المسيح القوي، الثائر، المتمرد… ملهم الشعراء والأدباء من “الرابطة القلمية” إلى مجلة “شعر”

بقلم: كلود أبو شقرا

بدأت  شخصية المسيح ومراحل حياته خصوصاً الصلب تشق طريقها إلى  الشعر والنثر  مع أدباء “الرابطة القلمية” في أوائل القرن العشرين من بينهم massihميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران الذي تمجد أعماله فكرة صلب المسيح، ثم استمر الأمر مع شعراء مجلة “شعر” في الستينيات مع  الحداثيين العرب على رأسهم يوسف الخال وأدونيس وخليل حاوي وتوفيق صايغ، وهؤلاء كتبوا عن مسيح عصري مصلوب.

جبران خليل جبران

تأثَّر جبران بالمسيحية كما تأثر بالرومنسية والهندوسية والنيتشويّة، وسواها، فهو صادق في ما يؤمن به، ويعتقد أن الدِّين يشمل كل ما في الحياة من أعمال وتأمّلات، وإن كانت له نظرته الجبرانية إلى “يسوع إبن الإنسان”، فالمسيح شَغَلَ قلبه وفكره وطموحه، واتّسع صدره ليُحبّ الناس ويهديهم إلى الحبّ.jibran-khalil-jibran-1-005

  في “عرائس المروج” (1906)، تمحورت قصة “يوحنا المجنون” حول راعٍ شغوف بيسوع والإنجيل. وفي “النبي” (بالانكليزية 1923) “المصطفى” المعلم هو” المختار الحبيب”،  سبق نفسه فأصبح “فجراً لذاته”… وقبل وداعه “مدينة أورفليس” يختصر تجاربه وعصارة حكمته في ست وعشرين مسألة وجودية في حياة الإنسان، يبدأها بالمحبة التي تتوزع على: الزواج، الأبناء، العطاء، العمل، الصلاة، الجمال، الدين، الموت.

 المحبَّة في الكتاب هي تحرّر لأنها تعتق الإنسان من أنانيّته الضيّقة، وتسمو بها إلى ذروة الشعور بالله والكمال اللامتناهي، وأيضاً هي صليب، لأن الانفتاح على الذات الكبرى، أي الله، يستدعي تشقّق بذرة المحبَّة في الكيان الجبراني وتمزّقها. وقد تأثر تأثراً بليغاً بإنجيل مار يوحنا ورسائل مار بولس.

 أما في “يسوع إبن الإنسان” (بالإنكليزية 1928)، فابتدع جبران منهجاً جديداً في تحليل شخصية يسوع، لم يسبقه إليه أي من الفلاسفة والمفكرين الذين درسوا حياة المسيح وعالجوا تعاليمه، وأضفى عليها الفرح والمحبة والقوة والصلابة والثورة والتمرد، والصبر والعمل، وذلك في أسلوب غني بالصفاء والسلاسة والفكر، فمسيح جبران ليس إلهاً كما يعتقد المسيحيون، بل إنسان حر جبار متمرّد على التقاليد الدينية والاجتماعية، يعشق الفرح ويحمل إلى الناس رسالة الغفران والمحبة.

 يوسف الخال

 في حديث صحافي أجري معه قيبل وفاته عام1987 قال الشاعر يوسف الخال بمرارة رداً على سؤال حول مشاريعه الجديدة: “هل بعد عندي وقت لأفكر بمشاريع كبيرة؟! أهم مشروع حالياً، إعادة النظر بالماضي وتصحيحه، ليكون خروجي لائقاً من هذه الحياة”… ثم انتفض فجأة ولمعت عيناه وكأنه يرفض الاستسلام لفكرة الرحيل وقال: “في الحقيقة عندي أشياء كثيرة أود إنجازها، إذا سمح الوقت، بينها: إكمال ترجمة الكتاب المقدس، على هامش كليلة ودمنة”.youssef-el-khal-1

  ورداً على سؤال: ماذا يعني لك الخلاص بالمفهوم اللاهوتي؟ أجاب: “أن يرجع الإنسان إلى ذاته، إلى نفسه، بالأخير العودة إلى الله. وحدهم المؤمنون بالله يستطيعون اجتراح حضارة”.

