المحلل الاقتصادي عدنان كريمة
بخطوات بطيئة يقترب لبنان من استحقاق استثمار نفطه، على الرغم من الحرب الطاحنة التي تعصف بسوريا، ومن العداء المستحكم بينه وبين إسرائيل، علاوة على المعوّقات الإقليمية التي تعرقل المسار الاقتصادي في المنطقة برمّتها.. غير أن لهفة الشركات العالمية ـ وفي مقدّمها الشركات الأميركية ـ للبدء باستثمار النفط اللبناني، تحرّك الدبلوماسية الأميركية وتدفعها إلى العمل على إبعاد مخاطر الحرب عن مراكز التنقيب النفطي، فهل تنجح هذه الدبلوماسية في منع العمليات العسكرية بين إسرائيل ولبنان؟
تتابع الشركات العالمية المتعدّدة الجنسية، وكذلك إدارات الطاقة في الدول الكبرى، باهتمام متزايد، التطوّرات الأمنية والسياسية الناجمة عن تداعيات ” ثورات الربيع العربي”، تمهيداً لتحديد مستقبل المنطقة التي يتوقّع أن تشهد تغيّرات في موازين الطاقة بين دول شرق المتوسّط، وذلك على الرغم من أن احتياط حوض “ليفانت”، الذي يشمل المناطق البحرية لقبرص وفلسطين وإسرائيل وسوريا ولبنان، محدود ولا يزيد على 0.1 في المائة من الاحتياط العالمي، وهو يعادل 1.7 مليار برميل من النفط، و 122 تريليون قدم مكعّب من الغاز، إلا أنه يمكن أن يؤخَذ بالحسبان النموّ السكاني للدول الخمس، إذ يبلغ عدد سكّانها حالياً نحو 45 مليون نسمة، ويتوقَّع أن يرتفع إلى أكثر من 60 مليوناً بحلول العام 2030، على أن يرافق ذلك نموٌّ اقتصاديٌّ جيّد، وطلبٌ متزايدٌ على الطاقة، فضلاً عن حاجة الدول المجاورة الاستهلاكية، وبخاصة الأردن وتركيا، لهذه السلعة الاستراتيجية ودورها البارز والمؤثّر في العلاقات الدولية. لكن هل يمكن البدء بعمليات الاستثمار في ظلّ استمرار حالة عدم الاستقرار الأمني والسياسي في المنطقة؟ وكيف يمكن حلّ الخلافات القائمة، ولاسيّما بين إسرائيل وفلسطين، وبينها وبين لبنان؟
لقد بدأت إسرائيل اكتشاف الغاز منذ أوائل العقد الماضي في مياهها الجنوبية، لكن معظم الحقول كان صغيراً جداً ومحاذياً للمياه الفلسطينية. وبدءاً من العام 2009 اكتشفت حقولاً مهمّة في المياه الشمالية قريباً من المياه اللبنانية والقبرصية. وأطلقت هذه الاكتشافات اتهامات وتهديدات مشتركة من الجانبين اللبناني والإسرائيلي، للاختلاف على الحدود البحرية بينهما. وبدأت إسرائيل تعلن عن تشكيل وحدات بحرية خاصة لحماية المنصّات، بينما هدّد “حزب الله” بضربها في حال التنقيب عن النفط في المياه اللبنانية. كذلك هدّدت إسرائيل بدورها باللجوء إلى السلاح أو القضاء، في حال تنقيب لبنان في مياهها. كما تردّد كلام كثير، غير رسمي، في الأوساط اللبنانية عن سحب إسرائيل الغاز من الحقول اللبنانية من طريق الحفر الأفقي. ولم يصدر بيان رسمي حول هذا الأمر، سوى تحذيرات من أن الأمر ممكن مستقبلاً.
إسرائيل ماضية في الإنتاج
لقد تبيّن أن إسرائيل ماضية في الاستكشاف والإنتاج، من دون أن تقترب من المنطقة المتنازع عليها مع لبنان، مع الإشارة إلى أن الشركة الأميركية “نوبل إنرجي” اكتشفت حقل “كاريش” على بعد ستة أميال من المياه اللبنانية، فيما يبعد حقل ” تامار” نحو 30 ميلاً عن “كاريش”، فضلاً عن اكتشافها مع شريكاتها الإسرائيلية سبعة حقول تضمّ 38 تريليون قدم مكعبة من الغاز في مياه إسرائيل ومعظمها قرب حيفا. وحرصاً منها على أمن طاقتها، أوصلت إنتاج حقل ” تامار” الذي بدأ في نيسان (إبريل) 2013 إلى ساحلها الجنوبي قرب أشدود، بدلاً من ساحل حيفا الأقرب، لتخوّفها من محاذير تشييد منشآت قريبة من لبنان. وتفاوض إسرائيل قبرص في الوقت نفسه لبناء مصنع لتسييل الغاز قرب مدينة ليماسول. فإذا تحقّق ذلك، فإن هذا المصنع سوف يكون الأوّل من نوعه لدولة منتجة خارج أراضيها.
