الروائية هدى عيد
يحلو لنا في هذه الأيام ، وأبصارُنا تُعاينُ هذا التردي لسلوك فئة من البشر تحاول أن تخط وبشراسة سطوراً دموية لها على خارطة عالمنا الحالي ، التساؤل عن مدى صحّة ما نادى به ديكارت وكثيرون سواه من ( أنّ العقل أعدلُ الأشياء قسمةً بين الناس ).
باتت الأرضُ في أيامنا هذه مكاناً ضيقاً على سعته ، جُحراً يطاردُ فيه الأكثُر شراسةً الآمنين فيها ، أولئك الذين لم تُتح لهم فرصُ التوحش بعد ، أو الذين آمنوا أنّ السلامَ إمكَانٌ، وأنّ الطيبةَ امتياز. يستعيد التاريخ الآنيُّ وقع خطواتِه الماضيات الثقال: جحافل التتار، غزوات الصليبين، المحارق النازية مأساة كربلاء، حروب روندا ومجازر أرمينيا وسواها من الفظاعات … فيبدو وكأنما الأرض لا ترتوي من دم، عطشٌ تاريخيّ مجنون لمزيد من ماء الأبرياء… تعوي ذئابٌ كثيرةٌ على أرض الأنبياء في القرن الحادي والعشرين، وشاشاتُ العالم تحدّقُ وترى، وشبانُ وشابات العالم وكهولُه كذلك يغرّدون عبرَ مواقعهم الخفية ( نوافذهم الحديثة لتَوَهّم الحرية والمقال!) معتقدين كفايةَ ذلك ، في وقت يغيب مَن ْ يرفع الصوت بشكل حقيقيّ ، وهو قادر، ومن يوقف احتفالية العبث هذه.
تمّ تهجيُر أرتال من المسيحيين عن مواضع سكناهم، ودُفن أزيديون أحياء دون أن ترتج لدافنيهم أجفان، وبرز عالم رياديٌّ متمدن يمارس ازواجية النفوذ والحداثة على عالَم متثبث بعناده: نصف أبنائه على الأقل اختاروا تغييب العقل، وتسمير الزمن عند أعتاب تاريخ انقضى يرفضون له الممات! ونصفه الآخر يحاول النجاة ببعض اجزائه المتاحة عضوية أو مادية !
يتحوّل بعض الإنسان في العالم الحديث فأراً يُطارَد ليغادر جحره ، ويتضخم آخرون أسوداً وهم ما بلغوا مراتب الأشبال، مسيحيون يصرخون بأنهم أقليات متناسين أنهم من أوائل من عمَرَ المكان، يخافون على الوجود ولا يعترفون أن شهوة السلطة قد فرقت زعماءَهم، تماماً كمسلمين : بين سنتهم وشيعتهم ثأرٌ تطاولَ قرونا رافضاً بإصرار أن يشتفي ، بات أقوى من الزمن عينه وفوق كلّ حوار أو حساب ، وعدو صهيونيٌّ غاشم لا يستطعمُ إلاّ الأشلاء، يحبّ اقتيات اللحم طرياً مندّى دائماً بالدماء…. سرياليةٌ ما بعدها، ولهاث بشريٌ مجنون على المال والسلطة ، سُعار القتل والتدمير والاغتصاب والدعارة العلنية تحت شعار الجهاد !
يدهشنا هذا العقل البشري العربي المناور الذي استطاع الحفاظ على جموده وثباته ، رافضاً كلّ ما قُدّم له من أسباب ، دَعاهُ الدين مرات إلى الاعتدال فما أذعن ، ودعته الطبيعة إلى الحكمة فما أراد ، وناداه الإنسان يطلب شيئاً من الاستراحة فما استكان، حتّى عندما ادعى في حقبةٍ حداثةً كاذبةً اكتفى بمجرد القشور مُعرضَاً عن الجوهر والحقيقي .
حوّل هذا العقلُ الزعيمَ : مسلماً كان أم مسيحياً أو درزياً إلهاً يُعبَد، ثم سمحَ له الادعاء أنه في خدمة السماء وأبناء البشر و الإله ! أيّ سريالية نرقص في حلقاتها، وأيّ حفلات الجنّ تُقامُ بعدُ في ليالي الشرق المسحور هذا؟؟
ما نكادُ نستبشرُ حتّى تتوالى المصائب، أمّة الظلامة التي ما تفتأ تدعي نوراً ، وهي تقتل النفس البشرية المحترمة ، وكلّ ما قدّس الرحمن… فتحيةٌ لسيد الشعر العربيّ إذ ناغاها يوماً :
أغايةُ الدين أن تُحفُوا شواربكم يا أمّةً ضحكت من جهلها الأممُ
وسلامٌ على وطنٍ صغيرٍ يضيّعُ زعماؤه أجملَ ما فيه ، مستقبلَ شبابه، في سبيل حفنة من الدولارات ، ومن حسابات مكدسة في مصارف بلاد الواق واق.
**********
بالاشتراك مع aleph-lam
georgetraboulsi.wordpress.com
..