د. ناتالي خوري غريب
في السكينة عطش المحابر الى كتابة الصمت، وسجود العقل في هياكل الضمائر.
في السكينة ميقات عبور الذات إلى الذات آن تعرّي النفس من غبار الطريق، وطريق اللُحَيظات إلى الاختباء في جلباب الزمن.
في السكينة تخلٍّ عن جعبة الأحزان في منازل الأمس لأنّها زوّادة الروح في مهاجر الغد، واكتفاء الحاضر بنعمة السكون على موائد الطمأنينة.
في السكينة صراخ الوجع القابع في أعماق الروح بأعلى الصوت، وصوت النفس التائقة إلى ابيها والعائدة مع الابن الضالّ.
في السكينة دعوة إلى وليمة الغبطة بعد طوال صوم عمّا يدخل الرجس إلى القلب وتنعّم بمعموديّة الكلمة، والميرون حبّ خالص ولا همّ إن كان الجرن من مخلّفات الوثن.
في السكينة يقظة الوعي من غفوة الذهول وصفوة الذهن من قلق المجهول.
في السكينة راحة الزاهد من متعة الجمع ورغبة الشهوة، لأنّها حال من الأحوال الصوفيّة ومقام من مقاماتها.
قد تكون السكينة انهزام اليأس والأمل، على قاعدة لا غالب ولا مغلوب،
فإصغاء إلى رسائل الكون .
أو تكون وهمًا من أوهام الحسّ لتخبّر عن استسلام الخيبة؟
وخضوع العقل بعد إغلاق آخر مخرج طوارئ؟
وفي كلا الحالين، السكينة تختلف عن السكون، لأنّ النيّة الصافية تتولّد في أحشائها، في حين انّ السكون ضدّ الحركة. وهي طاقة إيجابيّة فاعلة، وقدرة توليديّة تحفظ ديمومتها، وتتخطّى كمونيّة الصلاح والإمكان إلى فعل تحويل ما و(من) يصله سكونها إلى خير النعمة ونعمة الخير، والغاية استحقاق السكنى في السلام.
وفي كلا الحالين، ليست صمتًا سطحيًّا خارجيًا، بل إصغاء إلى صوت الصمت، ففي الصمت نقيضان يتنازعان: قمّة الحياة وقوّة الموت، والغلبة للأقوى، والأقوى يكون نسبة إلى المنظور، والمنظور بحسب الناظر، والناظر اعمى والحواس اوهام ولا حقيقة، لكنّ السكينة حقيقة تقدّم نفسها جليّة في الحياة التي تتفوّق على الحواس.
وفي كلا الحالين، هي ليست عزلة وانعزالًا ووحدة بل إيمان أنّ الغيريّة اعتراف بالأنا وإثبات لها في تخطّي كلّ ثنائيّة وصولًا إلى الوحدة العاقلة.
وفي كلا الحالين السكينة ليست عدمًا، ففي العدم انتصار العبث، وفي العبث لا انتصار، وهنا قلق الفجأة، لكنّ السكينة كينونة الفرح، حيث تتأبّد بشرى الحبور، ويغلب الرجاءُ الأمل.
وتبقى السكينة تلك الوقفة بين يديّ الضمير الذي أوجدها، وذلك اليقين بعد اكتمال حلقة الصبر على ما تحمله الأيام الآتية.
تبقى السكينة تلك الصلاة المقدّمة إلى روح الكون، فهنيئًا لمن امتلكته، فامتلأ بها، وسكن فيها، في ظلّ استمرار لعبة الفصول المتأرجحة على بوّابة الزمن.
ناتالي