بقلم: د. رفيف رضا صيداوي (مؤسسة الفكر العربي)
أشار التقرير التأسيسي للمحتوى الرقمي العربي، الصادر أخيراً عن مؤسّسة الفكر العربي، ومن خلال رصد إنتاج المحتوى العربي واستخدامه،إلى أن الجمهورالعربي، سجّل خلال الفترة من 1995 وحتى 2011، معدل نموّ سنوي في المساحات التي يستحوذ عليها من المحتوى العربي الرقمي بلغ 37.5% كمتوسط عام، في حين لم تستطع الحكومات والدول أن تحقّق سوى معدل سنوي قدره 21.8%.
وقد خلص التقرير بعد مراجعةالأرقام الخاصة بأوضاع المنافسة بين الحكومات والجمهور في قنوات النشر الفرعية والرئيسة للمحتوى العربي الرقمي، وبعد مراجعة أوضاع هذه المنافسة، بحسب التطوّر الزمني وطبيعة القضايا التي يجري التنافس على الفوز بمساحات في المحتوى الخاص بها، إلى أن نتيجة السباق بين الشعوب والحكومات محسومة حسماً تاماً لمصلحة الجماهير والشعوب: شعوب تقفز في كل اتجاه، وبسرعات كبيرة، وعلى ارتفاعات عالية، داخل ساحة الإنترنت، لتحتلّ وتستحوذ على مساحات واسعة من هذا المحتوى، وحكومات تحتلّ مساحات أقلّ، تصل في بعض الاحيان إلى أرقام يصعب تمثيلها إحصائياً، أوبعبارة أخرى، تجسد مناطق، أومساحات يصعب رؤيتها. فالجمهور يملك ويبادر، والحكومات تقوم بردود أفعال قليلة في حجمها، محدودة في كفاءتها،وكأن فجوة كبيرة نشأت بين الحكومات وجماهيرهاعلى صعيد الاتصال والتفاعل.
جماهيرية المحتوى الرقمي
احتلال الجمهور العربي مساحات كبيرة من المحتوى الرقمي العربي وازدياد هذه المساحات بمعدلات سريعة، مع كلّ ما ينطوي عليه ذلك من إيجابيّات، دفعنا إلى تتبّع بعض المؤشرات، من بين مؤشرات كثيرة استخلصها التقرير حول طبيعة هذا المحتوى وديناميكيّته وسمات أخرى متعدّدة ومتنوّعة، خصوصاً أنه من الصعب التطرق إلى كل ما جاء في التقرير في هذا الإطار. فقد ارتأينا تتبّع ما أورده التقريرحول “جماهيرية” المحتوى الرقمي العربي، والتي تمّ رصدها عبر المواقع أو المنتديات أو المدوّنات أو الفيسبوك أو تويتر أو قنوات الفيديو في يوتيوب، ليتبيّن أن 90.4% من المواقع العربية وما تضمّه من محتوى لايتمّ الإقبال عليها بأعداد تستحقّ القياس، وأن 9.6% فقط هي التي تجد من يسمعها ويتواصل معها ويطالع محتواها.
أما جماهيرية المدوّنات العربية فتتوقف عند 15.9، أي أن كلّ مدونة تحظى في المتوسط بـ15.9 علاقة جماهيرية متنوّعة الأشكال والأنواع، ما بين زيارات وردود وتعليقات من جمهور الزوار، وتعليقات وردود من المدوّنين على ردود الزوار. لكن في المقابل يرتفع نصيب محتوى الفيديو العربي من العلاقات الجماهيرية إلى 74.4% من الرقم الإجمالي لجماهيرية المحتوى العربي ككلّ، وهو رقم ساحق ومرتفع للغاية، أدّى مباشرةً إلى بلوغ متوسط نصيب كلّ قناة فيديو أوحساب فيديو ينشر محتوى عربياً على يوتيوب من العلاقات الجماهيرية 136 ألفاً و666.8 علاقة ما بين مشاهدة وتعليق وتنزيل، وإلى أن كلّ وحدة من المحتوى العربي تُنشرعلى يوتيوب تحظى في المتوسط بـ30 ألفاً و797.7 علاقةجماهيرية. فيما يحظى تويتر بما نسبته 6.9% من رقم الجماهيرية الإجمالي للمحتوى العربي، ويحظى فيسبوك وقنواته بـ6.3%، والمنتديات بـ1.6%. فيما يحظى محتوى القوائم البريدية بما نسبته0.1%.
