د. أسامة عثمان (*)
قد لا تكون ثمّة حاجة إلى شرح مخاطر ظاهرة رواج المخدِّرات، ولا حتّى بيان مدى انتشارها، فمثل هذه الأمور باتت على ظاهر الكفّ، ولكن قد يكون السؤال عن أسباب ا
المُخدِّرات والتَّحوّلات العربيّة
انتشارها مستفزّاً، ولاسيما السؤال عمّا إذا كان هناك من تأثيرٍ للأوضاع والتحوّلات الاجتماعية في البلدان والمجتمعات العربية الراهنة على ازدياد هذا الانتشار؟
يُطلق وصف المُخدِّرات قانونياً على”مجموعة من المواد التي تسبّب الإدمان، وتسمّم الجهاز العصبي، ويحظر تداولها أو زراعتها أو صنعها إلا لأغراض يحدّدها القانون، ولا تُستعمل إلا بواسطة من يُرخَّص له بذلك. وتشمل الأفيون ومشتقّاته والحشيش وعقاقير الهلوسة والكوكايين والمنشّطات”( عادل الدمرداش، الإدمان مظاهره وعلاجه).
عند الإدمان يتقاطع الفرد مع المجتمع، أمراض الفرد وضعفه، وأمراض المجتمع وتسلُّطه، أو ارتباكه وإرباكه قِيَمياً ومعيشياً وحقوقياً.
فالتعاطي أو الإدمان قد يكون ناتجاً عن تقديرٍ منخفضٍ للذات، وهو مفاقِمٌ له؛ لأن أكثر ما يُعوِز المدمن إرادتُه المفقودة، والإدمان كذلك يسبِّب اغتراباً عاطفياً للمدمن عن مجتمعه، وهو علامة على هذا الاغتراب أيضاً.
ولكن المرض داخلي في المقام الأول، والتغيّرات الحاصلة في الوطن العربي، مع كونها خضّاتٍ قوية يمكن أن تترك خيبات كبيرة نتيجة سوء تلقِّيها والتعامل معها، أو سوء آثارها بالفعل، إلا أن ظاهرة اللجوء إلى المخدِّرات أو الهروب إليها قائمة قبل هذه الاضطرابات وبعدها، للأسف، وإن كانت تشترك معها في التسبّب بالخيبة أو الضغط المُفضي إلى (الحلول السريعة) التي هي في هذه الحالة تورّطات كبيرة وعامة لا تقتصر أضرارها على المدمن فحسب، بل تتعدّاه إلى أسرته، ومجتمعه وقيم هذا المجتمع وفاعليته.
لماذا الإدمان؟
إذا استثنينا الاضطرابات النفسية والأزمات الشخصية الحادّة والنزوع نحو الجريمة، فقد يكون الشعور بالفراغ بمعناه الأوسع، والتقليد الطائش، من الأسباب الأوسع فعاليةً، ولاسيما إن كانت المادةُ (خفيفةً) كالحشيش، ونتائجها الضارّة بعيدةً نسبياً، ولا تقلب حياة المتعاطي كليّاً ولا جذرياً ولا سريعاً. ففي هذه الحالة تُغري اللذة والرغبة في تَكرارها، واستمرار تعاطيها، كنوع من الكَيْف، أو كتقليد من الشباب واليافعين لبعض الكبار الذين، نتيجة الجهل وانعدام القدوة الصحيحة، يصبحون بتلك الطقوس الغامضة على نحو ما، قدوات أو نماذجَ للرجولة والاختلاف عن أقرانهم.
لكن الخطورة الأكبر أن تعاطي الحشيش والأفيون وما قاربهما، كثيراً ما يَجرّ ويدفع إلى التعاطي الأخطر، كالكوكايين والهيروين، إمّا للحصول على لذّة أكبر، أو لانقطاع المادة التي تعوّد عليها وحاجته إلى ما يسدّ مسدَّها. فوفقاً لــ آرلوند واشطون ودونا باوندي، صاحبي كتاب “إرادة الإنسان في شفاء الإدمان”، فإن الإنسان “عندما يستعمل شيئاً كي يغيّر به حالته النفسية، نظراً لأنه لا يطيق حالته النفسية التي هو عليها، فإن ذلك سيقوده إلى الإدمان ويجرّه إليه”. فهنا أرضية الانزلاق إلى إدمانٍ أشدّ متحقّقة؛ ذلك أن الحالة الأولى للفرد أو الشاب ضعيفة أصلاً، ثم أضيف التعاطي فالحرمان من اللذة المطلوبة، أو الحرمان من المادة نفسها، فمن شأن ذلك أن يهوّن عليه تجريب مخدرات جديدة.
وتزداد فرص تعاطي المخدرات وإدمانها بتوفّرها وسهولة الحصول عليها، وانتشارها بين أفراد المجتمع، ولكن في المقابل لا يكون التصدّي لها بإجراءات تمنع توفّرها؛ إذ إن تجّار المخدرات والمتعاطين لا تعوزهم الحيلة غالباً للبحث عن البدائل، ولكن العلاج الأنجع يكون بمكافحة الأسباب الحقيقية للإقبال عليها، وتوفير أنماطِ حياة أفضل، يشترك في تحقيقها الفرد والمؤسّسات والحكومات.
