كلود أبو شقرا
لبنان الذي ورد اسمه في الكتاب المقدس، له مع الكنائس حكاية لا تنتهي فصولها مهما تراكمت العصور وتألبت الظروف، فهي كانت، منذ وضع الحجر الأول لها على هذه الأرض الملجأ الحصين ضد هجمات الأعداء والحامي من النكبات والحروب، تشيع من حولها السلام والصفاء، فهذه الأرض المقدسة التي تنصهر فيها الديانات السماوية، هي المكان الأمثل للتأمل والصلاة والخشوع في سكون الكنائس المنتشرة في أنحائها وعلى قمم جبالها، أعلاها كنيسة سيدة الحصن وأقدمها في لبنان والشرق كنيسة مار ماما… كلاهما يقعان في منطقة إهدن، واستعداداً لإنطلاق الاحتفالات الصيفية الدينية والاجتماعية، قام فريق” إهدن سبيريت” يعاونه ناشطون بيئيون من زغرتا واهدن بحملة تنظيف واسعة لجبل سيدة الحصن المشرف على منطقة الشمال من الجهات كافة...
كنيسة سيدة الحصن
على أعلى قمّة جبل يعرف بجبل سيّدة الحصن شمال غرب إهدن، يطل على مناظر خلاّبة، جمعت سحر الطبيعة إلى جمال ما صنعته يد الإنسان من بدائع، على هذه التلة الشاهقة المهيبة الانحدارات التي تشرف على معظم شمال لبنان وبعض الأراضي السورية، بنى الاهدنيون القدامى حصنا ً منيعاً تتوِّجه اليوم كنيستان مارونيتان على اسم العذراء “سيدة الحصن”، الشفيعة التاريخية لإهدن عبر تاريخها الطويل، واحدة قديمة صغيرة الحجم معقودة بالأحجار مبنية على الصخر وفيها مذبح واحد للجهّة الشرقيّة وذات باب واحد للجهّة الغربيّة، والأخرى حديثة.
كنيسة سيدة الحصن القديمة: بناها الإهدنيون معبداً للعذراء شفيعتهم في داخل الحصن الغربي، أعلى قمة في الجبل، ويشكل خط الدفاع الأول للإهدنيين القدماء. هدم المماليك الحصن والكنيسة سنة 1283، فأعاد الإهدنيون بناء الكنيسة من حجارة الحصن المهدوم، وأعادوا بناءها مرة ثانية بعد زلزال سنة 1705، ورمموها سنة 1836 بعد خراب، ذكره الرحالة والشاعر الفرنسي لامرتين لدى زيارته المنطقة سنة 1833.
كانت هذه الكنيسة قديمًا معبدًا للحصن الذي كان قائمًا حولها يلجأ إليه الإهدنيون في محنهم ويردّون من وراء جدرانه وصخوره هجمات الأعداء، تظلّلهم يد العذراء العجائبيّة التي اشتهر المواطنون بعبادتهم الحارّة لها… من هنا اسم سيّدة الحصن. كان الإهدنيّون بنوا هذا المعبد على أنقاض الهيكل الوثني الذي كان قائمًا على تلك القمّة، ثمّ رممت هذه الكنيسة سنة 1963.
كنيسة سيدة الحصن الجديدة: مقام مريمي كبير يحاذي الكنيسة القديمة دُشن سنة 1989. طرازه هندسي غير تقليدي: كنيسة واسعة مستديرة، يعلوها برج شاهق عليه تمثال كبير أبيض للسيّدة العذراء باسطة يديها صنع في إيطاليا (بوشر بتنفيذه سنة 1985)، وهي ذات عجائب وتستقطب الزوار والمؤمنين طالبي النعم والبركات، خصوصاً في الأسبوع الأول من أيلول لغاية الثامن منه (عيد مولد العذراء).
حج البطاركة
في إطار الاحتفال برفع الستار عن تمثال الصليب، في 14 أيلول 1935 وصل البطريرك الماروني أنطون عريضة إلى إهدن, وتوجه الى قمة جبل سيدة الحصن بموكب حاشد، وترأس قداساً احتفالياً، ألقى خلاله عظة بليغة تحدّث فيها عن عظمة الصليب، كان لها تأثيرها في النفوس.
