بقلم: د.ناتالي الخوري غريب
تخضع منظومة الوعي في المجتمعات المتقدّمة التي تؤمن بالحقوق والحريات لتحكّم العقل والاستناد إلى مفهوم الإنسانية في الإنسان فيما يتجاوز الذكورة والأنوثة، وبخاصة حين يتعلّق الأمر بالتعاطي الحضاري والمساواة وحرية اتخاذ القرارات ضمن الأسرة، فلا تكون اشتراطيّة انتقائيّة تخضع للصورة النمطيّة التي يرسمها المجتمع الذكوري للمرأة، حيث يرتبط مفهوم العنف ضد المرأة وسلبها قرارها وحريتها، بمفهوم الرجولة، من دون وجود مسوّغ عقلاني أو قيمي، ما يهيّئ لمجتمع متهالك مريض، وعدّة هدمه كامنة فيما يجب أن يكون أداة بنائه، أي المرأة.
من هنا، كانت رواية “هذيان ذاكرة”، الصادرة حديثًا في طبعتها الثانية، عن دار سائر المشرق، 2012، لنيرمين الخنسا”، الأديبة والروائيّة، حيث تصوّر” مرآة الروح الفردية المتأزّمة لحال المرأة العربيّة المعنّفة والمهمّشة، التي يجعلها المجتمع الذكوري رهينة حلّين لا ثالث لهما: الخضوع والتسليم الكليين، أو الهرب، ابتعادًا أو انتحارًا .
إذ تتناول الكاتبة وضع المرأة بين الخضوع الكلي لواقع مفروض، أو ضرورة الخلاص بما تسمح به ما رسمه المجتمع لصورة المرأة الخاضعة للسلطة الأبوية، على مدى ثلاثة أجيال، من الجدّة التي اختارت الهرب من دون عودة، إلى الوالدة الثلاثينية التي آثرت الانتحار رفضًا لزواج زوجها، بسبب عدم إنجابها الذكور، وصولًا إلى الحفيدة، بطلة الرواية “يارا” التي شهدت انتحار والدتها، من دون أن تستطيع شيئًا، بحضور والدها، لتتهشّم ذاكرتها، مضيفة مآزم وعقدًا أقوى من أن تتحمّلها فتاة في الخامسة عشرة من عمرها، لأنّ الفتاة تقتبس الانسحابيّة والخضوع من والدتها وتصبح صورة ممتدّة لها، فكرهت الزاوج ورفضت حبيبها خوفًا من أن تتكّرر معها مأساة أمّها، ما أدّى إلى انتحارها أيضًا، في الموقع المكاني عينه.
هواجس وحرمان
تغوص الكاتبة في رصد هواجس النفس الإنسانيّة من خلال البطلة، مظهرةً ما شعرت به من النقص الحاصل في العاطفة والحنان المعدومين والكيان البنوي المسلوب، لأنّها أوّلًا فتاة، ما يحمّلها ذنوبًا لم تقترفها، وتاليًا تعنيفًا وتهميشًا، وكأنّه حكم على المرأة في الذاكرة الجمعية العربية التي تحتفظ بهذا الموروث المهمِّش للمرأة والمهشّم لدورها وحضورها وكيانها في آن، فقط لأنّها امرأة، فتسعى جاهدة لتعويض النقص والحرمان المستفزينّ للوجدان الإنساني لأنّهما ممزوجان بالتجنّي والقهر، لكنّ هذا الاضطهاد ولّد في داخلها الشعور باهتزاز صورة الذات وانعدام القيمة الذاتيّة وجرحاً نرجسيًّا خطيرًا أدّي بها إلى التفكك النفسي والاختناق، وبخاصة حين اضطرت للتنقل بين منزل أختيها من دون أن يكون مرحَّبا بها، وزواج أبيها الذي ينتظر مولودًا، واتهامها دومًا بأنّها السبب في موت أخيها التوأم الرضيع في بطن أمها، ومن ثمّ موت الطفل المنتظر من زوجته الثانية، وإلقاء اللوم عليها، بما لا حول لها به ولاقوة، وهذا الواقع ولّد لديها عجزًا عن الاحتجاج أو الانتفاضة على المعاملة السيئة من أب، يفترض أن يكون منبع الحنان والرأفة، ما انعكس فشلًا في حياتها الدراسية والعاطفية، وتحوّلًا إلى عدوانية تجاه من حولها، إما إثباتاً لوجودها للتخلص من عقدة الفشل أو تنفيسًا لشحنات التوتّر التي تتملكها.
وبذلك تكون نيرمين الخنسا قد استطاعت تحليل سيكولوجية المرأة المقهورة والمعنّفة، وما سبّبه تراكم العقد النفسية منذ طفولتها مرورًا بمراهقتها، وصولًا إلى تأزّم النفسية في شبابها، انتهاء بحالة مرضية، أدّت الانتحار.
