“أتمنى أن يزول الظلم عن شعبي وعن وطني، وعن أمتي، حينها سيكون لديّ متسع لكتابة أجمل أشعار الحب، وأجمل أبيات الغزل”… هذه الأمنية ظلت دفينة في قلب الشاعر سميح القاسم، ورحلت معه الثلثاء في19 أغسطس، بعدما أغمض عينيه للمرة الأخيرة على وقع الموت والقتل والتدمير في وطنه وفي الأوطان العربية… إلا أن قصائده ستبقى سلاحاً قائماً في وجه العدو الإسرائيلي، كما كانت طيلة حياته.
“تقدموا ..تقدموا براجمات حقدكم وناقلات جندكم فكل سماء فوقكم جهنم… وكل أرض تحتكم جهنم”. ولد صاحب هذه الكلمات في 11 مايو 1939 في بلدة الرامة شمال فلسطين، ودرس في الرامة والناصرة. أثارت مواقفه الوطنية والقومية ، ومقاومة التجنيد الذي فرضته إسرائيل على الطائفة الدرزية التي ينتمي إليه، القوات الإسرائيلية واعتقلته مرات وفرضت عليه الإقامة الجبرية، تزوج وله أربعة أولاد: وطن، وضاح، عمر وياسر…
شاعر المقاومة والثورة رددت أشعاره الأجيال المختلفة في أنحاء العالم العربي، وغناها المطربون من بينهم مرسيل خليفة الذي غنى “منتصب القامة أمشي .. مرفوع الهامة أمشي… في كفي قصفة زيتون… وعلى كتفي نعشي، وأنا أمشي وأنا أمشي”. وتنوعت أعماله بين الشعر والنثر والمسرحيات وبلغت أكثر من سبعين عملا.
اشتهر بكتابته هو والشاعر محمود درويش، “كتابات شطري البرتقالة”. ووصف الكاتب عصام خوري هذه المراسلات بأنها “كانت حالة أدبية نادرة وخاصة بين شاعرين كبيرين قلما نجدها في التاريخ.”
زار سميح القاسم سويسرا في مناسبات عدة، آخرها في 6 يونيو 2009، بدعوة من جمعية الجالية الفلسطينية بسويسرا، فأحيا أمسية شعرية في مدينة برن، العاصمة الفدرالية لسويسرا، وألقى فيها قصائد الوجع الفلسطيني التي صفّق لها الحضور العرب والسويسريون طويلا.
كانت الأمسية مناسبة لتقديم مداخلات حول أوضاع الأراضي المحتلة، والأوضاع الإنسانية المأساوية لأكثر من مليون ونصف فلسطيني، يعيشون في قطاع غزة بعد العدوان الإسرائيلي (ديسمبر 2008 – يناير 2009).
وفي المناسبة خص “سويس إنفو” بحوار شامل ما زال يحتفظ بنضارته وجديته، رغم مرور خمسة أعوام شهدت فيها الأراضي الفلسطينية والمنطقة عموماً، أحداثاً وتطورات. في ما يلي نص الحوار.
قلتم في إحدى المناسبات، “نحتاج نحن العرب إلى تفجير نووي على مستوى العقل والوجدان والذاكرة”، ما الذي يُـزعجكم في هذا الوعي العربي؟
ما يزعجني ليس الوعي العربي، بل غيابه، لأن الوعي الحقيقي ينبغي أن يذكّرنا بأن مكاننا بين شعوب الأرض يجب أن يكون أفضل مما هو عليه الآن. نحن أبناء أمة طيبة ومتواضعة، أضاءت بحضارتها الإنسانية العالم ثمانية قرون، فلا يعقل أن نسقط إلى هذا الدرك، نحن اليوم متهمون بالإرهاب، وبالكراهية، وتلحق بنا كل الصفات اللاإنسانية. هذه الصفات غريبة علينا، نحن لسنا إرهابيين، بل ضحايا الإرهاب، ولسنا عنصريين، بل ضحايا العنصرية.
في ثقافتنا، وفي تاريخنا، وفي أدياننا، الإسلام والمسيحية واليهودية، وهذه الأخيرة هي نتاج أرضنا، والعصر الذهبي لليهودية لم يكن في أوروبا، ولا في أميركا، بل عاشه اليهود في كنف الحضارة الإسلامية في الإندلس. لذلك كله لا نستحق نحن ابناء هذه الامة أن تُشاع عنا هذه الصورة القبيحة، بل علينا تقديم صورة حقيقية عن ذواتنا، صورة المحبة والتسامح واحترام التعددية.
لا مكان في حضارتنا للكراهية، ولكن حينما تكون عرضة للاحتلال، والقمع وللعنصرية، ومناطق كثيرة في الوطن العربي مازالت محتلة من قوى أجنبية، فلا يتوقعنّ أحد منا أن نسكت عن الاحتلال والإذلال و الإهانة، واغتصاب الحقوق. لذلك، أريد ما سميته بـ “التفجير النووي في وعينا كأمة” لنسترد مكانتنا الصحيحة بين شعوب الأرض.