وإضافة إلى هدفها بتقليص المنشآت الأرضية لدرء مخاطرها، تسعى إسرائيل إلى تنفيذ مشروعات عدّة، منها مدّ خطّ لنقل الكهرباء عبر قبرص إلى أوروبا، وخط آخر لأنابيب الغاز عبر تركيا لإيصال الإمدادات إلى أوروبا، وذلك بهدف تعزيز الصادرات وزيادة أرباح الشركات الإسرائيلية. وسبق لهذه الشركات أن عارضت قرار حكومة نتنياهو بتصدير 40 في المائة من احتياط الحقول والحفاظ على 60 في المائة للاستهلاك المحلّي، حتى لا تضطر إسرائيل مستقبلاً إلى الاستيراد، كما تطالب هذه الشركات بزيادة نسبة الصادرات لزيادة أرباحها.
قبرص وتركيا وسوريا
بما أن الشركة الأميركية “نوبل إنرجي” هي الأكثر اهتماماً بتطوّرات الطاقة في حوض البحر المتوسّط، فقد اكتشفت في المياه القبرصية حقل “أفروديت” الواقع على بعد 21 ميلاً غربي حقل “ليفاياثان” في إسرائيل، ولديه احتياطي بين 3.5 ونحو 6 تريليون قدم مكعّب من الغاز، وهي كمّية صغيرة نسبياًّ، ولكن تجري في الجزيرة محاولات استكشاف أخرى، غير أنها تواجه مشكلة مع تركيا التي تدافع عن حقوق القبارصة الأتراك، وهي تضغط للحؤول دون ترسيم الحدود مع قبرص، وتطالب نيقوسيا بدفع نسبة من الريع النفطي تعادل نسبة الجالية التركية، وفي هذا المجال تسعى الحكومة القبرصية إلى تطوير علاقاتها في الطاقة مع إسرائيل، متوقّعة أن تساندها في أيّ خلاف مع تركيا، مع العلم أن أنقرة تقاطع الشركات الدولية العاملة في المياه القبرصية مثل شركة ” إريني” الإيطالية.
على الرغم من الحرب الطاحنة في سوريا، وعلى الرغم من استمرار أعمال العنف وحالة عدم الاستقرار، فقد وقّعت وزارة النفط السورية، في نهاية العام 2013، اتفاقاً مع الشركة الروسية “سيوزنفت” لمدّة 25 سنة، يقضي بفتح المجال للاستثمار في المياه السورية لبدء الاستكشاف والتطوير والإنتاج في صناعة غاز شرق المتوسّط.
لبنان .. والإهمال
في لبنان، لم يتمكّن مجلس الوزراء – بسبب الخلاف السياسي داخل الحكومة وخارجها- من إصدار المرسومين اللذين يتعلّق أولهما بتقسيم المياه البحرية الخاضعة للولاية القضائية للدولة اللبنانية، إلى مناطق على شكل “بلوكات”، ويحدّد ثانيهما دفتر الشروط الخاص بدورات التراخيص ونموذج اتفاق الاستكشاف والإنتاج، واللذين على أساسهما ستعمل الشركات العالمية المؤهلة في المزايدة التي تمّ تأجيلها أربع مرّات، الأمر الذي أدّى إلى تأخير مرحلة المفاوضات، وتوقيع العقود مع الشركات الفائزة حتى منتصف العام 2015، وبالتالي تأخير عمليات التنقيب والاستخراج التي كانت متوقَّعة في العام 2020 .
