“إنّ أمّي وأخوتي هم هؤلاء الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها” (لو8: 21)
1. إغتنم الربّ يسوع الفرصة ليشرح للذين أخبروه عن وجود أمّه وأخوته في خارج البيت، أنّ كلّ مَن يسمع كلمة الله ويعمل بها، يدخل في علاقة أمومة وأخوّة روحيّة معه؛ وليشرح أيضًا سرّ أمومة مريم امه. فهي سمعت كلمة الله وقبلتها في روحها وقلبها بإيمان ورجاء ومحبّة، وجسّدتها في أعمالها وأقوالها. فأصبحت هذه الكلمة جنينًا في حشاها. وقد قال عنها يوحنّا الرسول في بداية إنجيله: “الكلمة صار بشرًا”(يو1: 14).
إنّ القديس يوحنّا بوسكو، الذي نحتفل بتكريم ذخائره، عاش هذه القرابة الروحية مع المسيح، ثمّ مع الشبيبة التي أحبّها كأبٍ كثير الحنان، حتى أعلنه الطوباوي البابا يوحنّا بولس الثاني سنة 1989 “أبا الشبيبة ومعلّمَها“. أمّا هو فترجم هذه العلاقة كأبٍ ومعلّم بقوله المحبّ: “يكفي أنكم شبيبة لكي أحبَّكم كثيرًا“. يتزامن تكريم ذخاشر القديس يوحنا بوسكو، هنا في بازيليك سيدة لبنان، حريصا، مع عيد ميلاد أمِّنا وسيدتِنا مريم العذراء الذي نحتفل به غدًا.
2. يسعدنا أن نستقبل معكم ذخائر القديس يوحنّا بوسكو التي تجوب لبنان، في ظرف يعيش فيه الشعب، وبخاصّة الشباب أزمة المصير والمستقبل، بسبب الأوضاع المأساويّة في الشرق الأوسط، وتداعياتها على لبنان، المنقسم سياسيًّا – مذهبيًّا. وبسبب هذا الانقسام تتعثّر فيه المؤسّسات الدستورية، وتشتدّ الأزمة الاقتصاديّة والمعيشيّة والاجتماعيّة، ويتزعزع الأمن في الداخل بداعي تفشّي السلاح غير الشرعي وبروز ظاهرة الأمن الذاتي. ويجتاح لبنان، الصغير في مساحته، والمحدود في إمكانياته مليونُ ونصف المليون من الأخوة النازحين من سوريا، هربًا من الحرب والعنف والقتل والدمار، مع ما يحمل هذا النزوح من نتائج سلبية اقتصاديًّا واجتماعيًّا وإنسانيًّا وأمنيًّا.
إنّ زيارة الذخائر المقدّسة لمختلف المناطق اللبنانية، زرعت وتزرع الإيمان والفرح، اللذين هما عنوان هذه الزيارة: “دون بوسكو بيننا إيمان وفرح”.
3. مذ ارتسم دون بوسكو كاهنًا سنة 1841، راح يعتني بالصبيان المشرّدين والشبيبة الضائعة في تورينو بإيطاليا. وقد بدأ رسميًّا رسالته في 8 كانون الأول من السنة نفسها، وهو تاريخ نبويّ أصبح، بعد 13 سنة، عيد الحبل بلا دنس. أي 8 كانون الأول 1854، يوم إعلن الطوباوي البابا بيوس التاسع عقيدة الحبل بلا دنس. كانت العذراء مريم حاضرة في حياة دون بوسكو منذ ما كان بعمر تسع سنوات، فعلّمته أمُّه ماما مرغريتّا أن يلقي السلام على مريم ثلاث مرّات في اليوم. واعتاد أن يُلقي هذا السلام في الصباح والظهر والمساء، بتلاوة التبشير الملائكي. واختبر شفاعتها في حياته، فكانت له مثال الإصغاء والأمانة والطّهارة وبذل الذات والخدمة، وسمّاها أمّ المعونة الدائمة. وجعلها عنصرًا أساسيًّا في روحانية الجمعية الرهبانية السالسيّة التي أسّسها سنة 1859. وعندما أسّس جمعية الراهبات السالسيات سنة 1872، سمّاها جمعية بنات مريم أمّ المعونة الدائمة.
