الباحث المصري خالد محمد عبده
أتدري لماذا لا تنبىء مرآتك؟
ذلك لأن الصدأ لم يُجل عن وجهها!
مولانا جلال الدين الرومي، قطب من أقطاب التَّصوف الإسلامي، إليه تُنسب الطريقة المولوية، وإن كان الرومي ليس صاحب طريقة بعينها، إذ إن الرومي إنسان كونيٌّ، يتجاوز كل الطرق والبناءات المذهبية والدينية، وكذلك الأعراق، حتى لو تنازعه أهل إيران والأفغان باعتبار أصله البلخي، ولسان ديوانه ومثنويه الفارسي، أو الأتراك باعتبار مقامه في (قونية)، أو العرب باعتباره إرثًا إسلاميًّا قرأ القرآن وتأمَّل القرب كما نصحه والده، أو بتنزيل عبارة إقبال في سيرته عليه: “قرأ القرآن كأنه أُنزل عليه”.
لماذا لم يفسِّر مولانا جلال الدين الرومي القرآن الكريم ويخصه بكتاب كما فعل أهل الأذواق والعرفان؟ لأن القرآن الكريم حاضر مع مولانا في كل ما كتب وفعل، فحياته كانت قرآنًا متجسدًا لحمًا ودمًا. تذكِّرك محبته وعشقه بسورة يوسف. وحكمته بلقمان. واجتماعه بشمس تبريزي باجتماع موسى والخضر. وتحطيمه لصورة الشيخ النظامي الذي يجلس في الرواق يلقي مواعظه على تلاميذه ويكرر عليهم الأوامر بقصة إبراهيم مع قومه. تذكرك هجرته إلى الشام وبحثه عن شمسه الذي أنتجه وحققه بسورة الضحى. تذكرك كلماته بسورة الانشراح. ما من كلمة كتبها مولانا إلا وكان أثر القرآن فيها ظاهرًا، لذلك إن أردت أن تقرأ تأويلاً وقصة حياة متجددة لإنسان لا تبلى فاقرأ مولانا وكن معه حتى تصل إلى من كابد الشوق معه.
لم أنظُمْ لك المثنوي لتحفظه أو تعيده،
بل ابتغاء أن تضعه تحت قدميك لتستطيع الطيران.
يُقدِّم الديوان العربي لمولانا جلال الدين الرومي رئيسُ المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون ببيت الحكمة عبد الوهاب بوحديبة مُبديًا سعادته، وشاكرًا من قام بالعمل عليه، ومن وفَّر جزءًا من المنمنمات الفارسية، التي زادت الكتاب جمالاً وروحانية يصاحب جمال وروحانية الكلمة النورانية، والتي أشرقت على صفحاته التي تجاوزت المائتين صفحة.
يُصدِّر مُعدُّ الكتاب (البشير قهواجي) الكتاب بمجموعة من المصادر والمراجع الفارسية: كليات شمس تبريزي والمثنوي المعنوي، ومقالات شمس تبريزي، ومعارف بهاء الدين ولد، وولد نامه لسلطان ولد، ومناقب العارفين للأفلاكي، ويزيد في ختام الديوان مراجع أخرى تحت عنوان جامع: بيبلوغرافيا مختصرة، يذكر فيها علاوة على ما سبق (فيه ما فيه) لمولانا، والمجالس السبعة، ومكتوبات، ويسرد قائمة من المراجع الفرنسية والإنجليزية التي أُلفت عن مولانا، بعد أن يذكر تراجم أعمال مولانا في اللغتين الإنجليزية والفرنسية.
مُتْ حَسْرةً عَلى الفَهمِ الصَّحِيحِ!
يبدأ قهواجي الديوان العربي بمقدمة متميزة، يروي فيها موجزًا لسيرة مولانا، الهجرة من بلخ مفتتحه، بلخ (= من أعمال أفغانستان) تلك البلدة التي تشرَّفت بميلاد مولانا فيها، كما تشرَّفت بوجود أولياء أكابر فيها من قبل، كإبراهيم بن أدهم الصوفي الشهير الذي ترك الشهرة والإمارة وسار في طريق الله متجردًا مؤمنًا بأنه (ما صدق الله من أحب الشهرة) وعازمًا عزمًا وحقيقة على أن يُدفن حتى يتحقق له الميلاد. كذلك شهدت هذه البلدة ميلاد نجم جديد ينشر على الناس فوائح الجمال وفواتح الجلال، يُعلن تجربته على الملأ دون مخافة من سلطان أو فقيه، يسيح في الأرض طلبًا للطريق وغايته الله وتحقيق إنسانه، هو نجم الدين الكُبرى صانع الأولياء، الذي ما رأى من صُنعِ الله شيئًا إلا ورأى الله فيه.