وفقاً لواشطن وباوندي في كتابهما الآنف الذكر:” إرادة الإنسان في علاج الإدمان”، فإن العلاج يكمن في تغيير أسلوب الحياة الذي لا يعني إن كان المدمن يقضي عطلته على الشاطىء، أو في الجبال… ولكنه يعني تغيير رؤية ذلك المدمن للعالم (منظومة معتقداته) كما نعني بذلك أيضاً طريقة معالجة ذلك المدمن للمشكلات، كما نعني أيضاً طريقة إشباع ذلك المدمن لاحتياجاته البدنية والعاطفية والاجتماعية، وكذلك احتياجاته الروحية. وهذا يعني أننا عندما نتخلّص من شكل من أشكال الإدمان سوف ندخل في شكل آخر- أو نعود إلى ذلك الشكل الذي تخلّصنا منه- اللهم إلا إذا غيرنا أسلوبَ حياتنا”.
إدمان المخدِّراتِ والتأثيرات المجتمعية
الإدمان بما هو انهزامٌ أو إمعانٌ إرادي، أو شبه إرادي في الانهزام، هو شكلٌ من أشكال التطرّف، والانكفاء على الذات انكفاءً مَرَضياً، وهو ردّة فعلٍ سلبية على الشعور بالعجز عن التغيير. إذ إن” مرض” الإدمان يعني في بعض أجزائه، (وفقاً لواشطون وباوندي) أن البشر لديهم بعض المعتقدات المتضاربة التي تمهِّد الطريق للصراع والنضال الداخليين- ومن بين هذه المعتقدات، على سبيل المثال، أن نظنَّ في آنٍ واحد أننا لسنا أكفّاء، وأننا ينبغي أن نكون كاملين. ومن هذه المعتقداتِ المتضاربة أيضاً، إحساسنا بأننا ينبغي أن نكون قادرين على شيء، ومتحكّمين فيه، وإحساسنا في الوقت ذاته بأننا عاجزون تماماً عن التأثير في حيواتنا. الإصابة بمرض الإدمان تعني أيضاً عدم القدرة على تحمّل الإحباط والمسارعة إلى الإشباع الفوري والمباشر. الإصابة بالإدمان تعني الافتقار إلى المهارات اللازمة للتعامل مع المشكلات المعتادة في حياتنا والعمليات المعتادة في هذه الحياة أيضاً”.
فالمشكلة أكثر ما تكون في رؤية المدمن، وفي نوعية إحساساته، أو كيفية تفاعلها في نفسه، وفي طريقة تعامله مع الواقع، أو في ما يُسمّى بالتنافر العقلي المعرفي، أو عدم التوازن النفسي الذي يدفع إلى حالةٍ من التوتر والقلق الشديد الذي لا يستطيع تحمّله طويلاً. فيندفع إلى القيام بأيّ شيءٍ لمحاولة استعادة التوازن النفسي، ويرتّب الدكتور هاشم رامي في مقالته:” من الكبت إلى التعجيل: الأبعاد الفسية لـ”التحوّلات الثورية” في المنطقة العربية” على هذه الحالة اللامتوازنة أحد احتمالين: “والنتيجة إما أن يقوم الإنسان باستخدام هذه الطاقةِ العقلية لتغيير واقعه، فيقوم بالثورة على الواقع، أو أن يستخدم الطاقة في تغيير رؤيته هو عن الواقع ليرضى عنه، فلا يثور”.
ولكن ماذا لو لم تنجح ثورتُه؟ أو لم تنجح بالقدر أو بالسرعة التي يريدها؟ وماذا لو لم ينجح في تغيير رؤيته؟
حينها قد ينتقل من حالة اللارضى والفعل، إلى حالة اللارضى واللافعل، بعد أن رأى أن الفعل لا يجدي. فتتعزّز سلبيته وانكفاؤه على ذاته، أو على أيّ وسيلةٍ تبعدُه عن الواقع، وقد تكون المخدِّرات واحدةً منها.
والعامل المهيمن هنا هو الرؤية، رؤية الواقع وتصوّرات الفرد عن التغيير، أو شعوره ونفاد صبره، فهو لم يوطِّن نفسه على النَّفس الطويل الذي تقتضيه تلك الأهداف التغييرية الكبرى، ولم يتبصَّر بالعقبات والتحديات التي ستقاومه، نتيجة تكرّس أوضاعٍ خاطئة في الواقع الاجتماعي وفي الأذهان فترةً زمنية لا تُمحى آثارُها بالعمل السطحي، أو في المدى القريب، فقط.
فكأنَ الفرد هنا تلازمه بعض صفاتِ التفكير الجماعي الجماهيري التي تتّصف بالبدائية أو السطحية والاندفاعية والتعجّل، وتظلّ مؤثرةً فيه، حتى بعد انفصاله عن الجماهير!
ولا غرابة، فمثل هؤلاء الأفراد لم يُعِدُّوا أنفسَهم بما يكفي فكرياً، ولا تحتضنهم مؤسّسات أو أطر اجتماعية أو سياسية دائمة.
**********
(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق
(*) باحث وكاتب من فلسطين- رام الله