  ليست هذه الأجوبة وليدة ظرف مرض السرطان الذي أصاب يوسف الخال وأنهى حياته، إنما هي نتيجة علاقة وثيقة بينه وبين المسيح تعود إلى العام 1960 عندما أصدر ديوان “قصائد في الأربعين” من ضمنها قصيدة “العشاء الأخير”، ومما يقول فيها:

 لنا الخمر والخبز، وليس معنا المعلم/ جراحنا نهرُ من الفضة/ في جدران العلّية شقوق عميقة علي النوافذ/ ريح  في الباب طارقٌ من الليل/ ونحن نأكل ونشرب. جراحنا نهرٌ من الفضة/ العلّية تكاد تنهار. الريح تمزّق النوافذ/ الطارق يقتحم الباب./ نقول: لنأكل الآن ونشرب. الهنا مات/ فليكنْ لنا إله آخر. تعبنا من الكلمة/ وتاقت نفوسنا إلى غباوة العرْق/ ونقول: لتسقط العلّية وتهلك. والريح سترحمنا/ والطارق سيجالسنا. جائعٌ هو إلى الخبز،/ وظامئ  إلى عتيق الخمر/ ونقول: لعلّ الطارق إلهنا الجديد وهذه الريح/ أزهارٌ شهيّة تفتّحت في المجاهل./ ونظل نأكل ونشرب، وليس معنا المعلم./ جراحنا نهر من الفضة./ وعند صياح الديك، قليلون يشهدون لملكوت الأرض.

 في عام 1978 بطلب من “جمعية الكتاب المقدس”، أنجزت لجنة من اللاهوتيين  الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت ترجمة الكتاب المقدس، وصاغ أسلوبها العربي الشاعر يوسف الخال، وهي  أول ترجمة عربية وضعتها لجنة من علماء لاهوتيين ينتمون إلى الطوائف المسيحية، أصدرتها دار “الكتاب المقدس للنشر في الشرق الأوسط”، فشكل هذا الإنجاز محطة مهمة في مسيرة يوسف الخال طبعت صورة المسيح في إبداعه وفكره وظل يحلم بإكماله إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة.

رشيد سليم الخوري

  حدد  الشاعر القروي رشيد سليم الخوري (1887- 1984)، علاقته بالمسيح وبالألوهة في قصيدة رائعة  بعنوان “حضن الأم”، وضع فيها الأمومة بمصاف الألوهة. تصوَّرَ القصيدة الشاعر قد مات وانتقل إلى السماء فاستقبله القديسون والملائكة بالترانيم والموسيقى والغبطة على الوجوه، لكن بعد فترة وجيزة تسرّب الملل إلى نفسه، وسأل أحدَ الملائكة، كيف يعود إلى الأرض، استغربَ الملاك السؤال وقال له إن الطريق هنا في اتجاه واحد ولا عودة إلى الأرض، فانفجر الشاعر بالبكاء وعلا صياحه فأزعج السماء ومن فيها.koirawi 1

  دعاه رب السماء يستوضح الأمر منه وسأله: “لماذا لا تعجبك جنتي؟ هل يضايقك أحد؟” أجابه الشاعر: “كلا… لكني أريد أن أعود إلى الأرض…” استغربَ الإله هذا الطلب والإصرار  وطلب معرفة السبب… قال الشاعر:” أنت الإله العظيم القدير الكريم الجليل، لكن ينقصك شيء، ولن تستطيع فهمي، مهما حاولتُ أو شرحتُ لك، أنت ليس لك أم ولا تعرف فرحةَ أن تقول يا ماما!” فأطرق رب السماء وتساءل: “أمعقول هذا؟ أوَ تكون على الأرض سعادة ينعم بها الإنسان، وفي السماء لم يعرفها ولم يسمع بها رب السماء؟” وللحال أمر بجلسة طارئة لمجلس شورى السماء، وتنتهي القصيدة بهذه الأبيات:

