نصف قرن على غيابه، ولكنه حاضر أبداً (*)

بقلم: د. نبيل خليفة

في الذكرى الخمسين لغياب ميشال شيحا، طرحتُ على نفسي السؤال الذي ينبغي أن يُطرح لدى وضع أي مفكّر على محكّ التاريخ. السؤال هو:  ما الذي nabil-khalife.-1jpgبقي من ميشال شيحا بعد مرور نصف قرن على وفاته؟ وفي مراجعتي، منذ الستينات، للموضوعات والقضايا الكبرى التي تناولها ميشال شيحا في محاضراته ومقالاته وكتاباته، وفي ترجمتي الجديدة لكتابه “فلسطين”، توصلت إلى قناعة بضرورة طرح السؤال بشكل عكسي، وهو: ما الذي باد أو زال من فكر ميشال شيحا بعد نصف قرن على رحيله؟…

ولعل ما يُبقي فكر ميشال شيحا في شبه كماله وراهنيته، أنه فكر رجل حمل همّ متطلبات العصر في قضاياه الكبرى بأبعادها الجيو سياسية، وآمن بقوة الكلمة وسلطان الثقافة، وعبّر عن ذلك أفضل تعبير، إذ جمع في أدبه السياسي أصالة الفكر الإغريقي ووضوح وشاعرية الفكر اللاتيني وراهنية الفكر الأنغلو- سكسوني.

وإذا كان لي أن أختصر بدقائق هموم ميشال شيحا، كما أراها وكما عبّر عنها في قضيّتي العصر: قضية لبنان وقضية فلسطين، وانعكاساتهما الماضية والحاضرة على العلاقات الدولية والمؤسسات الدولية وعلى الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، فإن ما يلفتني لديه خمسة أمور أساسية:

الأمر الأول: لبنان ميشال شيحا: إنه لبنان الجبل والبحر، والحضور في العالم، والأرض الضامنة لحرية الطوائف ومصالحها. ولئن ذهب إلى حد القول بأن لبنان فدرالية طوائف، فإنه كان دقيقاً وواضحاً في التفريق بين تنوع الطوائف في السوسيولوجيا المعبّر عنها بقانون الأحوال الشخصية، وبين وحدة هذه الطوائف في الأرض والمصير السياسي المعبر عنها بالدستور، وأن الجمع بين الاثنين سياسياً يتأمن بالديموقراطية التوافقية عبر المجلس التمثيلي. ولهذا كان اجتهاده في صياغة دستور للبنان يعكس كيمائية التركيبة اللبنانية في تنوعها ووحدتها في آن. وعلى عكس ما يظن البعض أو يتهم، لم يكن ميشال شيحا طائفياً، بل كان أبرز علماني يدافع عن وجود الطوائف كواقع سوسيولوجي، ولكنه واقع يعكس دعوة لبنان التاريخية كأرض تنوع وحوار وانفتاح، وبالتالي فهي ليست أرض حرية فقط بل أرض الرهان على الحرية أيضاً: للبنان، لمحيطه وللعالم!.Chiha-1

الأمر الثاني: إن ميشال شيحا بقدرته الاستشراقية (Prévoyance)، تخطّى منذ الخمسينات ما يعتبر اليوم لقية القرن الحادي والعشرين، عنيت بذلك “دواء” حوار الحضارات والأديان، وتحديداً الحوار المسيحي -الإسلامي. فلقد أكد المفكر والباحث الألماني توماس شيفير أن ميشال شيحا وهو يؤسس لوحدة المصير السياسي في التنوع الديني للبنانيين ولغيرهم، لم يبنِِ كعلماني قاعدة الحل على حوار المعابد من كنائس وجوامع. وعنده أن المعابد مهما كانت الأهداف والنيات طيبة في تحاورها تبقى أمكنة انزواء وانطواء وفئوية بالتعريف. إن الحوار الديني مفيد كمسكن ولكنه لا يشفي في مجتمع تعددي قائم على لاهوتين ثابتين متقابلين. البديل في عبقرية ميشال شيحا هو لاهوت المكان، لاهوت الحيّز (espace)، لاهوت الأرض (Théologie du territoire): الأرض الواحدة التي توحد في العيش وفي المعاناة وفي المصير وفي الحرية. لهذا دعا شيحا الذين اختاروا العيش على أرض واحدة هي أرض لبنان أن يؤمنوا بلاهوت المكان الأرض ويصوروه لأنه القاعدة الأكثر ثباتاً وتماسكاً وقدرة على الجمع في ما بينهم وعلى إغناء ثقافتهم وعلى تحديد مصيرهم السياسي في ضوء فلسفة التاريخ.

الأمر الثالث: كان ميشال شيحا يؤمن ويعمل من ضمن القاعدة القائلة إن السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة. وهو ما عبّر عنه الجنرال ديغول مرة بالقول: La politique et l’économie sont” liées l’une a lautre comme la vie et l’action فالسياسة هي التي تبني الاقتصاد، والاقتصاد هو الذي يبرّر السياسة. ومنذ نصف قرن  تولى ميشال شيحا مهمة الدفاع والمرافعة عن الليبرالية الاقتصادية، كخيار حياة ومجتمع للبنان وللعالم (Choix de siciété)، كونها الوجه الآخر لليبرالية السياسية حتى ليصح القول إن ميشال شيحا هو رجل البيان الليبرالي (Le manifest liberal) في الشرق بامتياز، لذا، فإن الماركسيين اللبنانيين لم ولن يغفروا له هذا التجرّؤ المبكر على “المادية التاريخية” بالإعلان عن كسوفها إبان صعودها، وخطف أحلامهم الحمراء في مهدها، ورهانه بالمقابل على “الليبرالية السوبر تاريخية” كخيار مجتمعي قادر على أن يحقق لإنسان المستقبل الازدهار والحرية. وهو ما نشهده الآن بعد انهيار المعسكر الاشتراكي.

الأمر الرابع: فلسطين ميشال شيحا، هي فلسطين الجغرافيا “بلد صغير مكتظ بالسكان لا يمكن أن يجزّأ إلا بضرب من الجنون”. وهي فلسطين الأرض غير الخاوية التي تشهد صراع الديمغرافيتين العربية واليهودية، لاجتياز جغرافيتها وبما يهيئ لحرب دينية هي “حرب المئة عام”.  وهي فلسطين حيث عملت الصهيونية على تحقيق مشروعها الحلم بروح دولة امبراطورية وسوبر دولة عنصرية وتوسعية مجسيّة غريزية. خلفيّته لاهوتية توراتية وتحقيقه تم عبر هجرة اليهود الى فلسطين وهو لن يتم إلا على حساب جيران إسرائيل، بما يضع لبنان على حدود الخطر الدائم وعلى جفن اليقظة الدائمة.
وهي فلسطين القلق والاحتراز والمقاومة في وجه “مشروع جهنمي لاستعمار الشرق الأدنى برعاية أميركا” وليس أمام العرب سوى خيار وحيد: المقاومة باعتبارها مسألة حياة أو موت. ولكن العرب يعانون من التردد والضياع والانقسام، ولا يسمعون أو أنهم لا يريدون أن يسمعوا لأنهم “مصابون بثلاثة: تخلف العقل وغياب الرأي وإفلاس العدالة”.guilaf chiha

وفلسطين ميشال شيحا هي عنده جرح في وجه لبنان وصميمه، لقد شاءها قبل التقسيم بلداً يمثل إرادة الحياة معاً والتسامح الأقصى والاحترام الكامل لحرية الضمير شأن البلد الصغير لبنان.
وحذر منذ العام 1947 من “منطق إقامة الجدار بين اليهود والعرب”، و”لكن الأمم المتحدة ارتكبت عمل عنف ضد الحقائق وصوّتت بشكل مخزٍ لتقسيم فلسطين” مفتتحة الصراع لحرب المئة عام وواضعة  إياه في خدمة إسرائيل وأميركا وروسيا على حد سواء”.

وفلسطين ميشال شيحا بعد التقسيم هي فلسطين القدس والمدينة المثلثة التقديس، المطلوب تدويلها، وفلسطين الحدود المطلوب ضمانها دولياً (حدود 1947 لوقف التوسع) وفلسطين الحل العادل لمشلكة اللاجئين المأسوية.

