هل تشكل الصحافة المدنية خطرًا على الصحافة التقليدية؟

د. جودت هوشيار

الصحافة التقليدية الرصينة في صورتها الليبرالية الغربية الناضجة، تلتزم الموضوعية والحياد فى نشر المعلومات وتتخذ دور المراقب الخارجي، الذي يقف فوق التل ولا يهتم كثيرا jawdatبما يحدث في الحياة العامة ولا يقحم نفسه في معالجة المشاكل والنزاعات القائمة في المجتمع، التي يتحدث عنها. أي ان تدفق المعلومات من الصحفي الى المتلقي هو بإتجاه واحد. ولا يوجد أي إتصال مباشر أو تفاعل حقيقي بين الطرفين، إلا في حالات نادرة.

الدور الحقيقى لهذا النوع من الصحافة هو دور الناقل للخبر او المخبر والمتفرج مجسدا المثل العربي المعروف: وما على الرسول الا البلاغ المبين، ثم الإنسحاب بعد ذلك.
هذه الصحافة – ممثلة بنموذجها الأميركي- الأكثر تطورا وإنتشارا فى العالم – تراجع دورها وأنحسر تأثيرها، في أواخر العقد الثامن من القرن الماضي وتجلى هذا التراجع فى إعراض القراء عنها وهبوط أرقام توزيعها.

وشرعت المؤسسات الصحفية ومعاهد البحوث الإعلامية المتخصصة في الولايات المتحدة الأميركية بإنجاز مشاريع بحثية وإستقصائية بهدف الوقوف على الأسباب الحقيقية لهذا التراجع. وتبين ان السبب الرئيس يعود الى عدم التواصل بين الصحافة وبين الرأي العام وإبتعاد الصحفيين عن هموم المواطنين ومشاكلهم االحياتية الملحة إهمال دورهم وآرائهم.

الصحفي التقليدي يقتصر دوره على تقديم المعلومة، وبما ان مصادر المعلومات أصبحت كثيرة، ومتنوعة للغاية، حيث ان الإنسان المعاصر يواجه يوميا فيضاً من المعلومات، التي لا علاقة لها على نحو مباشر، بما يشغل فكره وبالمشكلات التي يعانيها، لذا فإن قيمة هذه المعلومات ليست كبيرة لديه، مما يضعف دور الصحفي وتاثيره فى المجتمع ويؤدي في غالب الأحيان الى إعراض القراء عن أقتناء الصحف، لهذا السبب تحديدا وليس لأي سبب آخر، خاصة أن، أسعار الصحف في الغرب، أسعار رمزية، فهي لا تعتمد على المبيعات من أجل تغطية تكاليف إصدارها، بل على الإعلانات في المقام الأول، وثمة العديد من الصحف، واسعة الإنتشار توزع مجانا.sahafa taklidyia

الصحافة التقليدية في الغرب، ترتبط بمصالح النخب السياسية والإقتصادية، وتنقل آراء وأخبار هذه النخب أولا بأول. يقول أحد الصحفيين الأميركيين: “إن المؤسسات الرسمية – والتي يطلق عليها أسم “الصدر الكونكريتى الأعظم” – هى التى تغذى يوميا الصحفيين، الذين لا يهتمون كثيرا بما يقوله المواطن العادي. “حقا ان المواطن البسيط، قد لا يقول شيئا مهما ولكن على الصحفي ان يصغي اليه جيدا، ليس من اجل الحصول على المعلومة فقط، بل الأهم من ذلك، في سبيل فهم جوهر المشكلة التي يعاني منها.

الصحافة المدنية

ظهرت خلال العقدين الأخيرين، ممارسات صحفية جديدة، تختلف الى حد كبير عن الصحافة التقليدية منها، الصحافة المدنية (Civic Journalism) أو صحافة المجتمع المدني (Community Journalism) أو الصحافة العامة (Public Journalism)، وهي مسميات لنمط جديد من الصحافة، ظهر لأول مرة فى الولايات المتحدة الأميركية قبل حوالى عشرين عاما وأنتقل فى ما بعد الى العديد من البلدان المتقدمة. وتتشابه مفاهيم هذه الأسماء في نظر خبراء الصحافة في الوطن التأريخى لظهورها – الولايات المتحدة الأميركية – في حين أنها تتباين الى هذا الحد أو ذاك في البلدان الأخرى، ولم تتحول بعد الى مصطلحات مستقرة تماما، نظرا لتباين تطبيقاتها في البلدان المختلفة، بسبب طبيعة النظام السياسي القائم وسقف الحرية الصحفية المتاحة والتطور الثقافي في هذا البلد أو ذاك.