الفيديو “الأكثرجماهيرية”
أظهر التقرير أن قنوات الفيديو على يوتيوب وحساباته هي أكثر الأصوات المسموعة أو التي تحقّق جماهيرية ساحقة ويلتف حولها الناس، إذ إنها تجتذب تقريباً ثلاثة أرباع العلاقات الجماهيرية القائمة بين جمهور الإنترنت والمحتوى العربي كمتوسط عام، كما تحقّق أعلى عدد من العلاقات الجماهيرية المنفردة بين الحسابات والقنوات من جهة، والمواد المنشورة من جهة ثانية، ماجعل الفيديو إمبراطورالجماهيرية بلا منازع.
أما ثاني صوت مسموع بصورة إجمالية فكان “المواقع”، والتي تحقّق المركز الثاني من حيث النسبة العامة ومن حيث العلاقات الجماهيرية مع الموقع ككلّ، وإن كانت تتراجع إلى المركز الرابع فيما يتعلّق بجماهيرية المادة الواحدة، وبما يدلّ على أن الكثير من العلاقات الجماهيرية مع المواقع قائمة مع “أسماءالمواقع” وسمعتها وليس مع محتواها،خصوصاً بعدما تبيّن أن 90.4% من المواقع العربية لايذهب إليها جمهور بأعداد تستحق القياس، وأن 9.6% فقط هي التي تجد من يسمعها ويتواصل معها ويطالع محتواها.
أما ثالث صوت مسموع فكان تويتر، والذي يسجل مستوى عالياً نسبياً من العلاقات الجماهيرية الواسعة، على الرغم من كونه يسهم بنسبة قليلة من العناصر والحسابات. ثم تأتي بعد تويتر مباشرةً المنتديات، أي في المركزالرابع من حيث العلاقات الجماهيرية للمنتديات القائمة، لكنها تتراجع من حيث العلاقات الجماهيرية للمواد الموجودة فيها.
أماعن القضايا في إطار هذه العلاقات التشابكيّة، فتستحوذ الفيديوهات الثقافية، التي تضمّ الأغاني والأفلام والموسيقى وغيرها من المواد الثقافية الأخرى على 69% من إجمالي مرّات المشاهدة للفيديوالعربي. فيما حقّقت القضايا الثقافية المختلفة أعلى مستوى من العلاقات التشابكية على فيسبوك، حيث استحوذت على 47.18% من إجمالي العلاقات ككلّ، وتلتها القضايا الإنسانية بنسبة 23.23%، ثم القضايا السياسية بنسبة 13.5%، ثم القضاياالعلمية 6.46%، والإعلامية 3.19%، والاقتصادية 3%، والأمنية 2.13%..
وبعكس القول الشائع بأن القضايا السياسية هي المسيطرة على الفيسبوك، جاءت هذه المعطيات لتبيّن أن هذه القضايا قد احتلّت فيه المركزالثالث بعدما تفوّقت عليها القضايا الثقافية. ولعلّ أبرز ما لحظه التقرير في هذاالصدد أن “أقصى ما تحقّقه صفحات القضايا السياسية قد لا يتعدّى المليون علاقة ما بين أعضاء وإعجاب وخلافه، حتى بالنسبة إلى الصفحات، التي عملت في قلب الثورات العربية ومن بينها صفحة خالد سعيد في مصر”.
