غرفة أبي؟ بل عالم أبي!(*)

الأديب إيلي مارون خليل

elieلعلّ الأمّهات، في الكتب المدرسيّة والأدبيّة، أوفرُ حظًّا من الآباء. لكنّ (غرفة أبي)، لعبده وازن، “يثأر”.

إنّه كتابٌ كاملٌ يُحدّثُ فيه الكاتبُ أباه، ويتحدّثُ عنه. يذكرُه ويتذكّرُه. “يراه” ويُحِبّه، يحنُّ إليه ويتخيّلُه. وهو، حين يحدّثُ أباه، يبدو منفعِلا متأثّرًا، إنّما على قدْرٍ من ضَبْط النّفسِ، فلا مبالغة، بل واقعيّة معاشة بامتياز، تكاد تراها وتشمّها وتلمسها وتذوقها وتسمعها. فللحواسّ دورٌ مهمّ في أدب عبده وازن. هو يوازن بينها. يوقّع كلًّ حاسّةٍ موقعَها، بدقّة صارخة. وحين هو يتحدّثُ عنه، “يراه” و”يسمعه” و”يلمسه” و”يشمّه” و”يتذوّقُه” و”يتخيّلُه”! في الحالَين عمليّة حواسّ تأتلفُ، تتكامل، تتناغم، فتُحدِثُ وحدة عُضويّةً مُتناميةً، ما يجعل النّصّ نشيدًا أبويًّا نازفًا من ذات المؤلّف، وهذا يجعلُه ذاتًا ثانية كاملة للأب والابن معًا.

هو، حينًا، يغلّب البصر، فيصف “مادّيًّا” و”وِجدانيًّا”، بما لهما من خصائصَ وميّزات، ويركّز في ما يُثير النّظرُ من حنين. وحينًا آخر، يغلّب الشّمَّ، فيركّز في ما تُثيره هذه الححاسسّةُ فيه من حنين… وهو، في تغليبه، مرّات، حاسّة على زميلتها، يبدو أسلوبُه هادئًا لافتًا مُثيرًا موحيًا، يجعل الحنين يندفق منّا إلينا عَبر العنصر “المشاهَد” أو “المَشَمِّ” أو “المُذاق” أو… مثالُ ذلك ما يسردُ (ص 35) عن تأثير “الشّمّ” فيه، فيرسم، وفي الوقت عينِه، ما تشعر به أنت، فيكون يصف نفسَه ويصفك ويصف سواكما، وفي الحين ذاته.

هذه الـ”سير ذاتيّة” سيرتان بامتياز. تتداخلان، ولا عيب. تتكاملان ولا مُشكلة. تتناغمان على ائتلاف وائتلاقٍ مُشرِقَين. يُقحِمُ الكاتبُ ذاتَه، سيرةً وعواطفَ وآراء وميولا وهوايات ورغبات… على ذات أبيه: سيرةً وعواطفَ وآراء وميولا وهوايات ورغبات… وتستطيع، أنت، كقارئٍ متميّز مُتأنٍّ، أن تفصل سيرة الابن عن سيرة الأب، فيُصبح الكتابُ سيرتَين متداخلتَين منفصلتَين، مترابطتَين مستقلّتَين، مندغمتَين حرّتَين، ولا نقصانَ في هذه، ولا في تلك. كيف يتمّ له ذلك؟ عَبر ديناميّةٍ وافيةٍ من الوِجدانيّة الفرديّة الجَمعيّة معًا. ألكتابُ ذَوبُ ذاتِ واضعِه، صحيح. لكنّه، إلى ذلك، ذَوبُ ذات الأب الماثلِ ـ أبدًا في أيّ صفحةٍ من صفحاته. ذوبان الذّات، هذا، لا يُذيبُهما في واحدة وحيدة، فتُصبِحان بلا ملامح خاصّة!

وأنت تقرأ (غرفةَ أبي)، يبدو لك أنّك ترافقُ الكاتبَ، تُجاورُه، في جولاته، وذكرياته، وحنينه. ويبدو لك، بعدُ، أنّه يأخذ بيدك، لتقتحم عالمَ أبيه الكائن في هذا الحَيِّز من بيت أبيه، هذه الـ”غرفة” المعشوقة الكاملة، الواقعيّة المِثاليّة، المتخيَّلة المتحقّقة. غرفة أبيه، أم غرفتِه، تتساءل ببراءةٍ جِدّيّة، في النّهاية. وتطرح على ذاتك السّؤال: أيعود النّصُّ، هذا، إلى حاجة، عند الابن، أم إلى رغبة!؟ وتتساءل، بعدُ: إلامَ تعودُ هذه الحاجة، وإلامَ تعودُ هذه الرّغبة!؟guilaf gorfat abi

وتحسّ، مرّاتٍ، بانحيازٍ لذيذٍ إلى الكاتب. فأنت ترى، في غرفة “أبيه” غرفة “أبيك” الّذي، هو الآخرُ، تُوُفّي شابًّا. المسألة الواحدة مشترَكة، ما يوحّد بينكما، فيجعل “الغرفة” واحدة، مشترَكة، ما يقرّب وِجدانيّتك، كقارئ، إلى وجدانيّة الكاتب. هذا نجاحٌ آخر للأخير.

