بقلم: قزحيا ساسين
قد يخشى حامل القلم، على موهبة، أن تسقط الأسماء عن شرفة ذاكرته، فيلجأ إلى إعادة تشكيل جغرافيّة وبشريّة على الورق كما يحلو لمزاجه الأدبي تحت وطأة كثير من الوجدان والثقافة وكلّ ما يصنع الجانب غير المادّي من الإنسان. في جديده “فيلم قصير لكاميرا ضائعة” يبدو الكاتب محمّد الحميد سائحاً محاصراً بالوحدة ولعنة الزمن.
في “فيلم قصير لكاميرا ضائعة”، قد لا يكون الفيلم القصير سوى العمر الموزّع على مَنافٍ، تختارنا أو نختارها لا فرق، وعليه فليست الكاميرا الضائعة سوى صاحب العمر الحامل على كتفيه ذاكرة تظهر من خلال السّرد أنّها شجرة على مشكلة ما مع جذورها: “ولن تتحسّر وأنت تسمع ثلاثين أستراليّاً تحفر أصواتهم ثقوباً في صدرك، وأنت تحاول استماتة أن تخبرهم بأنّك تحنّ إلى بلادهم وبلا خوف من أنّهم سيضحكون}. واللافت أنّ التكنولوجيا، لا سيّما في مجال الاتصال والتواصل، حاضرة بقوّة {سمّاعة الآيبود، قناة فاشن، البلاك بيري، الكيبورد…” وتكتسب بُعداً دلاليّاً رمزيّاً يفرّغ الإنسان من قدرته على التواصل مع الإنسان في الآخر لا مع الآخر: “وشوبان – ينزل قدميه لماء النافورة لأنّ الجوارب تركت بثوراً في قدمه. شوبان السعيد بالماء. وأنا السعيد بالكيبورد نضحك من ليل وارسو والسيّاح الأستراليّين، ونفكّر في أضرار الحنين”.
وقد يكون تعبير “أضرار الحنين” مفتاحاً ذهبيّاً يقودنا إلى قراءة نصوص الكتاب في ضوئه فالحميد مريض بالحنين، غير أنّ كلامه لا يسترجع ماضياً ولا يرجو زمناً أن يعود طفلاً على بساط الذاكرة إنّما هو كلام يتعاطى مع الواقع، هو كلام كاميرا ترى وتنقل ويتدخّل حامِلُها حين تدعو الحاجة وكثيراً ما دعت.
محمّد الحميد سائح يمضي في الخارج الواسع والبعيد والمتعدّد إلاّ أنّه يقطع كلّ اتصال بينه وبين هذا الخارج، وهو يدير ظهره لليل الدنيا لائذاً بليل يقيم فيه مرتاحاً لسواده، ويقف صنماً يهجّئ المدينة بعينين لا تريان إلاّ خوفهما: “ولأنّ السائح مستعدّ للفرح بشكل دائم ويكره الجلوس في الفندق. فإنّه يهرب من الليل إلى ليل في داخله. وأنا السائح أتوقّف كجمادات المدينة في الزوايا… وأتخيّل أني جماد مؤقّت في المدينة”.
ويمرّ الحميد بمشاهد ينقلها بإلحاح من الكاميرا ولو أنّها لا تقول شيئاً للقارئ وكأنّ قيمتها هي أنّها مَشاهد فحسب. ومن الملاحظ أنّ كلّ المشاهد على امتداد صفحات الكتاب تنتمي إلى مناخ واحد، وعلى رغم أنّ لكل مشهد عنواناً فإنّ العناوين الواردة بالخطّ العريض لا تلغي وحدة ما مبنيّة على أثر من قاسم مشترك بين النصوص.
استثمار المشهد
في أكثر من مكان يسعى الحميد إلى استثمار المشهد أو الحادثة المشهديّة إذا جاز التعبير كما في نصّ “الرقّة أكثر من اللازم”. فالنزول من أعلى الدرج الطويل والدائري يتحوّل مسألة علميّة وقد تكون ذات بُعد فلسفيّ لمن يهمّه الأمر، وقد تستدعي أكثر من فيلسوف أو عالم، والكاتب التقى آينشتاين على ذلك الدرج، وأنزل عمره معه درجة درجة: “فنظر إليه من الأسفل وأنت ترى ثبات المركز، أنت وهو تتبادلان موقعاً هندسيّاً تلعب به النسبيّة. أنت لا تعرف آينشتاين… وتفكّر كيف يمكن أن يمرّ العمر هكذا، كرجل كان بالأعلى ثمّ هبط الدّرج”.