كان مولانا الرومي من بيت نبالة وفقه وتقوى وأدب، فهو ابن لوالد كان يُعامل من قِبَلِ السلاطين على أنه أهل سلطة دينية وروحية.
حبذا مائدة المسيح التي لا تنقص،
وحبذا فاكهة مريم التي طلعت دون حديقة.
علَّم الأبُ بالدَّمِ والروح الولد الذي أضحى آية في العالمين أن الرُّوح نفخة إلهية وأن الله هو القصد والغاية، وردد الرومي دعاء والده:
إلهي بما أن دخيلتي وإدراكي وروحي كلها طاقة زهر بين يدي إرادتك، وبما أنك تهب ملكة إدراكي التي هي رهن يديك صفات! أعطني بلا رهق كتب حكمة مثلما ألقيت في دخيلة موسى التوراة ومحمد القرآن وعيسى الأناجيل وداود المزامير!
وقبل أن ينتقل مولانا إلى جوار محبوبه الأعلى أوصى بدعوة برهان الدين محقق ترمذي ليكون عونًا لمولانا في رحلته الروحية، وكما كان يعرف والده كماله في تحصيل المعارف الشرعية والعلوم الظاهرية، حدَّث برهان محقق مولانا عن ذلك، لكنه أراد لمولانا أن يفوز باللوزة… كن كالفراشة، واهجم على النار، ولا تتجاوز هذا الأمر، والعب بطُهر، واترك القوة، وكن عاكفًا على الضراعة، فإن الرحمة تنصبُّ على المتضرع أيها الفقير.
قضى مولانا جلال الدين الرومي سنوات في الشام تلبية لطلب شيخه الجديد، ومات مولانا قبل أن يموت، على سُنَّة الدراويش، حتى أرادت العناية الإلهية أن يرى العالم فتحًا جديدًا، فأرسلت إليه شمس تبريزي، ليشعل نار العشق في قلبه، وليبعث البركان الذي لن يسكن بعد.
إن الشريعة كالشمعة، توفر لنا نورًا لا يقدر بثمن.
لكن يجب ألا ننسى أن الشمعة تساعدنا على الانتقال من مكان إلى آخر في الظلام،
وإذا نسينا إلى أين نحن ذاهبون، وركزنا على الشمعة، فما النفع في ذلك؟!
فتح شمس تبريزي بابًا على ما لا ينتهي أمام مولانا الذي ترك حلقة الافتاء واعتزال المريدين وترك درس القال لتحيا روحه ويولد إنسانه بالعشق صحبة السماع، وليجعل كل أيامنا أعياد ميلاد وبعث متجدد.
تشارك الشمس والقمر وجودًا استثنائيًا لا يدركه الآخرون، يحكون عنه، يقرأونه، يؤيدونه، ينكرونه، وما هم ببالغيه… هما في سماع كوني، يأخذهما إلى جذور الإنسان السماوية، كل المدارات والكواكب أمامهما تتلاشى، الزمان يرتفع، الكلمات تتضاءل عن التعبير، الأنفاس سرمدية!
أنا جوعان فأطعمني… قال حسام الدين لمولانا. عطشان فاسقني لكن مولانا رأى أن الطعام الذي عناه لا تقوى أسنان مريده أو غيره على مضغه ولا تستطيع معدة احتوائه، ما لدى مولانا من طعام إذا قُدِّم يكثرُ بعده قول: “زمِّلوني… دثِّروني”!
كنت أطلب شخصًا من جنسي، لكي أجعله قِبلةً وأتوجَّه إليه، فقد مللتُ من نفسي.
لم تفهم الصغار علاقة المتحققين، وانتابتهم مشاعر الغيرة والضعف، فنسجوا على الباب خيوط الوهم كي يمنعوا الشمس من الإشراق، طار “الطيار” الذي ما قنع يومًا بالرقود في كهف “الاتباع”. يقولون: “غاب”، يقولون: “مات”. المهم أن الشمس فارقت صحبة القمر، رحل سيدنا المعظَّم شمس تبريزي بعد أن أقرَّ لمولانا بالكمال وسلَّى على قلبه قبل الارتحال قائلاً: إذا أصبح المريد كاملاً فلا يضيره أن يبتعد عن شيخه!
في الصورة تبدد الشمل، لكن الثمرة قد نضجت وأزهرت شجرة الروح. غنَّى الرومي ورقص، سجَّل الأتباع حديث القمر، رويت قصة العشق الكامل، أُعلن ميلاد الإنسان الكوني، بكت الأرض والسماء.
فجرًا جاءني من يغار من حسنه الملاك
مال على قلبي وبكى
بكى وبكيتُ إلى الصباح
سألني أيُّنا العاشق؟! غريبٌ أمرنا قال.
كان هناك دائمًا كتابٌ مفتوحٌ بين يديَّ
لكن الحبَّ منحني ناقوسًا
ومن هذا الفم الذي لم يكن غير تراتيل
خرج سيلُ قصائد وغزل ورباعي.
يقول مولانا أيضًا في كليات شمس تبريزي:
أخجلُ من الكلام عن محياك
والله أقفلُ فمي
ماذا يمكنُ أن تأخذ قربة من المحيط.
ومع ذلك أخذت قربة مولانا بين سنة لقائه مع شمس 1244م وسنة وفاته 1273م حوالي سبعين ألف بيت من الشعر جُمعت في كليات شمس تبريزي، والمثنوي حوالي 26000 بيت. رغم أن مولانا شكى من الشعر لأنه يقيِّده ويحدُّ من انطلاقه عن التعبير عما يريد؛ وشكى أن قومه يمتهنون الشعر، وشكى أنهم يريدونه واعظًا يؤلِّف عن الزهد ويشرح علوم الدين فحسب.
إنني أفكر في القافية
ويقول حبيبي لا تفكر إلاَّ في لقائي
مفتعلن مفتعلن قتلتني.
وترى آن ماري شيمل أن هذه المعاناة عاناها كل العارفين من مسلمين وغير مسلمين، ووجدوا حلَّها في الصمت. الصمت هو الطريق الوحيد للحديث مع الله! وهم أنفسهم الذين قدموا الموسوعات الشعرية والنثرية، يتحدثون وفجأة يأمرون أنفسهم بالصمت! يقول مولانا:
الصمتُ بحرٌ والقول كالجدول… والبحر يبحثُ عنك… فلا تبحث أنت عن الجدول.
ويعلِّق العلاَّمة سيد حسين نصر رحمه الله في تقدمته لكتاب العشق والسلام على نظم مولانا قائلاً:
المثنوي عملٌ بشريٌّ، إنما كتبه حكيمٌ وصل إلى أعلى مستوى من الكمال البشري، وحقق أعلى درجة من المعرفة الحكيمة ومن ثمَّ يقدر على تأليف عمل يعكس الكثير من الخصائص المميزة للنصِّ المُقدَّس، الذي جاء المثنوي تعليقًا متعمقًا عليه، والذي يُضاهي إلى حدٍّ معين كلمة الله تركيبًا! أطلق عبد الرحمن الجامي على المثنوي “القرآن باللسان البهلوي-الفارسي” وإن المثنوي في أعمق معانيه هو تعليق على النصِّ المقدَّس للإسلام.
فُتن البشير قهواجي بالأشعار العربية لمولانا جلال الدين الرومي بعد قراءته لديوان كليات شمس تبريزي، بتحقيق العلاَّمة بديع الزمان فروزانڤر، الذي قضى شطر حياته الأكبر محققًا وشرحًا ومعرِّفًا بمولانا وأعماله.
جمع قهوجي القصائد العربية في الغزليات وقدَّم لها، وجمع الرباعيات وقدَّم لها، وكذلك الترجيعات، وكذلك المقطَّعات واللمعات، وقسَّمها على النحو التالي: احتوت كليات شمس تبريزي على:
– غزليات: وعددها ثلاثة آلاف ومائتان وتسعة وعشرون غزلاً، منها بالعربية تسع وثمانون غزلاً وخمس ومائة من اللمعات، منها أربع وأربعون من المقطعات.
– ترجيعات: وهي قصائد مطوَّلة عددها أربع وأربعون مع مقطع أخير، بعنوان مستدركات، منها خمس مقطعات قصيرة جدًّا بالعربية، تترواح بين البيت الواحد والمصراع.
– رباعيات: وعددها ألف وتسعمائة وثلاثة وثمانون رباعيًا، منها ثمانية عشرة بالعربية.
