بقلم: بسكال لحود
كثير جورج خضر، لذا ربَّما يشعر كلٌّ منا أنَّ له فيه حصَّة وعليه دالَّة. هو الآتي إلى اللاهوت من ثلاثة: آشعياء ويوحنّا وبولس، كان أوَّل لقائه بهم في حارة النصارى الطرابلسيَّة، مسقط رأسه، بين الترنيم البيزنطيِّ والأذان. لذا جاءت كتاباته، منذ بداياتها، مدموغة بالانفتاح على الإسلام والإصرار على التعبير عن روح الإنجيل بلغة النبوَّة العربيَّة. هو الطالع من أرثوذكسيَّة صوفيَّة وعروبة نهضويَّة وشغف بكلِّ جميل، يأتينا بالقدس والمدينة والقسطنطينيَّة وبغداد، فتنقلب جغرافيَّة الأحزان والحروب والفراديس الضائعة مطارح سجود، ويأتينا باللاهوتيِّين والموسيقيِّين والشعراء والفلاسفة كمن يصطحب رفاقًا يعرِّفهم على رفاق، فيغدو التنقيب في النصوص سفرًا في الوجوه. وما المطارح والوجوه عنده سوى مطلاّت إلى وجه الله، يتحدَّث خضر عنه بوَلَه العاشق وثقة الشاهد، فيصبح ما لم تبصره عين ولا أدركه ذهن على مرمى قولة ودمعة، وتنتصب اللغة فوق الهوَّة الفاصلة الزمن عن الأبد جسرًا بل قوس قزح.
لقد امتهن هذا الأسقف الموسوعيُّ الكتابة كهنوتًا مسكونيًّا حاور من خلاله اللبنانيِّين والعرب في شتّى ميادين الهُنا والماوراء على مدى أكثر من نصف قرن، فوقَّع جمالات كثيرة في اللاهوت والتاريخ والسياسة والأخلاقيّات، يتناولها هذا الكتاب التكريميُّ عرضًا وتحليلاً. إلاّ أنَّ لغة خضر تبقى بصمته الأساسيَّة، لذا تكرِّمه الجامعة الأنطونيَّة أسقفًا للعربيَّة، تيك اللغة التي عمل على تسويتها مذودًا للُّوغوس، والتي بها جذب قرّاءه، مؤمنين وغير مؤمنين، إلى أبرشيَّة من فكر وجمال ومحبَّة.
كتاب جورج خضر: أسقف العربيَّة هو الإصدار السادس في سلسلة “إسم علم” (*)، نستهلُّه بكلمة رئيس الجامعة الأنطونيَّة الأب جرمانوس جرمانوس، يليها قسم أوَّل هو بطاقة تعريفيَّة بخضر، تتضمَّن أبرز مراحل مسيرته الكهنوتيَّة والأكاديميَّة، حتّى الآن، وثبتًا بمؤلَّفاته.
أمّا القسم الثاني فعبارة عن ثماني دراسات تتناول أوجهًا مختلفة من نتاج أسقف العربيَّة.
دراسة الدكتور أنطوان فليفل تتناول نتاج خضر كلاهوت سياقيٍّ ملتزم قضايا محيطه العربيِّ واللبنانيِّ، وقضايا كنيسته الأرثوذكسيَّة العربيَّة، يطرحها بوضوح صارم، وصراحة جارحة مُحِبَّة، هما الدليل الأوضح على التزامه السعي إلى حلول ناجعة. ويسوق فليفل، تدليلاً على هذا اللاهوت الملتزم، نموذجين هما: تناول خضر المعضلة المسكونيَّة ولا سيَّما مشكلة الاتِّحاديَّة، والعصمة والأوَّليَّة البابويَّتين؛ وتناوله القضايا السياسيَّة اللبنانيَّة والعربيَّة ولا سيَّما منها العروبة، والقضيَّة الفلسطينيَّة، وإشكاليّات النظام اللبنانيِّ وعلى رأسها الطائفيَّة.
والإشكاليّات اللبنانيَّة هذه تأتي في صلب دراسة الخوري باسم الراعي التي تتناول لاهوت خضر السياسيِّ من خلال معالجته مسألة نشوء الكيان اللبنانيِّ وكيفيَّة الارتقاء به من رومنسيَّة الانتماء العاطفيِّ الصوفيِّ إلى بناء دولة، والارتقاء بالعيش معًا من التعايش السلبيِّ إلى المقابسة.
