الدكتور جورج شبلي
مَثل الحياة , مَثل مركب مليء بالعبيد ، الكل محكوم عليه بالأعدام . والفارق هو
بين مَن يجلس في كرسي الربّان , وبين مَن يقبع في عنبر القاع . من هنا , فالرجال صنفان : مَن يرحل كأنه ما كان , ومَن يترك في الدنيا بصمة مدوية , هي جواز عبوره الى الخلود في الضمائر والحناجر.
شهيد الجيش هو فارس آخر أطلَ علينا ولا ندري في أية آفاق سيجول ، هو رجل الطليعة والمواجهة . شهادته خمر جديدة لها في تربة الوطن غير طعم وغير دبيب , يمتزج بها دمه حتى اذا ما عُصر لحمه , تعذَر ان ترى في الخمر ماء . مستسلمٌ لعواصف هوج , تناسق معها وكتب بالدم والنار , فجاءت شهادته تُخط حفرا لا بالحبر . هو القلق باستمرار , مغامر وراء الحدود , سالك أطراف المزالق . وكنا نخاف عليه من السقوط , حتى أصابه غادر فسقط كما يُتلقى بالسواعد صغار الأنبياء .
كان ورشة نضال , وتراكم عنفوان , وفتى الأحلام الكبار , ممتطيا طموحه الجوَاب , منعتقا من أدران الخوف ليكون كومات أشفار . علَمنا ان للكرامة سلطانا , وبقي متشامخا في أدائها حتى بذل النفس . هو الشهيد , وهنا ينقطع الكلام وتُمسك الريشة , ليبرز الرمز والأستلهام في خشعة التأمَل . وحسب الشهيد انه بخلوده لا بوجوده .
في التاريخ وجوه طليعية جُبلت بالمناقب , تغيب لتتحول الى أسماء تعيش طويلا , هي جزء من زمن الوطن الآتي الذي لا يزول . لقد اعتلى الشهيد مسرح الأحداث بدون قناع ولا مصانعة , ولقّن الجيل أن اساليب الحياة تُبنى على الجرأة والبطولة , فمشى الى الحرية خارجا عن المواضعة المبتذلة , متلمسا وجه الحقيقة، وجه لبنان . شعاره : ما أعجز الأوطان ان ظلَت تجرّر الخذلان على أرضها .
لقد غلبوه في الغدر , وغلبهم في القيمة, هذا المصطحب شهادته الى ميدان الشرف، ليترك للآتي ان ينعم بغنائم استبساله . ان أثر دمه لعظيم في تبديل مفاهيم الغلبة ، تلك التي أعادت للوطنية فعلها السحري الحقيقي . لقد استشهد بلغة الناس , وكانت شهادته مقالات بحدَ ذاتها , ألقاها فأصبحت مأثورة كأنها الأمثال.
يا شهيد الثقة بالنفس، أيها العنيد في الحق, المتحمس للحرية وللحقيقة , القوي المناكب التي لا تلوي، يا من أغمضت عينيك ولم تمت , لا عجب إن قضيت باكرا , فمسافات النور دائما خاطفة.
******
بالاشتراك مع aleph-lam
www.georgetraboulsi.wordpress.com