ويخلط بعض الكتاب العرب والعراقيين بين الصحافة المدنية – وهي صحافة أنتشرت قبل ظهور الأنترنيت – وبين صحافة المواطن (Citizen Journalism)، التي تعد أحد أشكال الصحافة الألكترونية والتي ظهرت الى الوجود بفضل الشبكة العنكبوتية. الصحافة التقليدية تكتفي بالحصول على الحقائق الجاهزة – ان صح التعبير– وتحديد المواقف منها. أما في الصحافة المدنية، فأن القراء والصحفيين معا، هم الذين يحددون محتوى الصحيفة.

هذا النمط الصحفي الجديد لا يكتفي بتغطية الأحداث والمشاكل القائمة في المجتمع، كما تفعل الصحافة التقليدية، بل يضطلع بدور أهم من ذلك بكثير وهو التفاعل المتعدد الجوانب للصحفيين مع الجمهور القارىء، عن طريق الأستطلاعات والمسوح ومجموعات النقاش وتنظيم الندوات والأجتماعات وتحليل البيانات من اجل تحديد الأبعاد الحقيقية للقضايا السياسية والأقتصادية والثقافية، التي تهم المجتمع وأستخلاص النتائج الصحيحة بشأنها، وطرح الحلول المناسبة لها. وهذا لا يعنى ان الصحفيين يفقدون حقهم في التعبير عن آرائهم، لأنهم طرف أساس في هذه العمليات.civic journalism

يروق للصحفيين – العاملين في الصحافة التقليدية – كثيرا، الحديث عن الحرفية والمهنية في العمل الصحفي، ولكن المهنة الصحفية في تغير مستمر، وأهم هذه التغييرات هو الأنتقال من الصحافة اللامسؤولة الى الصحافة المسؤولة، من دور الصحفي التقليدي المتفرج على الأحداث والناقل لمشاكل المجتمع الى الصحفي الملتزم بقضايا المجتمع، الذي يتحمل مسؤولية أجتماعية ومهنية وأخلاقية ويسهم في الجهود الرامية الى تعزيرالمجتمع المدني. وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال، الإنحياز أو التخلي عن الموضوعية والحياد، لأن الهدف المشترك الذي يسعى اليه الطرفان – الصحيفة والجمهور – هو تنشيط المجتمع المدني وتعزيز الروح الجماعية وترسيخ الديمقراطية، دون موقف مسبق من هذه القضية أو تلك أو الإنحياز الى أية جهة كانت.

حسب علمي – وأرجو أن أكون مخطئاً – ليس لدينا لا في العراق ولا في دول الشرق الأوسط لحد الآن صحافة من هذا النوع ولكني على ثقة أنها ستظهر إن عاجلا أم آجلا، إن كنا نعيش حقا في عصرنا الراهن ولسنا على هامشه، كما كنا طوال دهور طويلة.

الصحافة المدنية، صحافة جادة ومسؤولة، تضع كل طرف أمام مسؤولياته (الجمهور – الصحافة – السلطة) مما يسهم فى إيجاد الحلول السريعة لقضايا المجتمع الملحة والمشاركة

في صنع القرارات

القارىء العراقي العادي، يعرف اليوم عن الساسة والتطورات السياسية اكثر مما يعرف عن جاره او منطقته او مكان عمله. نحن منغمسون في مطبخ السياسة اكثر من الأندماج والتفاعل مع مجتمعنا. لقد توقف كثير من الناس عن الإهتمام بالأشياء التي تمس حياة كل منا، توقفوا عن لعب دورهم الإجتماعي الفاعل، وربما كان أحد أسباب ذلك، عدم وجود صحافة مدنية عراقية بالمعنى المتعارف عليه عالميا لهذا المصطلح ..

اذا كنت – أيها القارىء العزيز- من القراء المواظبين على قراءة الصحف الجادة وأردت التمييز بين الصحافة المدنية والصحافة التقليدية، فما عليك الا أن تختبر إحساسك في يوم لم يتسن لك فيه قراءة صحيفتك المفضلة، سيخالجك شعور بأنك تفتقدها، وانك أصبحت خارج أحداث المجتمع الذي تعيش فيه وتتفاعل معه، رغم وجود وسائل اعلامية أخرى كثيرة في متناول اليد، مثل هذه الصحيفة ضرورية للناس ولتعزيز وتعميق الديمقراطية. أما اذا لم يساورك مثل هذا الشعور، فإن صحيفتك، لا تختلف عن أية صحيفة تقليدية أخرى، فهي لا تؤثر في المجتمع ولا تتأثر به، ووجودها او إختفائها غير مهم لك وللآخرين.

اترك رد