الأصالة بعد الجماهيرية
معيار الأصالة كمؤشر ثانٍ انتقيناه من بين مؤشرات التقرير المتنوّعة، هو مؤشر يقيس مدى التفرّد وعدم التكرار والنقل بالنسخ واللصق أوغيره في المحتوى الرقمي العربي. واستناداً إليه- أي إلى معيارا لأصالة- وُجِد أن متوسط عام نسبة المحتوى الأصيل المتفرد،أي غيرالمتكرّر، الذي لا يتمّ تناقله ونسخه وإعادة نشره بين قنوات النشر المختلفة في المحتوى العربي الرقمي يصل إلى 20.5% فقط، أما الباقي فهو يعاني بدرجة من درجات التكرار والنسخ والنقل، أي يدخل في باب الثرثرة. ما يعني أن خمس المحتوى العربي الرقمي يحقّق أصالة تامة، وأربعة أخماسه الأخرى مصابة بالتكرار بدرجة أو بأخرى.
لكن حالة الأصالة هذه، وكما لوحظ، بدأت تميل إلى التحسّن النسبي منذ العام 2004، محقّقة قدراً من الاستقرار في النموّ في الفترة الممتدّة من العام 2006 ولغايةالعام 2008، ثم شهدت تحسناًملموساً بعد ذلك، وبما ينبئ ببروز حالة من النضج والميل للأصيل على حساب المكرّر، أي بداية انتقال من الثرثرة إلى الكلام المفيد الحامل لقدر من القيمة، ولو ببطء.
أما المؤشر الثاني المتمّم نوعاً ما لمؤشر الأصالة في المحتوى الرقمي العربي فكان معيار التكاملية، أي مدى التشتّت والتشرذم في المحتوى الرقم يالعربي، بحيث توصل التقرير إلى أن متوسط عام تكاملية المحتوى العربي الرقمي ككلّ يصل إلى 18.9%، بمعنى أن ما نسبته 18.9% من المحتوى العربي فقط، هو الذي استطاع تحقيق الدرجة الثامنة على مقياس التكاملية، وحاز على تكاملية تامة، والباقي يعاني درجة من درجات التشرذم والتفتّت جعلته لا يحقّق تكاملية تامة، أو تقلُّ نسبة التكاملية فيه عن 100%.
ولأن سجّل معدل النموّ السنوي الخاص بتكاملية المحتوى نموّاً سلبياً في عشر سنوات (1995-2011) بقيم تتراوح بين سالب17% وسالب0.7%، وذلك إلى جانب تحقيقه نموّاً إيجابياً في ست سنوات فقط، تراوحت قيمته بين 3% و33%، فإن المتوسط العام للنموّ توقف عند 4.3%. وفي هذه المعدلات النسب ما ينبئ بأن الحال سيظل كما هو مستقبلاً، على المستوى القصير والمتوسط، وأن التشتّت والتشرذم وضعف الاتساق في المحتوى العربي سيبقى مزمناً.
وبذلك بدا أن معياريْ الأصالة والتكامليّة، سواء تعلّق الأمر بكلّ منهما على حدة أم في تشابكهمامعاً، هما من المؤشرات الأساسيّة التي أفادتنا بأن المحتوى الرقمي العربي يعاني من التكرار والتفتّت والتشرذم.
المؤشرات القليلة التي تتبّعناها في “التقريرالتأسيسي للمحتوى الرقمي العربي” تشير إلى أن المحتوى الرقمي العربي يعاني بشدّة من ندرة الجمهور، وأنه بالتالي لايحقّق الهدف الأساسي الذي تفترضه طبيعة وجوده، ألا وهو وصول أكبرعدد ممكن من الناس إليه. وتزداد المشكلة ضخامةً إذا ماعلمنا “أن ثلاثة أرباع المواقع، التي تقدّم محتوىً عربياً، لا يتحقّق عليها زمن مكوث قابل للرصد والتحليل”، وذلك بما يؤكّد ضعف أزمة الجماهيرية، وبما يقود إلى الخروج بنتيجة مفادها أن إنتاج المحتوى الرقمي ونشره عبر القنوات المختلفة، لا يعني، في الحالة العربيّة تحديداً، وجود محتوى ذي قيمة ما.
لعلّ في هذه النتائج والخلاصات ما يستثير التأمل والتساؤل عمّا إذا كانت حالات التكرار والتشتّت والتشرذم الملحوظة في المحتوى الرقمي العربي تتناظر مع حالات مشابهة في المجتمع العربي الواقعي، على الصعد كافة…