وبما أن النفط هو سلعة استراتيجية ذات أبعاد في علاقات لبنان الإقليمية والدولية، فضلاً عن تحدّيات عدّة تحمل مخاطر كبيرة أمنية وسياسية، وخصوصاً لجهة أهمّية المخاطر التي تترتّب عن النزاع مع إسرائيل، في ظلّ تطوّر الحرب الدائرة في سوريا منذ أكثر من ثلاث سنوات، وانعكاس تداعياتها على دول الجوار وأوّلها لبنان، في إطار الصراع الإقليمي والدولي، فإن الشركات العالمية تدرس باهتمام كبير مدى توافر المعطيات التي تؤمّن الاستقرار الأمني والسياسي المطلوب كشرط لدخولها مجال الاستثمار النفطي في لبنان، للحصول على مردود مالي يسهم في زيادة أرباحها، ولاسيّما بعد انسحاب أكثر من 11 شركة نفط عالمية من قطاع النفط السوري، بعد تكبّدها خسائر تزيد على 6.4 مليارات دولار، بسبب استمرار الحرب السورية.
يمكن دراسة هذه التطوّرات بعناية بالغة، مع ما تحمله من سلبيات وإيجابيات، والتركيز على الإيجابيات الكثيرة التي توفّرها مجالات الاستثمار في نفط لبنان، وهي استثمارات واعدة، وخصوصاً أن قيمة النفط والغاز في أعماق البحر بالمياه الإقليمية تُقدَّر، وفق معلومات وزير الطاقة اللبناني السابق جبران باسيل، بـ 1700 مليار دولار، تبلغ حصّة الحكومة منها نحو 40 في المائة بقيمة 680 مليار دولار، مقابل 60 في المئة للشركات بما يعادل 1020 مليار دولار.
الاهتمام الأميركي
يتزايد اهتمام الشركات، ولاسيّما الأميركية منها، بالتطوّرات الإيجابية للاستثمارات الواعدة للنفط في لبنان ومستقبله الاقتصادي، مع ارتفاع وتيرة اهتمام الحكومة الأميركية السياسي والدبلوماسي من أجل تحقيق هذا الهدف من طريق إزالة العقبات امام المستثمرين، ولاسيّما بالنسبة إلى المناطق المتنازَع عليها بين لبنان وإسرائيل. وعلى الرغم من أن لبنان لا يستطيع أن يوقّع اتفاقية تقاسم مع إسرائيل، إلّا أن الشركات العاملة يمكن لها ذلك.
بدأت الدبلوماسية الأميركية بجولات متعدّدة مع المسؤولين في بيروت وتل أبيب، من أجل تحديد المناطق المتنازَع عليها وتخفيض مساحاتها، بعد حلّ معظم المشكلات المتعلّقة بها. وبعد ذلك، استأنف تلك الجولات نائب وزير الخارجية الأميركي لشؤون الطاقة أموس هوشستن، فكثّف زياراته إلى البلدين، وكان آخرها زيارة العاصمة اللبنانية في مطلع نيسان (إبريل) 2014، حيث أبلغ المسؤولين اللبنانيّين، بتقليص المساحة المتنازع عليها من 860 كلم2 إلى 330 كلم2. لكن المسؤولين اللبنانيّين أكّدوا للمبعوث الأميركي بأن لبنان لا يكتفي برسم خط الحدود، لأن مشكلته ليست مع الخط بل مع الموارد، فرسم الخط في ظلّ تفوّق إسرائيل في مجال التنقيب لن يكون لمصلحة لبنان؛ ولذا، فإن المطلوب هو تثبيت الـ 530 كيلومتراً مربعاً التي تمّ تحصليها، والبحث في تقسيم الموارد في المنطقة الباقية.
وبعيداً عن الأوضاع الأمنية والسجال السياسي الدائر حول موضوع النفط والممارسات القانونية وغير القانونية بشأنه، وعلى افتراض أن التنقيب سيبدأ في العام 2015، فإن هناك تحدّيات عدّة تواجه لبنان، ولعلّ أهمّها الخوف من احتمال اندلاع عمليات عسكرية تشمل منصّات التنقيب والاستخراج في عرض البحر. وقد يزداد هذا الاحتمال في سياق تطوّرات الأزمة السورية، وقد يؤدّي إلى مواجهة واسعة مع إسرائيل، الأمر الذي يجعل الشركات العالمية تتردّد في المشاركة في عمليات التنقيب.
لكن هل يمكن أن يحصل ذلك على الرغم من الموقف الأميركي الذي يهدف إلى إبعاد أيّ عمل عسكري لما فيه مصلحة إسرائيل ولبنان معاً، فضلاً عن مصلحة الشركات الأميركية التي سيكون لها دور مهمّ في تحقيق استثمارات واعدة في المنطقة؟
*********
(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق