعود معك إلى بغداد، عاصمة الحكمة والرشيد والمواسم المشتعلة ببروق الحضارات… المنضدة بماء الأدهار، ورحى الصباحات الواقفة على هامات النخيل، الممتدة، بين الفيافي وبوادي الكبرياء، على قصب الحناجر التي تمتص سر الوجود، وانقشاع الرؤى الظلامية، التي رفعت على فوهات بنادقها… أنوثة الهنيهات، ونبؤات الحياة، وعبق الوجد المعلق بأهداب الغربة المستجدة، التي محت الأنس من حاراتك والدروب، حين ظن المحتل الغادر، أن ناسك هم أرقام مدونة في سجلاته، وأن إرثك التاريخي مشاع مباح له، وأن عقول بنيك أداوات طيعة في فضاءات غدره… ومكره… وخططه الاستعمارية الدفينة.

فيا بغداد… دعيني اليوم وأنا هنا معك في هذا المركز الثقافي العراقي … أبوح لك بأسرار حبي، التي لم تفارق خاطري، والتي سكنت الخافقين منذ عهد الطفولة، لهذا بقي رنين الصدى والدفء المتساقط من ضوء قمرك متوثباً في طيات المهج، لهذا أنبئك بأن لهيب العواطف المحمولة على ظهور الخمائل ما زالت متأهبة لسكب قوارير العطر المصفى شوقاً إلى تاريخك، ومجدك، وتراتيل كنائسك، وهمسات مساجدك، وابتهالات مآذنك، القائمة بكرة وعشيا، تسبح الرحمن الرحيم، ترفع آهات القلوب وبخورها المطيب بالمسك، أدعية غفران، تعلقها على أسوارك العاليات، التماع حضارات لمجدك التليد، المحفور في ذاكرة الزمن، حرزاً يقيك مصادر التعب والغم… وغدر الظالمين.rasha-2

وأعلمك يا بغداد، أنني لم أدرِ وأنا أقرأ رواية “على شفا جسد” للصديقة رشا فاضل، أن يراع رشا هو سيف قادر على تمزيق أحشاء المعتدين الظالمين، وأن تلاوين الأحداث أثبتت أن الحلم العراقي لا تستطيع قوة في هذا العالم مهما علا شأوها، أن تمتد إلى محو تاريخك من صحائف الأمم المشرقات، وأن الطفل العراقي قادر على امتصاص الألم والحزن والوجع… وأن المرأة العراقية فارسة ميدان، لا تهزها النائبات ولا ينهزم سيفها البتار أمام مطامح القوى المستكبرة والضالة، وأن الشعب العراقي، برمته، قادر على الصبر ومواجهة الغطرسة العالمية، وظلم ذوي القربى … ومرارة الأمكنة والأزمنة المتبدلة والمتغيرة، وأن لا أيادي بعد الآن ستمتد لإطفاء مشهديات الضوء من مرابع العراق… المزنرة بأسرار الوجود..

لهذا دعوني أشهد أن رواية رشا  “على شفا جسد” هي بالفعل هوية وطنية  تثبت أن العراق، سيبقى الوطن البهي الذي لا يرتمي على شفا جسد، ولا يصلب في زمن الغضب،  وأنه الوطن المكتمل بالروح والجسد … لأنه عانق الحب البهي في الزمن الصعب وما زال، ولأنه تحمّل المواجع رسالات ضوء وعتب، ولأنه موطن الحب العذري الهارب من جراحات الريح المسمومة، ولأن مواعيد الصباحات في حاراته الندية.. ما زالت  متأهبة، رغم حواجز النقمة والغدر، وتعرج المسارات، واجتياح الفصول التي لم تزده إلا إيمانا بكرامة… رغم أنها أهيضت على مذابح الحرية، واستبيحت في ليالي الحشر، من أناس لا يشبهون ناسه، ولم يقرؤوا تاريخه ولم يتعرفوا إلى حضاراته المتعاقبة، ولم تلامس وجوهههم نسائم جنائنه المعلقة في بابل وعصور أسرحدون ونبوخذنصر، ولم يشموا عبير أزاهيره المنداة بترياق الفجر الصاعد من سراب المشهديات في سهوب البصرة وفوق ضفاف الرافدين، بالرغم من أنهم أرادوه سجناً مسوراً بالغضب والقهر والظلم، فعلمهم أن لديه فوارس يتقنون امتشاق السيوف من أغمادها، ويعرفون كيف  يعمدون سيادة الوطن بالدم والشهادة، غير آبهين بالموت الذي زنر مشهدياته اليومية بالإباء، وشوارعه الألوفة التي ما زالت شاهدة على عصف الرياح ،وهمجية المستكبرين المستعمرين، بالغضب.

نعم هي روايتك يا رشا ” على شفا جسد” التي حركت كل هذه المشاعر التي ما زالت تعب من دنان خمرة معتقة بأمداء السنين، المسحورة بقمر بغداد، ونينوى، وسر من رأى، التي تتجمل بأبجدية… تلتف بمخيلة الشعراء  والكتاب، ومنهم أنت يا عزيزتي، حيث حملت كل ما حدث في العراق من مآس إبان الاحتلال الأميركي المشؤوم، وغرسته في ذاكرتنا صفحات لا تطويها السنون، بل يرفعها العقل والقلب على مراح الزمان المتعطش للهفة الفصول المشرقة من جديد في العراق.  ولهذا كان الفصل الأخير من روايتك هو للربيع الذي يختبيء في ظلال بهائه رجل وامرأة، يعزفان على أوتار الحب، نشيدهما القائل… تحيا العراق.

*********

 (*) ألقيت في الندوة حول رواية “على شفا جسد” للروائية رشا فاضل  في المركز الثقافي العراقي بيروت ـ فردان بلازا ـ الأثنين في  9/ 9/ 2013.

كلام الصور

1- غلاف الكتاب

2- د. سلوى الخليل الأمين

3- الروائية رشا فاضل

اترك رد