مقاربة خضر قضايا المسكونيَّة والعروبة ولبنان تفرد مكانًا ودورًا خاصَّين للتاريخ. ففي جميعها الناس “جرحى التاريخ”، على ما يقول في لو حكيت مسرى الطفولة. من هنا ينكبُّ الأب ميشال جلخ على منهجيَّة خضر في تناول التاريخ. فهو يؤرِّخ تأريخ السامريِّ الشفوق المنهمِّ بتضميد الجراح أكثر من اهتمامه بإبستمولوجيا العمليَّة التأريخيَّة. يحلِّل جلخ هذا التوتُّر في نصِّ خضر بين مستلزمات المقاربة التاريخيَّة، واستراتيجيَّة الاستغفار والتضميد التي يعتمدها في مقاربته الحروب الصليبيَّة ووحدة الكنيسة والعلاقة مع الغرب. يؤرِّخ خضر بين تكفيرين، يقول جلخ، تكفير يستهدفه ظلمًا كوريث للصليبيَّة، وتكفير يقوم به هو عن خطايا تاريخيَّة لم يرتكبها.
أمّا في قضايا الإسلام والحوار معه، فدراسات ثلاث. الأولى بقلم الدكتور أحمد بيضون يشدِّد فيهاعلى الموقع الذي ينطلق منه خضر في مقاربته الإسلام، وهو الصوفيَّة، بحيث تغدو دعوته إلى الحوار اجتذابًا للمسيحيِّين والمسلمين إلى مستوى روحيٍّ أسمى من الخلاف والاختلاف، من دون الوقوع في شبهة التلفيق. فعنده أنَّ النهضة الروحيَّة كفيلة بأن يلتقي المسيحيُّون والمسلمون في ما يتعدّى القبليَّة الطائفيَّة التي هي عند خضر انحطاط روحيّ. إلاّ أنَّ هذه الدعوة لا تبطل ضرورة التعارف الرصين بين الدينَين، يقول بيضون، وهو يقتضي الإقرار بوجود مسائل خلافيَّة على رأسها مفهوما الوحي والتنزيل، وعقيدة التثليث، وموقع المسيح المتنازَع بين النبوَّة والبنوَّة… تتناولها جميعها مقالة الدكتورة نايلة أبي نادر متلمِّسة ملامح فلسفة الحوار عند خضر، مبيِّنة تلازم الصرامة والمحبَّة في مقاربته، بحيث تنقلب طاولة السجال العقديِّ مائدة تحابٍّ وضيافة.
يرصد الشيخ شفيق جرادي من جهته، في نصِّ خضر حول الإسلام، حركة مدٍّ وجزر بين المقاربة الاحتوائيَّة، والمواجهة (بالمعنى الخُضريِّ) والرنوِّ المحبِّ، لكنَّ مسألة العيش معًا تبقى واضحة ثابتة عنده، يقول جرادي، وهي تبدأ بكسر الصور النمطيَّة الواقفة حواجز بين المسيحيِّين والمسلمين، ولا تنتهي بانخراطهم معًا في الدفاع عن كرامة الإنسان من جهة، وفي الدفاع عن القدس من جهة أخرى.
أمّا نصُّ الدكتورةمرلين كنعان فيدرس بعدين أساسيَّين في كتابة خضر هما علاقته الفريدة بالزمن واللغة. لا يأنف خضر الزمن، بل هو يتَّخذ من كلِّ لحظة ومن كلِّ حدث، صغيرًا كان كبيرًا، فادحًا كما الحرب اللبنانيَّة، أم خفِرًا كلقائه وجهًا، منطلقًا للتفكير، وفرصة لتلمُّس بذور المسيح الكونيِّ وآثاره في كلِّ الكلّ. أمّا لغته فمتَّسعة تستضيف شعراء الغرب والشرق، ومفكِّري الأمس واليوم، وتبقى، في حجِّها إلى أقاصي الموضوعات والفضاءات، مسكونة بالمسيح، تمهِّد سبله في لغة العرب وتاريخهم.