وفي 14 أيلول 1949 زار البطريرك عريضة جبل سيدة الحصن مجدداً، وترأس الاحتفال بالذبيحة الالهية تحت تمثال الصليب. بعد تلاوة الإنجيل المقدّس، ألقى عظة أثنى فيها على تطوّع الإهدنيين وحماستهم تمجيداً للصليب المقدس، واستمطر بركات الله عليهم كي يوفقهم ويكثر جمعهم ويعطيهم السعادة الأبدية. وقد منح غفراناً كاملاً للنادمين عن خطاياهم والذين تناولوا القربان المقدس، ودعا في ليحفظ الله لبنان.
البطريرك الماروني مار نصرالله صفير زار، بدوره، إهدن وزغرتا في مناسبات مختلفة. ففي 15 آب 1989 دشن كنيسة سيدة الحصن الجديدة، وترأس القداس الإلهي، وبعد تلاوة الإنجيل المقدس ألقى عظة اختصر فيها المراحل التاريخية التي اجتازها الموارنة، ومنهم الإهدنيون، الذين أحبوا العذراء وكرّموها، ونالوا على يدها خيرات روحية وبركات.
مزار عالمي
يعدّ جبل سيّدة الحصن في إهدن من أهم المواقع الطبيعية في لبنان لأهميته الجغرافية، وقد أثار طرح رعية إهدن – زغرتا مشروع بناء مبنى من ثلاث طبقات على جهته الشرقية في 2011 سجالاً بين الزغرتاويين. ورغم أن المشروع يهدف إلى إقامة صالات للاحتفالات، وبعض غرف النوم، بهدف استخدام الكنيسة طوال السنة، فإن قسماً من أهالي زغرتا رفضه، فلجأوا إلى “الفايسبوك” أولاً، ثم إلى توزيع البيانات.
يتألف المشروع من 7 نقاط: إعادة الصليب إلى قمة جبل سيدة الحصن، حيث كان في الماضي. إعادة احياء عيد الصليب التاريخي، مع سطحية كبير تستعمل كمكان للقراءة والصلاة والتأمل بجمال الطبيعة وإقامة الاحتفالات الدينية. انشاء مواقف للسيارات والحافلات لتسهيل وصول الزوار إلى الكنيسة، صالة مناسبات كبرى مجهزة بمطبخ ملائم تستعمل للأفراح وللمناسبات الرعوية والروحية والرسيتالات واللقاءات الروحية الكنسية الكبرى ولا تستخدم لإقامة المآدب الليلية، مركز تذكارات تعرض فيه المنتجات الإهدنية من مواد غذائية وألبسة تقليدية، إلى أعمال يدوية وتقويات وكتب دينية، قاعة محاضرات تستعمل شتاء ككنيسة، ما يؤدي إلى إحياء المزار على مدار السنة، استراحة للزوار لتأمين حاجاتهم الضرورية بمساحة لا تتعدى المئة متر مربع. بيت مخصص لسكن الكهنة الذين سيخدمون المزار ويؤمنو الاعترافات والقداسات والمناسبات الدينية وإدارة المشروع ومراقبته.
إزاء السجال الكبير الذي دار بين أبناء المنطقة، انتقل المشروع إلى عهدة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الذي سيتخذ القرار المناسب في شأنه. وعلى ضوء هذه التحركات الاحتجاجية التي شهدتها زغرتا، أكدت لجنة وقف إهدن – زغرتا ان المشروع الجديد لكنيسة سيدة الحصن لا يهدف إلى جرف الجبل كما يعلن البعض، بل أتى تلبية لحاجات مزار سيدة الحصن، بعدما أقدم المرحوم الشيخ فايز معوض على بناء الكنيسة الكبيرة وبنى الساحات والحدائق ومنتفعات المزار، من بيت للناطور ودورات للمياه وصالة استقبال مقابل الكنيسة. ولا تزال عائلته تهتم بصيانة المشروع وتطوره. التطور الكبير الذي يشهده المزار، إذ أصبح قبلة أنظار الحجاج من كل مكان، يتطلب أن يكون كمزار سيدة حريصا والمزارات العالمية، كذلك أصبح محطة أساسية لاحياء المناسبات الدينية من قداديس وزواج وعمادات، وشددت اللجنة على أن هذا المشروع لم ولن يجرف جبل سيدة الحصن بل سيضع إهدن على الخريطة السياحية والوطنية ويستقطب آلاف الزوار ويؤمن عشرات فرص العمل.