أنت احد أعلام أدب المقاومة. بعدما أصبح السلام “الخيار الإستراتيجي الوحيد” للعرب في مواجهة المستعمر، هل ما زال ثمة مكان لهذا النوع من الأدب والشعر؟
يسيء البعض فهم مقولة “أدب المقاومة”. المقاومة في جوهرها ردة فعل على الاحتلال والقهر،القمع والعنصرية، لذلك ما دامت هذه المظالم جاثمة على صدورنا، فالمقاومة فعل مطلوب. في فرنسا زمن الغزو الألماني كانت ثمة مقاومة، وفي أوروبا أيضاً، وحينما كانت أميركا مستعمرة بريطانية كانت ثمة مقاومة. عبر تاريخ الشعوب الطويل كانت المقاومة أمراً مشروعاً.
أتمنى أن يزول الظلم عن شعبي وعن وطني، وعن أمتي، حينها سيكون لديّ متسع لكتابة أجمل أشعار الحب، وأجمل أبيات الغزل. نحن لم نختر المقاومة، وهي ليست رياضة قومية، أو هواية جذابة، ولم نُنجب أطفالنا ليقذفوا الحجارة وزجاجات المولوتوف، بل أنجبناهم ليعيشوا حياة حرّة وكريمة، ويتعلموا ويتقدموا ويساهموا بإيجابية في بناء عالم اليوم، كما فعل أجدادهم من قبل. لكن، حينما يسلط علينا المستعمر جرائمه، على مرأى ومسمع من العالم، فكيف يحق لهم أن يلوموننا أو يتهموننا بالإرهاب، إذا دافعنا عن أنفسنا؟
الثقافة “خندق العرب الأخير” كما تقول. ما الدور المطلوب اليوم من المثقف العربي ليكون في مستوى التحديات التي تواجه أمته؟
وضع أي أمة مرهون بموازين القوى الدولية، على المستوى: الإقتصادي والسياسي والعسكري، ولا يشذّ وضع الأمة العربية عن ذلك. للأسف، النظام الرسمي العربي جزء من لعبة تاريخية، إسمها “لعبة سايكس – بيكو”، كان هدفها تجزئة العالم العربي الواحد إلى دويلات، بحدود غير مبررة، وغير منطقية جغرافيا وحضاريا، وهي كيانات عاجزة عن خدمة مواطنيها.
أمام هذه الحقيقة، على المثقف العربي أن يُـشـخّـص أوّلا الحالة التي نعيشها، ليطرح لاحقا الأفكار البديلة عن الوعي السائد. الفكر السائد إما فكر متشدد قومياً واجتماعياً ودينياً، أو فكر انهزامي وعدمي واستسلامي. على المثقف العربي أن يقدّم الطريق الثالث: الفكر القومي التقدمي الإنساني والمتنوّر، والحر في الوقت نفسه. ولا يمكن أن يقوم بذلك إلا إذا رفض أن يكون تابعاً لنظام أو لسلطة. التفكير الحُـرّ يتطلب أن يكون المثقف خارج دائرة الضغط الرسمي، والضغط الظلامي، وضغط التخلّف. عليه أن يحترم هويته من دون انغلاق.
ومن هذا المنطلق أرفض القول إن الحضارة الغربية عدوة للعرب وللمسلمين. هذا طرح سخيف وجاهل، ومتخلف. الحضارة الأوروبية هي امتداد شرعي للحضارة العربية والإسلامية، وهي صديقتنا، ويجب أن نستفيد منها بقدر ما استفادت هي من تراث أجدادنا. اليوم لدينا كثير من الاستشهاديين بأحزمة ناسفة، أريد مثقفين استشهاديين بثقافة ناسفة وعقول ناقدة.
حلم الجيل العربي في العقود الماضية بمجتمع عربي، علماني وديمقراطي، لكن في الواقع ثمة عودة قوية للفكر الديني، وتحكم أنظمة شمولية في المصير العربي. هل يشعر سميح القاسم، أحد أبناء ذلك الجيل بحسرة وخيبة أمل؟
هو شعور بالخذلان، وليس باليأس، لديّ مرارة شديدة، أعبّر عنها في قصائدي وسردياتي، لديّ إحساس بالألم كذلك من دون شك، لكن لن تجد لديّ شيئا من اليأس. اليأس رفاه، باهظ التكاليف، لا نستطيع تسديد فاتورته، وهو يعني الانتحار، والتسليم بأننا على خطأ، وأن خصمنا على صواب. وفي الحقيقة نحن على صواب، وليس خصمنا.
أما الحال الراهن، هذا التنقل الفاجع بين الاستبداد والظلامية، فهو مسألة ليست قدرية. نحن قادرون على قلب هذه المعادلة. أؤمن بأن الحضارة العربية الإسلامية هي حضارة متنورة، وليست ظلامية. ديننا مفعم بروح التسامح، والإنسانية وقيم التعددية، وعلينا حمل تلك النصوص على تأويلات سليمة. لكن لدي بركان من الغضب، كيف يمكن أن تكون ردة فعلي وأنا أقرأ أن أكثر من 50% من أبناء أمتي يعيشون على دولار واحد باليوم. أدعو إلى بناء ثقافة ناسفة، إلى المثقف الحر، وترعبني عمالة المثقف لهذه السلطة أو لتلك، سواء كانت سلطة الإمارة أو المال أو الجند.