دراسة بَسكال لحُّود تتناول علاقة تناصٍّ عن بعد بين خضر وليفيناس. كلاهما على علاقة متوتِّرة بالفكر الغربيِّ، يريد إخصابه بكلمة من فوق تعيد إليه معنى المعيَّة والمقدَّس. كلاهما ينتقد في الغرب تأليهه العقل والتاريخ وهوس الوضوح، وكلاهما يقول هذين النقد والإخصاب باستعارتين محوريَّتين هما الوجه والجرح. إلاّ أنَّهما يفترقان عند المسيح، تقول، إذ مسيح خضر سكن التاريخ فسكن التاريخ إليه وبات به كلُّ شيء قياميًّا، فيما مسيح ليفيناس ممسك عن المجيء، مقيم في استفزاز التاريخ عن بُعد بيهوديَّة الليسَ بَعد.
القسم الثالث مجموعة من الشهادات في أسقف العربيَّة بأقلام أصدقاء له، فليس أبلغ من نصِّ خضر سوى وجهه وحضوره وصداقته. شهادة الدكتورة أمل ديبو تصف سيادة خضر على اللغة، سيادة جعلت الدكتور يوسف كمال الحاج يلقِّب خضر بذهبيِّ القلب القلم الحامل اللاهوت إلى الناسوت. أمّا شهادة السيِّد هاني فحص فهي تحيَّة إلى من له معه علاقة تناصٍّ على المحبَّة، بحيث يسطع كلٌّ منهما في نصِّ الآخر. وتحكي الدكتورة إلهام كلاّب محطّات من مسرى صداقة قديمة جمعتها بالمطران وسمحت لها بتبيُّن معابر ثلاثة في نصِّه هي الأثر والوجه والهوِّيَّة. أمّا الدكتور نداء أبو مراد فنصُّه شهادة في مشيَخة خضر الروحيَّة تتوقَّف بنوع خاصِّ عند علاقة الخبرة الروحيَّة بالإبداع الفنِّيّ.
الكلمة الأخيرة في الكتاب هي للإسم العَلَم، المطران جورج خضر، وهي بعنوان “اللاهوت والناسوت في تحابِّهما”. كلُّ كلام بغير الله لغو، يقول، والكلام في الله عنده لا يعني إعراضًا عن الحياة أو الإنسان، بل هو الكلام في كلِّ شيء، ما يُرى وما لا يُرى، في نفَس اسخاتولوجيٍّ يلمُّ الإيمان والأخلاق والسياسة والتاريخ والجماليّات في سمفونيَّة واحدة مصدرها إله قال حبَّه دمًا، وهدفها الاشتراك في قرع أجراس الوجود احتفاء بالقيامة.
في كلِّ قول في خضر، دراسة كان أم رسالة أم شهادة، وقوف لحظة صمت وسحر أمام لغته. لغة نحتها هو إتقانًا وإنهاكًا وانتهاكًا، بالدالَّة المطلقة التي للإبنيَّة والسيِّديَّة متى اجتمعتا، ففاجأها بما لم تعتده، وزرع فيها أمداء صمت ضروريَّة كيما تتَّسع مذودًا لمن هو السعة الكبرى، بحيث يرقص فيها مضرب الأجراس القياميَّة بحرِّيَّة، وتغدو، كما يريد لها خضر، المُوحى والمَوحى معًا…
وبعد، يليق خضر بأسقفيَّة العربيَّة – والأسقفيَّة خدمة وسلطة ورعاية – ولا تليق إلاّ به، هو الحامل على كتفَي كلمته صلبان العروبة جميعها، والقارع على أبواب العروبة جميعها أن ارتفعن أيَّتها الأبواب فيدخل ملك المجد!
*****
(*) “إسم عَلَم” سلسلة تكريميَّة تصدرها منشورات الجامعة الأنطونيَّة تحت إشراف بَسكال لحُّود، نائبة الرئيس للشؤون الثقافيَّة، وهي مخصَّصة للإضاءة على كبار المفكِّرين اللبنانيِّين في ميادين الفلسفة والعلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة من خلال التعريف بنِتاجهم.
انطلقت “إسم عَلَم” عام 2008، وقد صدر منها حتّى الآن:
1. ناصيف نصّار: عَلَمُ الاستقلالِ الفلسفيّ (2008، 2012).
2. جورج قرم: عَلَمُ الأصالةِ المنفتحة (2009).
3. بولس الخوري: فَيلسوفُ اللاكَمال (2010).
4. أنطوان-حَميد موراني: عَلَمُ كنيسةِ الرَّجاء (2011).
5. أحمد بيضون: عَلَمُ المعاني والمباني (2011).
6. جورج خضر: أسقفُ العربيَّة (2012، 2013).
7. خليل رامز سركيس (قيد الطبع).