لكن كلام شيحا ظل صرخة في وادٍ في وقت كانت إسرائيل تريدنا وتعمل لكي نبقى ضعفاء “من دون سلاح ومن دون حلفاء ومحكومين بأسوأ الساسة”.

إزاء هذه الأفكار، وغيرها كثير، سمحت لنفسي أن ألقّب ميشال شيحا بأنه “آخر أنبياء فلسطين”، ألم يقل هو نفسه “قد نرى مسوّغاً لاعتماد لغة الأنبياء كلما كان الأمر يتعلق بإسرائيل”؟!.

الأمر الخامس: على الرغم من شاعرية ميشال شيحا الأدبية كتعبير عن استراحة الذات المثقلة بالهم الوجودي، فإن أسلوبه الأدبي الراقي يندرج ضمن مدرسة الواقعية التاريخية (Réalisme historique) والتي تعني وعيه العميق للواقع المجتمعي وتحليله ودراسة علاقته بمحيطه الطبيعي والاجتماعي واستشراف مستقبله، مع الأخذ في الاعتبار خصوصيات الواقع في كل مجتمع تاريخي وما لديه من أفكار وتطلعات روحية وثقافية واجتماعية تمجيداً لحياة جماعة معينة في بلد معيّن. وهو ما قام به بالنسبة إلى لبنان وفلسطين مستعملاً أدواته الكلاسيكية المعروفة، وهي:  La tradition, l’histoire, la géographie, l’économie politique le bon sens, et la nature des choses، التقليد والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد السياسي والفكرة السليمة، وطبيعة الأشياء، باعتبارها المحددات المعيارية لحركة المجتمعات في التاريخ.

في الخلاصة، ميشال شيحا هو قبل كل شيء رجل مؤسس بالرؤية والتوقع والواقعية لدولة كي تحيا هي لبنان ولدولة كي لا تموت هي فلسطين. صحيح أن الشيخ بشارة الخوري (مع رفاقه) كان صانع استقلال لبنان، ولكن ميشال شيحا قام بدور السابق (Pionnier) بالمعنى الفكري الإصلاحي في قيام الجمهورية اللبنانية: كيانها ودستورها وتركيبتها وليبراليتها واقتصادها ودورها وحضورها في العالم، وهي أمور يفتقدها كلها لبنان اليوم، بحيث أنه لو عاد ميشال شيحا اليوم الى لبنان السياسي الاقتصادي لأحسّ بغربة كاملة. ومع ذلك، فإن فكر ميشال شيحا لا يزال يخترق حياتنا السياسية والثقافية والاقتصادية، بنبرة نبوية هيهات أن يعرفها وأن يصغي إليها المسؤولون البائسون عندنا في العالم العربي. فما كتبه منذ خمسين عاماً هو أكثر راهنية من “الحقائق الرسمية” التي تود أن تفرضها الأنظمة الاستبدادية علينا بلغاتها الخشبية.

لقد كتب ميشال شيحا إلينا جميعاً الكثير من النصائح والرسائل، وبقي علينا أن نردّ له الجميل في ذكراه الخمسين ولو برسالة واحدة تقول له فيها: لقد صدقت وأصبت وشعبنا مدينٌ لك طوال قرن كامل، نصفه ماضٍ ونصفه مقبل، أكثر من أيّ إنسان آخر.

أجل، كل موت يُعد نهاية للعالم وهي نهاية تتكرر بموت كل مفكّر كبير!.
حسب ميشال شيحا إنه حمل هموم عصره وقاربها برؤية نبوية، فتخطى عصره!.
هذا الرجل الكبير كان مجلّياً في كل ما عمل وكتب وأنجز. 
ولم يكن مقصّراً في أي شيء… فقط كان عمره قصيراً.
… لكنّ الرجل الكبير لا ينتهي بمأتم!!.

*********

(*) من كتاب الدكتور نبيل خليفة “ميشال شيحا أول أنبياء لبنان وآخر أنبياء فلسطين” الصادر حديثاً  عن منشورات “مركز بيبلوس للدراسات”،

كلام الصور

1- د. نبيل خليفة

2- ميشال شيحا

3- غلاف الكتاب

اترك رد