هذه الأحلام التي لم تتحقق، ألا تتطلب من جيلكم مراجعات جذرية على مستوى المنطلقات والمفاهيم، كالموقف من التعبيرات السياسية الجديدة التي تشق الشارع العربي؟
أوّلا أحلامنا لم تكن خطاً، حلمت بالوحدة العربية، وبتحرير الأرض المغتصبة، وبالعدالة الاجتماعية لأبناء وطني، وهذه كلها أحلام مشروعة، الذي يجب ان يعتذر هو من وقف ضد تحقيق هذه المطالب، وليس من حلم بها، الخطأ في قوى الشر، وقوى العدوان والكراهية.
ثانيا من قال إن تيارات مثل حزب الله، وحماس تيارات ظلامية؟ لم أقل هذا. في الحقيقة ثمة قوى ظلامية تريد تحويل قوى المقاومة إلى قوى ظلامية. كقوة مقاومة، نحن معهم، لكن من حيث القيم، أريد أن تتحول المقاومة الدينية إلى تيار متنور ومتقدم، ثمة حرب على الروح الدينية كما كانت ثمة حرب بين حركات التنوير والمؤسسة الكنسية في أوروبا في عصر التنوير. كما انتصرت الديمقراطية في أوروبا، وكسبت قلب المواطن المسيحي، أريد أن تنتصر النورانية في بلاد المسلمين، وان تفوز الديمقراطية بقلب هذا المواطن المسلم.
من الواضح أن الإدارة الأميركية الجديدة قد غيّرت مفردات خطابها تجاه الشرق الأوسط، هل تعتقد كمثقف فلسطيني بأن إدارة أوباما جادة في مسعاها لتحقيق السلام المنشود؟
لن اكتفي بالقول إنما الأعمال بالنيات، ولكل إمرئ ما نوى، لأن المؤمن لا يُلدغ من جُحر مرتيْن، ونحن لدغنا من هذا الجحر مرات. لا أحاكم نظام أوباما من خلال تصريحاته، أو من خلال لون بشرة قادته، فانا لست عنصريا. أريد أن أرى وقائع على الأرض، أريد من هذه الإدارة إيقاف الاستيطان، وفرض الشرعية الدولية، وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وإقامة دولة وطنية عاصمتها القدس الشريف. هذا هو الفصل بيننا وبين هذه الإدارة.
في خطاب القاهرة دعا باراك أوباما الفلسطينيين إلى الاقتداء بالسود الأميركيين في نضالهم السلمي من أجل الإنعتاق والحرية، هل يوافق الفلسطينيون على نبذ العمل المسلح؟
أتمنى على باراك أوباما أن يقرأ التاريخ قراءة عميقة، الأميركيون السود لم يحصلوا على حقوقهم من خلال التظاهرات السلمية فحسب. لقد قتل وعذّب منهم الآلاف، ودافعوا عن أنفسهم ً بكل الوسائل، ولم يعدموا أي وسيلة من أجل الحرية والإنعتاق. وهكذا كان الأمر في الهند في عهد غاندي، أو في جنوب إفريقيا بزعامة نلسون مانديلا. لقد فعلنا نحن الفلسطينيين ذلك أيضاً، ومن ابناء شعبنا من وضع الورود في فوهات بنادق الجنود الإسرائيليين بعد اتفاقيات أوسلو، لكن الرد كان الرصاص الحقيقي والرصاص المطاطي على زهرات وبراعم شعبنا.
مؤلم ان يكون الوطن تحت الإحتلال، والمؤلم أكثر أن يتقاتل الأشقاء. كيف تعيشون حالة الإنقسام السائدة اليوم بين ضفتي الوطن؟
لا اعيش حالة الإنقسام، انا أموت حالة الانقسام. هذه حالة فاجعة ومُهينة، حالة مؤلمة جدا. لكن، لا يجب أن ننسى أن ثمة قوى خارجية تغذّي هذا الصراع، وتتسلى بعذاباتنا، وترقص على أشلائنا. إنه صراع دولي، نحن وقوده. ومن دون شك أنا ضد هذا الاقتتال.
هل معنى ذلك أن الحركة الوطنية الفلسطينية اضاعت البوصلة؟
الحركةالوطنية الفلسطينية لا تبدأ بفتح، ولا تنتهي بحماس. لا تؤاخذوني، واقبلوا تواضعي، أنا دخلت السجون الإسرائيلية من أجل القضية الوطنية، قبل أن تسمعوا عن فتح أو حماس، أو عن ياسر عرفات، أو أحمد ياسين، أو جورج حبش أو نايف حواتمه… قبل هؤلاء جميعا كان ثمة مناضلون شرفاء يواجهون العنصرية والاحتلال. الحركة الوطنية لم تبدأ بفتح، ولا تنتهي بحماس. الحركة الوطنية إحساس شعبي يمتد مداه إلى جميع المناصرين للقضايا العادلة.