صحيح أنّ الكتابَ عن ميتٍ، لكنّه كتابٌ حيّ. كتابُ حياة. كتابٌ حيٌّ حقًّا. نابضٌ، يشتعل فيك، ويُشعِلُك، فتسعد وتنتشي وتستغرق، واعيًا ذاهلا مُتَّخَذًا متألّقًا. ألأدبُ الحيّ يرتقي بقارئه. كما أنّ القارئ الجيّد يستنطق الكتاب ما أراده الكاتبُ، أو ما لم يقله بوضوح، فيؤوّل ويستوحي. كلّ نصّ نصوص، على عدد القرّاء.

لقد أعاد، عبده وازن، أباه وكلَّ أبٍ، إلى الحياة. وهذا ليس بالسّهل. إنّه لَعملٌ عسير، إنّما غير مستحيل، مهما كانت درجة الصّعوبةِ فيه. إنّه الفنّ.

هذا، وأحِبّ أن أظنّ أنّ هذا النّصّ تدفّق من كاتبه كحاجة أكثر ممّا هو رغبة. ألحاجة ضرورة حتميّة. لا تقدر، أنت، على ردّ حاجتك. تنقص. تلبّي حاجتَك، حاجتَك التّعبيريّة الفنّيّة، تكتمل. والرّغبة فعلٌ إراديّ. كأنّك تغصبُ نفسَك على الكتابة. ألحاجة ترتفع بفنّ الكتابة؛ ألرّغبة “اغتصابٌ” له. ما يوقع في سَفسَطات لا طائل لها ولا منها.

تبدو ذات المؤلِّفِ، هنا، تنساب بعفويّة تامّة، وبساطةٍ أخّاذة. ألانسيابُ حُرٌّ، جَذْلٌ، دائمُ الصّدق الصّريحِ الجريء. والبساطةُ سهلةٌ، مطواعةٌ، دائمةُ الرّجاء الأمين المتقَن. في هذين الانسيابيّةِ والبَساطة، منتهى الصّعوبةِ في الكتابة الفنّيّة. مَن يستطيع أن ينساب بعفويّة وبساطة انفعاليّتَين، ويبقى على المستوى الأدبيّ الرّاقي، بلا ارتباكٍ أو ترداد أو تَحَذلقٍ أو أيّ “مُصطَنَعٍ” آخر يُفقِدُ الأدبَ فنّيّتَه الجماليّة المثيرةَ والموحية!

وممّا يلفتُ، في الكتاب، توقُّفُ عبده وازن عند بعضِ الأفكار الخاصّة أو التّأمُّلات أو المقابَلات، كمثلِ توقُّفِه عند الكتابة على الورق، والكتابة على “اللاﭘتوﭘ” ( صص 25/28). إنّها تأمّلاتٌ ومقارَنات عاطفيّة وِجدانيّة، وعقليّة منطقيّة. وتقتنع معه. لا شكّ في أنّ للكتابة على الورق الأريج النّادرَ، والخَلْقَ البهيج، والرِّضى النّفسيّ. تشعر أن للورق حياة، وأنّ فيه دفئًا وافيًا يقي كتابتَك من “البُرودة” الفتّاكة.

وتجد، كذلك، إشاراتٍ وطنيّة تاريخيّة تتّصل، من قريبٍ أو بعيد، بأبيه، فيخاطبه كأنّهما في حوار حيّ خلاّق مُثمِرٍ مفيد (صص 133/135). وأخرى حضاريّة وثقافيّة وعلميّة واجتماعيّة وعائليّة… ما يجعل من (غرفة أبي) كتاب فردٍ كثير، كتاب مفردٍ جمْعٍ، كتاب مكانٍ أمكنة.

” الصُّوَرُ أمامي أيّها الأب… هذا كلّ ما بقي منك، بضع صورٍ بالأسود والأبيض تروي لمحاتٍ من سيرة شخص يكاد لا يكون أحدًا” (ص 223). لكنّ كتابَك، أيّها الشّاعر، جعل أباك بـ”الألوان” كلِّها، وجعله “شخصًا” أشخاصًا.. جعله كلَّ أحد!

“غرفة أبي”؟ لا، إنّه كون أبي، وكلّ أبٍ!

******

(*) “غرفة أبي” لـعبده وازن، 223 صفحة من القَطْع الوسط، منشورات ضفاف و الاختلاف، طبعة أولى، 2013.

اترك رد