(…) فــأصـــغـــى ســــيــــد الأكــــــــوان لـــطـــفـــاً
لــشـــكـــوى شــــاعــــر الــغـــبـــراء واهــــتــــم

وقــــــــال لــنــفــســـه: هـــــــــذا مــــحـــــال
أيــعــلــم شـــاعـــرٌ مــــــا لـــســــت أعـــلــــم !

أيــنــعـــم خــــاطــــىءٌ فــــــــي الأرض قــبـــلـــي
بــمـــا أنـــــا لــســـت فـــــي الــفـــردوس أنــعـــم؟

لأكــتــشــفــنَّ هــــــــذا الــــســـــر يــــومـــــاً
ولــــــــو كــلـــفـــت أن أشــــقــــى وأعـــــــــدم

وكـــــانــــــت لــــيــــلــــة وإذا صــــــبــــــيٌ
صـغـــيـرٌ نـــائـــم فــــي حــضــن مــريـــم

ميخائيل نعيمة

 في كتابه “من وحي المسيح”  يشهد ميخائيل نعيمة أن المسيح حاضر في حياته منذ وعى نفسه، يقول في المقدمة: “ها أنا اليوم، وقد بهرتني أشعتك، شعرت mikhael-nouaimeh.j-1pgبدافع لا يعاند للتحدث معك وعنك. ولعلك ذلك الدافع، إلا انني أتهيّب الموقف كما أتهيّب أي موقف آخر في حياتي. لماذا؟ لأسباب كثيرة، منها أن الذي قيل فيك وكتب عنك منذ أن تعمدت في نهر الأردن وابتدأت بشارتك بالملكوت السماوي، أي منذ 1944 سنة، لو هو جمع كله، لضاقت به أوسع المكتبات في العالم. فهل في مستطاعي أن اضيف إليه شيئاً جديداً وحرياً بالاهتمام؟ (…) ومنها أنني لست بالمؤرخ، ولا بالبحاثة، ولا باللاهوتي الملمّ بكل ما أثارته  رسالتك  من تآويل وتفاسير، ومماحكات ومشاحنات دامية وغير دامية، وكل ما نبت حولها على كرّ الزمان من عقائد وطقوس وتقاليد متنافسة ومتناحرة. لكنني على ضآلة ما أملك من هذه المعلومات، استنتج منها أشياء وأشياء، وأنا في ما أستنتج لا أسير على هدي عقلي، بل على نور محبتي لك ومحبتك لي”.

يضيف نعيمة: …”لكم تمنيت لو أن واحداً من الذين عايشوك وسمعوك ورافقوك في تجوالك ترك لنا ولو لمحة خاطفة عن تكوينك الجسداني، فنعرف أطويلا  كنت أم قصيراً، أبديناً أم نحيلا، وأي لون كان لون بشرتك وشعرك وعينيك، وأي شكل كان شكل رأسك وجبينك وحاجبيك وأذنيك وأنفك وفمك وذقنك، وكيف كنت تمشي، ومن أي المعادن كان معدن صوتك؟ لقد أخبرنا الإنجيليون أنك بكيت في ثلاث مناسبات فقط، لكنهم لم يخبرونا أنك  ابتسمت ولو مرة واحدة في حياتك.

  (…) ما قرأت يوماً الأناجيل إلا تخشعت أمام البراءة المتناهية التي تطلّ من كل سطر من سطورها. فالذين كتبوها لم يتعمدوا في كتابتها شيئاً من البلاغة والفصاحة والتنميق في رصف المفردات وهندسة العبارات، ولا هم كانوا بالمؤرخين، وكل ما كانوا يرمون إليه هو سرد المعجزات التي تمّت على يدك، وتدوين ما علق بذاكرتهم من أقوالك والظروف التي قيلت فيها. ثم وصف الصراع الذي قام بينك وبين أإمة الدين من اليهود، ذلك الصراع الذي انتهى بموتك الرهيب على الصليب. كل ذلك ليبرهنوا لليهود أولا، ومن بعدهم للعالم، أنك المسيح الذي تنبأ عنه الأنبياء منذ مئات السنين.