أمّا حتميّة الموت عبر “الانتحار”، التي ارتأتها خاتمة خلاصيّة لبطلتها “يارا”، من القلق القاهر، كما فعلت والدتها، لم يكن قرارًا مسطّحًا نتيجة انفصال حبيبها عنها بعد أن أسرّ إليها بعقدها التي تستوجب المعالجة، بل أنّها أوضحت عبر حبكة روائية وتسلسل في سببية الحوادث وتولّدها بعضها من بعض، أنّ مثل هذه النتيجة الحتميّة، ليست وليدة رومنسية مفرطة، أو رهافة مطلقة، بل نتيجة قلق مترسّب في قاع الذاكرة، لأنّ الذاكرة “هي القدرة على إحياء حالة شعوريّة مضت وانقضت، وتاليًا”هي القوّة التي تدرك بقاء ماضي الكائن في حاضره”، فإن كان هذا الماضي مهمّشًا مؤلمًا، كان حاضرًا في اللحظة الراهنة التي تعكسها، ما يعني مستقبلًا مرضيًّا، فتراكمات الماضي ماثلة أمامها بتعنيف أمّها وأختيها، في حياة تملؤها المتناقضات، من هنا يصحّ استحضار قول “ألبير كامو”، “أنّه لأسهل أن يموت المرء من جرّاء تناقضاته بدلا من معايشتها”، فكان قرار الانتحار، للأمّ والابنة على السواء. وللمفارقة، أرادت المؤلفة أن يكون مكان انتحار الاثنتين هو نفسه مكان عرس الاخت المفروض عليها غصبًا عن إرادتها، هو نفسه مكان مواجهة الأم والاب، هو نفسه المبنى الذي يعيشون فيه مع جيرانهم، وكأنّي بالكاتبة أرادت أن تكون هذه الصور، تثبيتًا وتكريسًا لفكرة القهر والحزن والمأساة التي تعيشه المرأة، وامتداده على مدى جيلين، أمام الملأ(على السطح)، من دون وجود حامٍ أو مدافع، وبذا تصوير سكوت المجتمع الفاضح عن هتك الحرمات والتعرّض للمذلّة، وإحياء هذه الصور في الذاكرة الجمعية للمجتمع ككلّ، فالذاكرة” مثل الصدى الذي يواصل التردّد بعد أن يكون الصوت قد تلاشى”(صموييل بتلر”)، وبذلك، لا تغيب صورة القهر والتعنيف عن بال الذاكرة الفرديّة والجمعية على السواء.
أحوال انفعالية
وأغلب الظنّ أنّ الكاتبة شاءت في روايتها هذه توضيح أهميّة تنشئة الفتيات، منذ طفولتهنّ، ومدى تأثير حرمانهنّ من العاطفة الوالديّة سلبًا على مستقبلهنّ، نتيجة كبتها في لاوعيهنّ، لأنّ الذاكرة الانفعاليّة memoire affective”، “هي القدرة على تذكّر الأحوال الانفعاليّة السابقة، كقدرة الإنسان على إحياء خوف قديم اعتراه في بعض ظروف حياته، وقد تطلق الذاكرة الانفعالية على ذكرى الحوادث الماضية من جهة ما هي مصحوبة بجملة من الأحوال الانفعاليّة”، وهذا ما حدث مع بطلة الرواية حيث تعود صور القهر والعنف إلى مسرح الشعور، ونبذ أبوبها الدائم لها، لنصل إلى شخصيّة مرضيّة، لا تسمح بتنشئة أجيال أخرى.
وبذلك، تكون المؤلّفة قد ألقت الضوء على دور التربية في ترسيخ الموروث ونبذه، والتنبّه إلى تبعات الحطّ من قدر المرأة، محاولة عبر بطلة روايتها “يارا” كما جميع الشخصيات، لمس الجرح النازف الناتج عن التربية الذكوريّة التي تكرس مفهوم التمايز بين الجنسَين نفسياً وجسدياً، رافضة تثبيتها في منظومة الوعي الاجتماعي وقيم الموروث التي تنسج طبيعة العلاقات والأواصر بين أفرد المجتمع، موضّحة بذلك سمات شخصياته .
وقد كان اختيار المؤلّفة السرد المباشر في عرض الأحداث بعد تأطير المكان والزمان، وظهرت الحبكة في انتظام الحوادث في ذاكرة البطلة يارا بفعل نسيجها المتين معتمدة على تيار الشعور الداخلي او المونولوج الداخلي كوسيلة تعكس عبرها الواقع النفسي وتمسك بجريان شريط التذكّر في ذهنها، مظهرة كيف كان كلّ موقف متأثّر بسابقه ومؤثّر في لاحقه من أجل ترجمة واقع المرأة في بعض المجتمعات العربية بين التعنيف والتهمش، ورصد الذاكرة المهمّشة بين الهذيان والواقع.
كلام الصور
نرمين الخنسا تقدم كتابها إلى نقيب الصحافة محمد بعلبكي