يريد الحميد من عالم سياحته ما لا يريده أيّ سائح، فهو يمارس هواية القراءة ببُعد وجودي حزين يصنعه عقل حزين وقلب حزين أيضاً. وحين يقرأ يحاول القبض على المتناقضات بسخرية قد تكون من الحياة بحدّ ذاتها، ومن الصّراع الإنساني لأجل بقاء فكرة بيضاء أو سوداء. “ستالين الميت، ترك منارة كبيرة يتردّد الألمان في إزاحتها. البرلمان الديمقراطي بأطيافه الأربعين ينظر لجهة واحدة. للمكان الذي بناه عدوّه”…
ولا يتأخّر القارئ بعد قراءة ما بعد هذا الكلام في نصّ “بلا سياسة”، ليكتشف أنّه مدعوّ إلى وليمة سياسيّة ولكن ليست بشكلها ومعناها التقليديّين، فالحميد، على سبيل المثال، لا يبارك ستالين ولا يلعن الديمقراطيّة غير أنّه يلاحظ حصاراً ما يعيشه العالم اليوم بين حذاء ستالين وماكنة القهوة الأميركيّة: “… أكره ستالين وأحبّ أن يهدم المعْلَم وأن يبنى مكانه مول يقدّم القهوة الأميركيّة، والملابس التي بلا ذوق”…
وفي الانتقال من نصّ إلى آخر ينتبه القارئ إلى أنّ باستطاعته استخراج نصوص قصيرة من النصوص تتمتّع بالمعنى التام الذي لا يحتاج إلى ما يسبقه أو يليه من كلام: “الثلج لا يعني البياض ولا الاستماع إلى الفراغ، ربّما يعني التسابق في الشعور، وتصحيح الحكم على ما تعرفه العين وتفشل به الحاسّة”… ومثل هذه النصوص الصغيرة ترد في سياق سردي سابق ولاحق، وهي محطّات لا بدّ منها للكاتب ليقول ما ليس من وظيفة الكاميرا أن تقوله. الكاميرا تنقل المشهد والحميد يمدّ يده إلى معجن وجدانه وينجز قراءته الذاتيّة بقليل من الكلام وكأنّه بذلك يحوّل المشهد إلى أكثر من صورة فوتوغرافيّة متحرّكة، يحوّله إلى لوحة ذات مضمون عام غير أنّ التعليق عليها خاص جدّاً ولا ينجزه إلاّ سائح يعرف أنّ ما في داخله عن الأمكنة وناسها وزمانها يفوق ما هو فيها وذلك تحت تأثير تجربة الحياة بكل ما فيها من عوامل مؤثّرة دينيّاً واجتماعيّاً، وسياسيّاً، وثقافيّاً…
فرح نادر
في فيلم محمّد الحميد يبدو الفرح نادراً وكأنّه هدف سياحة لم تجده إلاّ في ما ندر، ووجوده على ارتباط وثيق بالمرأة: “كنا ملوّنين وهي تضحك وفوق الشجرة لا يوجد سوى الطبيعة الساكنة وكلّما ضحكت اكتشفت بدوري أنّ الحياة ليست مضجرة كما أتصوّر”… والكاتب يعرف الحبّ جيّداً ويتبنّى كلام تشارلز بوكاوفسكي فيه: “الحبّ هو الضباب الذي تراه حين تستيقظ أوّل الصّباح، ثمّ يحترق”… إنّ كاميرا الحميد متّهمة بالعبثيّة، وخبيرة في نقل المشهد وتفريغه من سلامه ولو المفتَرَض، ومن إيقاع حياته الإيجابي ولو على سبيل الافتراض أيضاً…
ويبقى السؤال: ماذا يريد محمّد الحميد من فيلمه القصير؟ والجواب، بكلّ بساطة. يريد الحياة. يريد نقلها. يريد الاحتجاج عليها. يريد أن يكون في صميمها وخارجها في الوقت نفسه أي: في ذاته، ساعياً إلى صناعة حياة بمنتهى الخصوصيّة والحميميّة.
ولا نستطيع أن نتجاهل تجاهل الحميد لكثير من ذاكرته، من حياة مضت، من أحداث قد تكون ساهمت في صناعته غير أنّه ليس مستعدّاً للمساهمة في صناعة خلودها… لذلك نراه اتّجه نحو الغرب، بعيداً من دنيا العرب، ربّما لأنّ الحياة تقيم هناك، وربّما ليفضح هشاشة الحياة هناك متقمّصاً السائح أو مرتدياً إيّاه حقيقة.
جديد محمّد الحميد “فيلم قصير لكاميرا ضائعة” قليل الورق كثير الجغرافيا والأسماء، وكثير الحياة المتعدّدة والواحدة في سيرها نحو اللاشيء، أو نحو كلّ شيء محكوم بأن ينتهي كفيلم قصير يبكي كاميرا ضائعة.