(…) أما انت يا مسيحي فكالشمس التي تبقى شمساً سواء أمن الصحراء أطلّت على الناس، أم من البحر، أم من قعر واد أم من ذروة جبل”.

 الياس أبو شبكة

 كان أبو شبكة مؤمناً، على الرغم من القلق الذي سيطر على شخصيته وعلى قلمه طوال حياته، وعكس شعره تأثره الواضح بالكتاب المقدس.  منذ كتابه elias abou shabkeالاول “القيثارة”  وقصيدة “المجدلية والمسيح”، إلى “أفاعي الفردوس” وما فيه من أجواء الانسحاق والتوبة وألفاظ إيمانية مثل: الغفران، النعيم، المطهر، الجحيم، وصولاً إلى قصيدة “الصلاة الحمراء”، إلى  “الألحان” وما فيه من أجواء نعيمية طاهرة  من “صلاة الغروب” إلى قصيدة “المساء في الجبال”، إلى  “نداء القلب” وما فيه من صفاء وتصوّف وألفاظ مثل: العفاف، الطهر، قربان، نقيّ، السماء وفيه  قصيدة “أرض الميعاد” الزاخرة بأجواء إيمانية، إلى كتاب “إلى الأبد” الذي يبدأ بـ “صلاة”  تعكس الصفاء الصدق والعذوبة ومما جاء فيها:

 قـوّني، يا مقسم الأعبــاء وأعِنّي على احتمال شقــائي/ أنا، يا رب، في يديك فصنها فاتكالي عليـك كـلّ عزائـي/ أن تكون تحرم العزاء المحبّيــن، فمـاذا تركـت للشعـراء؟

وصولاً إلى “غلواء” وأجوائه الإيمانية المسيحية: مفهوم الشر والخطيئة، مفهوم الألم كطريق إلى الله، التجلّي، رموز الصلب والجلجلة والخلّ والقيامة وقضايا الصفح والتسامح والغفران…

صلاح لبكي

 شاء الشاعر صلاح لبكي أن يختم رسالته الأدبية بملحمة عنوانها “يسوع”، إلا أنه لم يتمكن أن ينجز منها إلا القصيدة الأولى بعنوان “جهنم” ووضع تصميماً للقصائد التالية إذ وافته المنية في 20 تموز عام 1954. قبيل وفاته كان الإنجيل يلازمه على الدوام بالإضافة إلى الخلاصة اللاهوتية لتوما الأكويني.salah-labaki-1

 تبرز علاقة صلاح لبكي بالمسيح واضحة في كتاب “سأم” الذي روى فيه حكاية الإنسان من مهده إلى لحده، في وحدته وفي اتصاله بربه. مما قال فيه: ” كنت يوماً في سأم من كل شيء، ثائراًً على نفسي، نظرت فإذا حبي كله قد فشل والعدل قد ضاع… ثم عدت إلى ذاتي أنطوي عليها فرأيت ذاتي أبعد شيء عني.. وقمت من فراشي وقد مسّني ما أثارني وتناولت كتاباً كساه الغبار، ففتحته فإذا هو الإنجيل وقرأت فيه: “تعالوا إليّ أيها المتعبون والثقيلو الأحمال وأنا أريحكم”. وبعد لحظة من الصمت ظننتها النهاية عادت نفسي تلخص هكذا: ذلك المهد، ذلك الهيكل، تلك الصحراء، رأس الجبل، العلية تلك، ليل البستان، المحاكمة الصاخبة، الجلجلة، يسوع هو موضوع ملحمتي، لقد وجدت الطريق”.

اترك رد