في هذا السياق يؤكد أحد أعضاء لجنة الوقف أن الجبل ملك أوقاف أهدن وليس مشاعاً بلدياً او مشاعاً عاماً، ولهذا يحق للوقف أن يفعل ما يشاء. وثمة مراعاة للبيئة ولجمالية المكان، فضلاً عن أن المشروع يؤمن فرص عمل للشباب ويزيد من الحركة الاقتصادية في أهدن والجوار. أما الحديث عن الصرف الصحي وما شابه، فإن شبكة المجارير وصلت إلى الجبل وكذلك شبكة مياه الشفة، ولا مجال بعد ذلك لأي تلوث بيئي، لا سيما ان عشرات أشجار الأرز غرست في محيط الكنيسة.
مار ماما
شيدت أول كنيسة مارونية في اهدن على اسم هذا القديس، من كابّادوكي في آسيا الصغرى (تركيا اليوم) سنة 749م ، وتعتبر أقدم كنيسة مارونية في لبنان.
في كتاب يؤرخ حياة القديس ماما من إعداد الأرشمندريت بولس نزها، الراهب الباسيلي الشويري، ورد أن القديس ماماس كان المدافع التلقائي للجسم الحربي للمردة، فضلاً عن ذلك كان رسمه مطبوعاً على سلاحهم الأبيض (المجرّد).
وبما أن اهدن كانت من أوائل القرى المارونية في لبنان، كما كانت أحد الحصون المارونية التي تصدّت بالمردة لمعظم الغزاة، فليس غريباً أن تشيّد أول كنيسة مارونية في لبنان على اسم القديس الشهيد ماماس الكبّادوكي شفيع وذخيرة المحاربين المردة.
تقوم الكنيسة على أنقاض معبد وثني مقدوني مهدى إلى إله الشمس. هي من أقدم الكنائس المارونية في لبنان. فيها جناح رئيس وآخر جانبي. على جدرانها صلبان ونقوش، بعضها باليونانية ويعود تاريخها إلى سنة 494 (مطلع ولاية الاسكندر المقدوني). وفيها جرن معمودية بشكل جرة كبيرة في الحائط.
“مار ماما” (260-275) شفيع الرعاة والممرضات، كان في الخامسة عشرة حين قتله في قيصرية كابادوقيا جنود الأمبراطور الروماني أورليانوس خلال حملة اضطهاده المسيحيين.
الآثار التي تدلّ على قدم هذه الكنيسة هي الأحجار الضخمة المختلفة الشكل التي لا تزال ظاهرة على الجدران، والأحجار الثلاثة المجوفة والمثقوبة في أسفلها، وكانت تستعمل في الهياكل الوثنيّة وتسمّى أحجار الضحايا، بالإضافة إلى كتابات ورموز في داخل الكنيسة من أعلاها. ثمة أثر ثانٍ باقٍ من هيكل إهدن القديم، وهو حجر في حائط مار ماما الشرقي الداخلي، يحمل كتابات ورموزًا لم يتمكّن أحد حتّى الآن من قراءتها ومعرفة مضمونها.
الكنيسة في الأصل، مؤلفة من أسواق ثلاثة كما ذكر الدويهي في الفصل الخاص حول كيفية بناء الكنائس (في منارة الأقداس): “قسم الآباء القديسون الهياكل الكبيرة ثلاثة أقسام أي قدس الأقداس وبيت المقدس والدار وفقًا لعدد الأقانيم الثلاثة، كما تبين من كنائسنا القديمة مثل كنيسة القديس ماما في إهدن…” لم يبق منها حاليًا سوى سوقين فقط بسبب شق الطريق العام الملاصق لها. وقد
أعادت مديرية الآثار ترميم الكنيسة سنة 1974 بايعاز من رئيس الجمهورية آنذاك سليمان فرنجية.
اليوم تتالّف الكنيسة من حنيتين ومصالبين معقودين بالأحجار مفصولين بقناطر حجريّة، أحدهما للشمال وعلوّه تسعة أمتار والثاني للجنوب وعلوّه ستة أمتار، وفي كلّ مصالب يوجد مذبح في جداره الشرقي. استعمل كهنة إهدن هذا الدير كمدرسة علموا فيها أحداث البلدة ومن ثمّ أقفل بابه وظلّ مهجوراً مدة طويلة. يذكر أنه في ساحتها يدفن يوسف بك كرم وبعض رجالات لبنان.
كلام الصور
1- تمثال العذراء العجائبي
2- سيدة الحصن أعلى كنيسة في لبنان
3- الزوار أمام الكنيسة
4- كنيسة مار ماما