الأديب المصري عبدالصبور السايح
ما أكثر اللوحات الفنية والتماثيل الرائعة التي شاهدها طوال حياته في بقاع شتى ، كلها أدهشته ، نالت إعجابه ، علقها صوراً كثيرة غطت معظم جدران شقته البسيطة، إلا أن هذا التمثال بعبقرية إبداعه، بفكرته الفريدة،جعلته يتصدر كل اهتماماته.
علاقة غامضة ومثيرة نشأت بينه وبين هذا التمثال، منذ أن رأى صورته في إحدى المجلات، فظل لوقت طويل يتأمله بعيون ممتلئة بإعجاب وتقدير، وقتها كان لا يزال طالباً في المرحلة الثانوية، وقد بدأ وعيه القروي يتفتح على أشياء كثيرة يربطها حبل عشقه للجمال في الوجود الواسع الثرى من حوله، كانت عيونه ترى في كل شيء جمالا قد لايراه إلا من درب عقله ووجدانه على استقبال إشاراته.
ولأن الجمال – من وجهة نظره – لا يتجزأ راح يمارس ألوانا شتى من الفنون لا لشيء إلا لاستمتاعه بها، معتقداً أن الجمال من أعظم هبات الخالق العظيم في جنتنا المؤقتة، أرضنا التي نعيش عليها، وقد منحنا الله عيونا تبصر وعقولا تتأمل وقلوبا تعشق فتسعد.
لم يكن بطبيعته من عشاق الفلسفة الهلامية المعقدة، بل استهواه التأمل في الموجودات، احتراماً لعقله من صدأ الاستهلاك اليومي بالعادي والمألوف، هكذا كان يقنع نفسه كلما أجهدته الحياة بمشكلة، أو تاه في دروبها أثناء البحث، لم يكن عثوره على الجمال، في صورة من صوره، التي لا تعد يسعده فقط بل كان يشحن طاقته بحب الحياة التي يعيشها، رغم كل ما كان يواجه فيها من تعاسات وهموم، لطالما قبضت على روحه المحبة للحياة بقبضتين من حديد، منذ أن رأى صورة هذا التمثال، ظل يتمنى رؤيته في مكانه، على قاعدته حتى قدر الله له السفر إلى القاهرة لأداء مهمة كانت كفيلة بالتهام كل وقته ونقوده ، إلا أن رغبته في رؤية التمثال ذللت كل متاعبه أمام غايته المنشودة منذ وقت طويل.
حين اقترب من التمثال لأول مرة شعر براحة غريبة تدب في أوصاله وتسري في كل خلاياه، كمن رأى عزيزاً عليه، بخبرة راح يتأمل ملامحه، نظراته الشاخصة إلى السماء، وضعية جسده، مزاوجته بين رجل وامرأة بكل ما في هذه المزاوجة من دلالات، كعنصرين للوجود وجناحين للأمة لا تطير للعلا إلا بهما، لملامحه المصرية الأصيلة، لانسياب جسده بشكل مذهل على القاعدة الرخامية، لاتجاه وجهه نحو الشرق مستلهما لكل معاني الشروق الممثل للولادة والأمل ، لأشياء أخرى كثيرة تزاحمت في رأسه.
لم يكن الميدان حول التمثال هادئاً أو وقوراً ، اقترح في نفسه نقل التمثال إلى حديقة واسعة لا تغطى أشجارها روعته ، لساعات ظل يدور حول التمثال كمن يستنطق أسراره، محاولا الإلمام بكل تفاصيله وروعته ، وقتها لم ينس قراءة الفاتحة على روح مبدعه الذي قضى شهوراً عديدة يفكر ويصمم وينحت بإرادة لمتضعف، حتى أتم انجازه المبهر، ليتركه لنا ولغيرنا شاهداً على عبقريته الواعية والمسئولة .
في القطار العائد به إلى قريته الصغيرة في جنوب البلاد لم يفارقه التمثال، وقد تجسد بين يديه في صور كثيرة، راح يتأملها بإعجاب شديد، أثارت الجالس بجواره، ليدور بينهما حوار طويل عن أهمية الفنون في حياتنا، والفرق بيننا وبين من يقدرون هذه الأهمية، فيعتنون بها ويجعلون لها معارض وأسواقاً ترتفع فيها الفنون الى المكانة التى تستحقها.
كان الحوار طويلا ومفيداً، إلا أنه تطرق إلى ثرواتنا المنهوبة، واثارنا التى لا نحسن الاستفادة منها على كثرتها وتنوعها واصالتها، ثم انحنى الحوار لينال من نظم التعليم ودور المؤسسات الثقافية والإعلام والمحليات الغائبة وغيرها، حتى انتهى إلى جملة من الحقائق المؤسفة، وهى أن الناس فى بلادنا لم يتجاوزوا بعد هموم أجسادهم من طعام وشراب وعلاج وزواج وغيرها، والتى اعتبرها الرجل بمثابة القبضة القاتلة لانساتيتنا .
بعد هذا الحوار ظل لأشهر عديدة حدث الناس عن التمثال حتى شعر من ردودهم باستغراب شديد تحول بعدها إى سخرية مرفوضة ومؤلمة،بينما ظل هو على اعجابه وقناعاته التى تبلورت فى عيونه الى رؤى واضحة.
ذات ليلة زاره التمثال فى منامه، ظل يحدق فى وجهه كمن يتعرف عليه أو تحقق منه، حدثه عن هموم كثيرة يعانى منها، عقدت المفاجأة لسانه، فلم يرد بكلمة واحدة. بعد صحوته ظهرت عليه فرحته الغامرة برؤية التمثال، الا أن ما تركه حديث التمثال فى نفسه جعل هذه الفرحة تنكمش فى صدره، بل فتحت عيونه على هموم جديدة لم يكن يهتم بها قبل رؤية التمثال الذى يحبه كثيراً.
لم يستسلم ولم يتراجع احساسه بالمسؤولية، فتزايد اهتمامه بالتمثال ليجمع عنه وعن مبدعه كل شاردة وواردة، لبصبح في نهاية الأمر قضيته الجوهرية التي يدافع عنها بلا كلل ولا ملل، مؤمنا بنبل مسعاه، واثقا من نجاحه في القيام بها والدفاع عنها. لم تكن رؤية التمثال لتسقط من ذاكرته تحت أقدام الواقع بمرور الوقت، وقد أثارت شجونه بما طرح فيها من قضايا، بل تحولت بعد فترة قصيرة إلى بداية لوعي جديد .
ذات يوم قال له أحمد المهدي إن التمثال قد زاره، هو أيضاً فى ثياب بيضاء، دون أن يتحدث معه في شيء، رغم كل ما بدا على وجه التمثال من حيرة وإجهاد، أما صديقه بطرس القس، فقد أقسم له بالمسيح الحي، بأن التمثال نفسه كان موجوداً بينهم فى قداس الأحد، حاملا لشمعتين لم يشاهد أجمل منهما فى حياته.
وقتها فقط أدرك أن للتمثال خفايا لم يكتشفها بعد، أو ربما كان في مأساة كبيرة تحتاج إلى من يعاونه للخروج منها، فعقد العزم على العودة إلى التمثال، وقد ساورته شكوك تمنى لو لم تتحقق.
لم يكن شوقه للتمثال الأسطورة وخوفه عليه إلا حافزاً لاحتمال سفر شتوي لتسع ساعات كاملة، قضى معظمها في تأمل كل ما يدور في الوطن بعد الثورة التى اعتبرها انجازاً تحول إلى اعجاز، لبعث ما مات في نفوسنا من أمل فى المستقبل، في ظل واقع مأساوى ومؤلم، بعد انهيار قيم المجتمع وتحوله إلى مجتمع مادى لاهم للناس فيه الا جمع المال بأ ى وسيلة ثم انفاقه فى اى وجه دون رادع .
لم يكن وصوله إلى التمثال إلا صاعقاً، لم يصدق عينيه حين فوجىء بقاعدة التمثال خالية منه ، سيل بشرى يندفع فى الميدان بلا توقف . فى عصبية واضحة وانفعالات متباينة راح يسأل العابرين : أين تمثالى ؟ هل سرقوه كما سرقو ا الوطن ؟ أين ذهبوا به ؟ كيف لهم أن يفعلوا به ما فعلوا؟
السيل البشرى لم يتوقف ولم يجد منه إلا اندهاشه وسخريته المؤلمة التي تركت فى ضلوعه خنجراً مسموما، عجز وقتها عن نزعه . فجأة اقترب منه عجوز يتوكأ على عصاه، يتحاشى زحام الشارع ، ربت على كتفه فى حنان بالغ:
– إهدأ يا بنى، التمثال موجود
– اين .. أين تمثالى أرجوك أن تخبرنى بسرعة لقد تركت كل شيء هناك وجئت لكى أراه.
– ابتسم العجوز: التمثال فى نفوسنا .
ابتلع كلام العجوز بصعوبة بالغة دون أن يقتنع به، كرر سؤاله. مضى العجوز دون أن يرد حتى غاب في الزجام. حاول أن يسأل سواه ، لم يجبه أحد. راح يصرخ فى هستيرية واضحة:
– أين تمثالى ؟ اجتمع حوله خلق كثير.
قال أحدهم :
– هذا مجنون فاتركوه .
وقال آخر ساخراً :
– التمثال في التحرير يرابط مع الثوار.
وعقب ثالث:
– بل ذهب الى سجن طرة ليعاقب المجرمين .
وقال رابع:
– لقد اختنق التمثال من الزحام هنا فذهب الى الصحراء عله يسترد هدوء نفسه.
وأضاف خامس :
– بل سرقوه في الانفلات الأمني.
وقال سادس ، وسابع وثامن حتى اختلطت الأصوات، تحولت إلى صخب لا يحتمل، سقط مغشيا عليه، ولم يفق إلا فى غرفة الإنعاش، والتمثال شاخص امامه يصافحه فى حرارة وحماس .
*******
(*) نادي القصة السعودي