4. نحتفل غدًا بعيد ميلاد أمّنا وسيدتنا مريم العذراء سلطانة السلام، وقد استعدّينا له طيلة هذا النهار بالصوم والصلاة من اجل السلام في سوريا والشرق الأوسط وفي العالم، كما دعانا قداسة البابا فرنسيس، وكل الكنيسة الكاثوليكية في العالم، طالبًا أن ينضمّ إلى هذه المبادرة، بالطريقة التي يرَونها مناسبة، الأخوة المسيحيون غير الكاثوليك، وأتباعُ الديانات الأخرى، والناسُ ذوو الإرادة الحسنة.
وسنقيم بعد هذه الليتورجيّا الإلهيّة، بدءًا من الساعة الثامنة، سهرة صلاة وتوبة، مشاركة منّا مع قداسة البابا، الذي يُحيي في الساعة نفسها سهرة صلاة مماثلة في ساحة القديس بطرس بروما حتى منتصف الليل.
5. “إنّ أمّي وإخوتي هم هؤلاء الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها“(لو8: 21).
بهذا الكلام يبيّن لنا الربّ يسوع، ابن مريم بالجسد، أنّ أمومة مريم له، هي في الأساس أمومة روحيّة، قبل أن تكون أمومة جسدية. فكلمة الله التي قبلتها أوّلاً بروحها وجسدها، هي أياها صارت جنينًا في حشاها. المسيح الربّ يدعونا لنكون نحن أيضًا مشاركين في الأمومة الأخوّة تجاهه، بسماع كلام الله والعمل بموجبه، مثل مريم العذراء.
فمريم أعطت كلمة الله جسدًا بشريًّا، أمّا نحن فمدعوّون لنعطي كلمة الله حياة فينا، حسب قول بولس الرسول: “أنا أحيا، لا أنا، بل المسيح يحيا فينا” (غل2: 20). بل نستطيع القول أن يسوع يريد منّا، لا أن نعطيه جسداً، بل أن نكون نحن جسده، بحيث يفكّر في عقولنا ويقول الحقيقة في ألسنتنا، ويحبّ بقلوبنا، ويعمل الخير بإرادتنا، ويبارك بأيدينا. وفي كلّ حال، نحن أصبحنا بالمعمودية والميرون أعضاء في جسده.
إنّ كلمة الله التي نسمعها ونعمل بها، هي كلمة نعلنها في قانون الإيمان؛ ونحتفل بها كسرّ مسيحي في الليتورجيا؛ ونعيشها بحياة أخلاقية جديدة بالمسيح، وبالفضائل والوصايا العشر، وسط الجماعة البشرية، وتصبح صلاة تنعش حياتنا. إنّ كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية يتوسّع في هذه الأبعاد الأربعة، تابعاً هيكليتها.
إنّنا نصلّي لكي يسمع جميع الناس كلمة الله، ولاسيما أصحاب السلطة والسياسيّين لكي يستلهموا منها المبادئ التي ترتكز عليها خياراتهم اليومية، ويجعلوها ثقافة حياة. إنّهم بذلك يتعلّمون أنّ الحياة البشرية مقدّسة، والشخص البشري صاحب كرامة، ويتمتّع بحقوقٍ أساسيّة، وتترتّب عليه واجبات. ويُدركون أنّ واجبهم الأول والأخير هو توفير الخير العام، الذي منه تتأمّن حقوق جميع الناس في عيش كريم، وأن هذا الواجب هو المُبرِّر لوجود العمل السياسيّ والجماعة السياسيّة. فالسلطة العامّة تنبثق من الطبيعة البشرية، وتنتمي بالتالي إلى النظام الذي وضعه الخالق بأن ينعم جميع الناس بحياةٍ هادئة يعيشونها بكمال عناصرها الروحيّة والمادّية، الاجتماعيّة والأخلاقيّة، التربويّة والثقافيّة. ولذلك يقتضي العمل السياسيّ السليم يقتضي أن تُمارَس السلطة وفقًا للشريعة الأخلاقيّة، بروح التجرّد والتفاني في الخدمة.
