د. ناتالي خوري غريب
الصداقة الحقّ قيمة نهضويّة وفاعليّة خلّاقة وولّادة سعادة حين تكون أقوى من رابط الروح بالروح. صداقة فكر يأبى إلّا ان يتلاقح، عشق عقل يأبى إلّا أن يتغلغل في عمق الخلايا، ليس بعضها، بل كلّها. والأهمّ من ذلك، حين يعي الإنسان كلّ لحظة هذه الصداقةَ، يعي نضجه، يعي لذّة الوقت، يعاني انتظار اللقيا الذي تكافئه الكلمات والمقطوعات العازفة على شوق الفكر للفكر. تتفرّد الصداقة كونها لقاء أرواح يمكن أن قد تكون تاهت في أزمان سابقة والتقت، في كليّ تطابق بين النفس والروح.
تتكسّب الصداقة متانتها حين يعي الإنسان أنّها في أوّل سبيلها، تمرّ بمقام الدهشة، فمتى زالت هذه الدهشة، بعد عميق تعارف واكتشاف زوايا وخبايا، إمّا أن تهزل حالها، وتاليًا يتمّ الانتقال بعدها الى مرحلة الروتين العلائقي، فلا تعود تليق بمقام هذا الاسم، تحت قاعدة اكتشاف العيوب لتكون إجابة أحد الشعراء:”أتطلبُ صاحبًا لا عيب فيه/ وأيُّ الناس ليس له عيوبُ”.وإمّا يتمّ الفناء في متانة بقاء الصداقة الأبدي.
لا تشبه الصداقة شيئًا آخر، لا تشبه أمرًا آخر. لأنّها تلك الطاقة المستمدّة من محبّة الآخر وإحساسك أنّ ثمّة من يقدّم لك الدعم والسند، وأنّ عينًا عليك ترعاك أبدًا، وتلك العلاقة التبادليّة والتفاعليّة في عجن الخير المطلق، وبخاصّة حين تبنى على جوهر متأصّل في نفس الصديقين تصبح أقرب ما تكون إلى روح واحدة، وثباتها حريّة قرار الآخر بين البقاء والفرار أنّى يشاء رحيلًا وهروبًا وضجرًا أو بقاء أو عودة بعد غياب، مع كلّ ما تحتّمه من تجرّد كلّي، واندفاع كلّي، ومحبّة تنمو بذاتها من دون أن تنتظر مقابلًا.
قد يعيش المرء عمرًا كاملًا، فلا يلتقي الصديق الحق، وبذلك كمن فوّت بذلك فرصة التجدّد الحياتي مع كلّ إشراقة شمس، فيكون بذلك إنسانًا فقيرًا. وعلى الرغم من أنّ الإنسان يردّد دائما لنفسه أنّه لا يريد أن يتعلّق بأحد، كي لا تكون الخسارة موجعة وقويّة بقوةّ التعلّق، فيكون اللجوء إلى الزهد بالصداقة. وهنا نستحضر ما جاء في كتاب “الحيلة لدفع الأحزان” للفيسلوف الكندي، وفيه ألّا يتّخذ الإنسان من أيّ موضوع أرضي محبوبًا لأنّ كلّ ما على الأرض فانٍ، أكان شيئًا أو إنسانًا، وتاليًا هو عرضة للزوال، ما يجعل الإنسان معرّضًا كلّ آن لخسارة ما يحبّ، من هذا الباب يصبح الزهد بالصداقة زهدًا بالحياة وليس تقليلًا من قدسيّة الصداقة أو تقليلًا من قيمة الآخر في حياته.
فالصداقة تمتّع بالحياة وتنعّم، وهي هبة من هباتها لأنّها ترادف السعادة، وهي أقصى حالات الصدق والحنان. هذا لا يعني ان تكون جميع الصداقات عميقة بالمرتبة عينها، فلكلّ إنسان حاجات وتطلّعات وأسلوب حياة وذائقة عيش فكرا وحياة وماضيًا ومشاعر وأحاسيس، وقد قال في ذلك أحد الشعراء:” ولا يألف الإنسان إلّا نظيره/ وكلّ امرىء يصبو إلى من يشاكله”. وقد تتنوّع الصداقات أو فلنقل تصنّف، على أن يكون تاريخ صلاحيّتها لا ينتهي بانتهاء حاجة المرحلة اليها.فهناك الصديق الرفيق الذي تستمع اليه وتسانده وتدعمه وتصغي الى همومه ومشاكله وتسعى الى إرشاده وحلّ اموره.
وصديق بعيد-قريب: تتخاطب قلوبكما وعقولكما من دون تعبير عن هذا الشعور النبيل، مع تقدير صريح لمنزلة كلّ منهما في نفس الآخر، على قاعدة أفلاطون”صديقي هو شخصي الثاني”.
وصديق صديق يستحوذ على كلّ كيانك، بعد انتهاء مرحلة الدهشة، صديق يوجعك في العمق وجعه، يفرحك في الصميم فرحه، تصحو لتحاوره وتنام على أمل يقظة الشمس لتطمئن عن حاله، لتعيش معه المجد الذي قال به فولتير.
وبعد، هناك الصديق-المزيّف، الذي يعتقد أنّه يقدّم لك اسمه طبقًا شهيًّا لتكبر به، لأنّه يعتبر نفسه جوهرة نادرة تتسارع الناس اليه او تحلم بقضاء بعض الوقت معه، وانك إذا صادقته، أنت الرابح الاكبر، لحظوتك المكوث في مجالسه، أو أنّك محظوظ كونه قبل الحضور في مجلسك. ودوام وجودك إلى جانبه رهن بمدى قدرتك على أن تكون عددًا ليدين تصفّقان له إعجابًا وانك حين تخدمه تكون خدمة لنفسك، لأنّ برأيه أمثالك يجب ان يتجنّدوا لخدمته وفاء وشكرانًا للحياة على وجوده.
وأخيرًا، ثمّة نوع جديد آخر، هو الصديق الفيسبوكي، ولنا في ذلك حديث آخر عن هذا العالم الذى بات المنتدى الاجتماعي الأكبر.
وإن كان لا بدّ من كلمة ختام، فمسكها يكون ما قاله بولس سلامة:”علّمتني الحياة أنّ الصداقةَ المحض هي قدسُ أقداس المجتمع، لأنّها بنت المحبّة، والمحبّة غرسة الله في صدور الأوادم”.