ما أحوج العالم العربي الى مثقفين “استقلاليين”

بقلم: الباحث خالد غزال

khaled-ghazalتشهد الساحة الثقافية العربية، بخفر شديد، نقاشاً فتحته الانتفاضات العربية حول الأسباب التي جعلت الحراك المتواصل منذ ثلاثة أعوام لا يحظى بالحدّ الأدنى من التغطية الثقافية اللازمة لإرشاد الممارسة السياسية.

يُجري مثقفون وسياسيون مقارنة بين التحولات الكبرى التي عرفتها أوروبا في القرن الثامن عشر والتي توجتها الثورة الفرنسية، وبين التحوّلات الجارية في المجتمعات العربية، ليصلوا إلى تعيين مفارقة كبرى بين الحدثين، لعل أهم ميزاته أن التحولات الأوروبية أتت في خضم “ثورة ثقافية” خاض غمارها مفكرو الأنوار في أوروبا، ودفع فلاسفتها أثماناً باهظة من الاضطهاد السياسي والديني، قبل أن تتحول أفكارهم إلى مرشد للثورات والتشريعات القانونية والتوجهات السياسية التي افرزتها، خصوصاً على صعيد الديموقراطية والحكم المدني.guilaf al thakafa

لم تخلُ الساحة العربية من نقاشات جادة حول أزمة الثقافة والمثقف، سابقاً وراهناً، ومنها كتاب “الثقافة والمثقف في الوطن العربي” (مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت) الذي يضم بين دفتيه مساهمات لباحثين عرب حول هذا الموضوع.

في عنوان حول “العالم والمثقف والانتلجنسي”، يحاول الكاتب المغربي الطاهر لبيب أن يحدد المثقف والثقافة، فيقول: “المثقف ليس هو خطاب المثقف. اعتماد الخطاب شرط ضروري غير كافٍ لتحديد وضع المثقف وموقعه، بل وأيضاً غير كافٍ لفكره ذاته. والأعمال الكبيرة التي أنجزت حول تكوين العقل العربي أو الفكر العربي، يجب أن لا تفهم على أنها أعمال حول تكوين المثقف العربي. المثقف ككائن اجتماعي غائب أو مطرود منها، لأن حضوره ليس من صلب اهتماماتها”.taher-labib-1

وفي تعيينه موقع الثقافة يرفض الكاتب اعتبار الثقافة محصورة بالنخبة أو الخاصة، بل هي ثقافة العامة، و”عامة الخاصة ايضاً”، مما يعني ضرورة إيجاد ارتباط بين النوعين بما يسمح بإنتاج معرفة شاملة يمكن سائر الفئات والطبقات الاجتماعية أن تنهل منها.

عن “المثقف والبحث عن النموذج”، يسعى الكاتب التونسي محمد عبد الباقي الهرماسي إلى طرح فرضية تقول إن الفكر السياسي العربي المعاصر لا يمكن تفسيره وتأويله، إلا في سياق علاقته بالأشكال السياسية التي رأت النور حتى اليوم، والتي “تنازعت لإثبات حقها في الوجود على الساحة، منذ التحول الكبير الذي طرأ في العصر الحديث، والذي كرس إخفاق النظام القديم، ودفع بقوة للبحث عن نظام سياسي جديد”.

منذ القرن التاسع عشر، بدأ نموذج المثقف العربي يتبلور بالاحتكاك بفكر الأنوار الغربي، ومحاولة إيجاد توليفة مع الثقافة السياسية الدينية السائدة والمرتكزة على التراث ذي الغلبة الدينية. فبرز مثقفون سعوا إلى اظهار عدم التناقض هذا، لا سيما منهم مفكرو النهضة، أمثال: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ولاحقاً، طه حسين، علي عبد الرازق، لطفي السيد، أحمد أمين وغيرهم من مفكري مصر والمشرق العربي.

بعد مرحلة الاستقلالات، برز نموذجان أساسيان، وأولهما نموذج المثقف القومي العربي الذي تبنته العسكريتاريا العربية، والمستند إلى شعارات الوحدة العربية والتحرير القومي العربي ومناهضة الاستعمار، وربط هذا النموذج توجهاته الاجتماعية، خصوصاً ما ساد من شعار الاشتراكية، بتحقيق الوحدة العربية. التقت شعارات أحزاب البعث والناصرية على مثلث الوحدة والحرية والاشتراكية، بصرف النظر عن خلافات القوى حول أي شعار يجب أن تكون له الاولوية.Hermassi

اما النموذج الآخر الذي طغى فهو نموذج “المثقف العضوي”، المستند إلى الإيديولوجيا الماركسية اللينينية، وهو نموذج كانت له جاذبية لكونه ربط بين الوعود بتحقيق التنمية والأمل في إنجاز شعار الوحدة العربية.

اخترق موضوع “المثقف والسلطة” عدداً كبيراً من الأبحاث، بالنظر إلى كون الموضوع شكّل ولا يزال معضلة فعلية في العلاقة بين الطرفين. أما السؤال فهو: أين يجب أن يكون المثقف؟ هل يجب أن يشكل مترجماً لأفكار الحاكم أو ناصحاً للأمير على نمط مثقفي أوروبا في العصور الوسطى، خصوصاً على طريقة مكيافللي؟ أم  أن على المثقف أن يبتعد عن السلطة لضمان بقائه مستقلاً وقادراً على ممارسة دوره النقدي، والبقاء ملتزماً المصالح العامة؟

لم تنبع الأسئلة من فراغ، فقد عرفت المجتمعات العربية أنواعاً مختلفة من المثقفين: من الملتحق بالسلطة والمبرر لها قراراتها بإكسابها مشروعية نظرية، ومن المتمرد على الالتحاق والمصرّ على موقعه المستقل، حتى ولو كان ثمن هذه الاستقلالية البقاء على الهامش. هذا النوع من المثقفين تقلص كثيراً على امتداد العقود السابقة، لمصلحة مثقف السلطة، سواء أتى الأمر طوعاً أم قسراً. في هذا المجال، استحوذت نظرية الكاتب المصري سعد الدين ابراهيم حول كيفية ردم الفجوة بين المفكر والحاكم، نقاشاً واسعاً، وظل سؤال “هل يمكن تجسير الفجوة بينهما” معلقاً بالنظر إلى اختلاف وجهات النظر حول هذه المقولة.ibrahim-mahmood.-1jpg

نالت مقولة “المثقف العربي والعنف” نقاشاً مهماً، من خلال الورقة التي قدمها الباحث السوري ابراهيم محمود، ومتابعته لـ “كيفية تصوّر – وتصوير- المثقف العربي للعنف”، عبر بعض الإصدارات مثل: “الهزيمة والايديولوجيا” لياسين الحافظ، “حروب الاستتباع: لبنان والحرب الاهلية” لوضاح شرارة، “ديكتاتورية التخلف العربي” لغالي شكري، “اغتيال العقل” لبرهان غليون وسواها من النصوص.

يرى الكاتب أن أول صورة من صور العنف، في نظرة المثقف العربي، الذي ينطلق من مواقف راديكالية وماركسية، تظهر السلطة من خلالها آلة قمع شمولية في الواقع العربي، وحيث ينسحق الإنسان العربي البائس الذي يشكل الغالبية، مقابل الأقلية، التي تحتفظ لنفسها بحرية استخدام السلطة في قمع الآخرين وممارسة ما تراه مشروعاً لها.

يطرح الباحث كمال عبداللطيف الإشكالية السابقة – الراهنة والمتركزة على ضرورة استحداث استراتيجية التجديد الثقافي، بحيث يراها الإشكالية الأساسية في مجال الثقافة العربية. لم يعد ممكناً اجترار المقولات والنظريات التي شكلت المحاور الثقافية خلال قرن من الزمان، والتي ارتكزت على إيديولوجيات شمولية بعيدة من منطق التعددية والديموقراطية، فانتجت ثقافة فئوية في كل مكان، وعجزت عن إنتاج ثقافة جامعة، مما يطرح ضرورة نقد تلك الثقافة والإفادة من المستجدات والتحولات التي تشهدها المجتمعات العربية، وذلك عبر إخراجها لكل ما في جوفها من مخزون يطيح ما تعودت عليه الشعوب العربية، سواء اتصل الأمر بالثقافة أم بالسياسة.abd-el-latif-1

لا شك في أن الحاجة أكثر من ماسة لإنتاج ثقافة جديدة نقدية ومطلة على فهم ما يجري في مجتمعاتنا، وتبدو الحاجة ماسة جداً إلى مثقفين يمارسون دورهم الثقافي من موقع استقلالي، كشرط لإنتاج ثقافة غير فئوية بل وذات صلة بمصالح الشعوب العربية وطموحاتها وخياراتها.

 كلام الصور

1- غلاف الكتاب

2- الطاهر لبيب

3- محمد عبدالباقي

4- ابراهيم محمود

 5 – كمال عبد اللطيف

اترك رد