إنطلاقًا من هذه المبادئ نطالب أصحاب السلطة عندنا والعاملين في الحقل السياسيّ بالإصغاء لصوت الضمير وكلام الله، ويتعالوا عن مصالحهم الخاصّة والفئويّة، ويُؤلّفوا حكومةً قادرة وفاعلة، بحيث يخطو كلُّ فريق خطوةً إيجابيّة نحو الآخر ويُبيّن حسن النيّة، واضعًا قيام المؤسّسات الدستوريّة فوق كلّ اعتبار. فالشعب الذي هو مصدر السلطات يرفض أن تكون ممارسة السلطة الموكولة إليهم أداةً لمآرب مذهبيّة وفئويّة، ولتعطيل المؤسّسات الدستوريّة وشلّ الإدارة العامّة والحياة الاقتصاديّة، وتجويع المواطنين وتسخيرهم، وإرغامهم على هجرة الوطن والأهل والبيئة الطبيعيّة.
6. فيما نُكرّم ذخائر القديس يوحنّا بوسكو، نلتمس نعمة الاقتداء بروحانيّته القائمة على تقديس الذات من خلال الأعمال اليوميّة وواجبات الحالة والموقع؛ وعلى استحضار الله الذي سيدين كلَّ إنسان على أعماله؛ وعلى تمجيد الله في كلّ ما نقول ونفعلونتّخذمنمبادرات؛وعلىالحوارمعالله بسماع كلامهوبالصلاة والسجودلهفي القربان، ولقائه في الخدمة لكلّ محتاج؛ فعلى زرع الفرح والرجاء والتفاؤل في القلوب.
وفي مناسبة تكريم القديس يوحنّا بوسكو، ومن أجل أن نعيش روحانيّته، تعالَوا نعتمد أسلوبَه الوقائي كنهجٍ تربويّ تعتمده العائلة والمدرسة والمجتمع. يرتكز هذا الاسلوب على ثلاثة: العقل نثقّفه بأنوار الحقيقة وحسن التمييز بين الحقّ والباطل، بين العدالة والظلم، وبين الخير والشرّ، ونجعله مرتكزًا للإيمان بالمعرفة والفهم؛ الدين نعيشه اتّحادًا بالله، مُزيّنًا بفضيلة التديُّن وبالسلام مع الله الذي هو أساس السلام مع الخليقة كلّها؛ المودّة نترجمها أعمال محبّة تجاه كلّ إنسان ولاسيما الفقراء والمعوزين، واحترامًا للآخر المختلف بالرأي والعرق والدين، وتضامنًا بروح المسؤوليّة وقاعدتها التي تقول أنّنا كلّنا مسؤولون عن كلّنا.
أيُّها القديس يوحنّا بوسكو علّمنا كيف نسلك طريقنا إلى الله وإلى كلّ إنسان، وضع في قلوبنا محبّةَ شبيبتِنا، أملِ مستقبلنا، وضمانةِ وطننا. إملأنا إيمانًا وفرحًا بوجود ذخائرك معنا. فنستحقّ أن نرفع نشيد المجد والتسبيح لله، الآب والابن والروح القدس إلى الأبد، آمين.
(*) عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي في قداس ذخائر دون بوسكو – بازيليك سيدة لبنان – حريصا، السبت 7 أيلول 2013
كلام الصور
1- البطريرك الراعي في خلال الاحتفال بالذبيحة الإلهية
2- البطريرك يلقي وعظته
3- شباب يحتفلون بالقديس دون بوسكو