لماذا نظم مولانا الرومي شعرًا بالعربية على الرغم من أن العربية لم تكن لغته الأساسية؟
الشيء الذي يلفت النظر هو أنَّ مولانا كان عاشقًا للقرآن الكريم والأحاديث النبوية، يتضح ذلك من مكانة الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في آثاره. فظهور الأشعار العربية لدى شاعر إسلامي كمولانا ليس غريبًا.
كما أن مولانا عاش لفترة طويلة في الشام، فمن الطبيعي أن تؤثِّر هذه البيئة عليه وعلى مشاعره، وأن توجد فيه الرغبة في أن يتحدَّث مع الناس بلغتهم، وينقل إليهم آراءه وأفكاره الدينية والعلمية.
ورغم ذلك فإن من يقرأ المثنوي وديوان مولانا، ثمَّ يقارن بين أشعاره بالفارسية والعربية يرى المستوى الرفيع في شعره فارسي، ولا يلقى مثل هذا المستوى شعره العربي.
من أشعار مولانا العربية:
اقتبس مولانا ثلاثة أبيات مزدوجة من شعر الحلاَّج، أوردتها فرح ناز رفعت جو، وأوردها البشير قهواجي، هي:
أُقتُلُوني أُقُتُلوني يا ثِقـــــــــات إنَّ فـي قَتلي حياةً فـي حَيـــاة
يا مُنيرَ الخَدِّ يا رُوحَ البَقـــــا اجتَذِبْ رُوحي وجُدْ لـي باللِّقــا
لي حَبيبٌ حُبُّهُ يشوي الحَشا لَو يشا يَمْشي على عَيْني مَشى
ويظهر تصرُّف مولانا في هذه الأبيات بشكل واضح، إذ هو يستعير صوت الحلاَّج وجزءًا من كَلِمِه للتعبير عن عشقه وتجربته.
كذلك من أشعار مولانا العربية ما أرسله إلى صِنو روحه شمس الدين تبريزي حينما ترك قونية وتوجَّه إلى دمشق، وطلب فيها العودة إلى قونية. وتتألَّف هذه الرسالة من ثلاثة عشر بيتًا، تسعة منها بالعربية، وهي:
أيُّهـا النورُ في الفؤادِ تعـالْ
أنتَ تَـدري حياتنا بيديــكْ
أيُّها العشقُ أيّها المعشُــوقْ
يَـا سليمانُ ذي الهُداهُد لك
أيُّهـا السَّـابقُ الذي سبقـتْ
فمـن الهجر ضجَّتِ الأرواحْ
اُستـرِ العيبَ وابذُلِ المعروفْ
طفـتُ فيـك البـلادَ يا قمـرًا
أنت كالشمس إذْ دَنَـتْ ونـأتْ
غايـة الجـدِّ والمرادِ تعـالْ
لا تضيـّقْ علـى العبادِ تعالْ
حـلْ عن الصَّدِّ والعنادِ تعالْ
فتفقَّـدْ بالافتقــادِ تعــالْ
منك مصدوقةْ الوِدادِ تعـالْ
أنجزِ الوعـدَ يا معادِ تعـالْ
هكـــذا عـادةُ الجـوادِ تعـالْ
بــي محيطـًا وبالبـلادِ تعـالْ
يا قريبًا على العبــادِ تعــالْ.
*** *** ***
مراجع
– الشمس المنتصرة (دراسة آثار مولانا جلال الدين)، آن ماري شيمل، ترجمة د. عيسى علي العاكوب، مؤسسة الطباعة والنشر لوزارة الثقافة الإسلامية بإيران.
– العشق والسلام: المثنوي تفسير جديد، سيد جاهرمان صفافي، تقديم سيد حسين نصر، ترجمة مصطفى محمود، مراجعة طارق أبو الحسن، نشرة القاهرة.
– العرفان الصوفي عند جلال الدين الرومي، فرح ناز رفعت جو، دار الهادي، بيروت.
– فيه ما فيه، مولانا جلال الدين الرومي، ترجمة العاكوب، نشرة سوريا.
– المثنوي، مولانا جلال الدين الرومي، ترجمة إبراهيم الدسوقي شتا، نشرة مصر.
– من بلخ إلى قونية، بديع الزمان فروزانڤر، سيرة حياة مولانا جلال الدين الرومي، ترجمة عيسى علي العاكوب، نشرة سوريا.
*****
(*) مؤمنون بلا حدود مؤسسة للدراسات والأبحاث.