د.ماري الياس (*)
شكّل اختراع الصورة الفوتوغرافية (الضوئية)، وبعدها الصورة المتحرّكة في السينما والتلفزيون والفيديو، والصورة الرقمية (الديجيتال)، ثورة عالمية على المستويات التكنولوجية والاجتماعية والفكرية. فلم يعد من المنافي للحقيقة القول إن مستوى تطوّر المجتمعات وقوّتها باتا يقاسان اليوم بقدرتها على امتلاك الصورة والتحكّم بها.. وكأن امتلاك الصورة صار بمثابة امتلاك سلطة.
شكّلت الصورة في العقود الأخيرة مكوّناً أساسياً من مكوّنات العالم المعاصر، بحيث بات من المحال الاستغناء عنها، واحتلّت بسرعة متناهية مواقع مهمّة في حياة الفرد وفي حياة المجتمعات. لكن الأهمّ هو أنها غيّرت وجه العالم وشكل إدراكه. فانتشار وسائل الاتصال سمح بتجاوز مختلف أشكال الرقابة وأنواع التمييز كافة، وبدا الأمر وكأن الإنسان ابتكر نوعاً من “ديمقراطية” المعلومة والمعرفة، التي صارت في متناول الجميع؛ فأيّ شخص يمكنه أن يرى ما يريد، وأيّ شخص يحقّ له أن يُصوّر ما يريد. سمحت الصورة برؤية الأماكن والأشياء التي لم يكن بالإمكان الوصول إليها سابقاً. ففي الماضي، كانت الصورة وهي الرسم، مقتصرة على فئة اجتماعية محدّدة (من يمكنه دفع ثمن اللوحة)، وكانت مقتصرة على مجالات محددة أيضاً. أما الموضوعات المصوّرة، فكانت في أغلبها إما تصويراً للطبيعة أو عبارة عن بورتريه شخصي. في حين أن الصورة اليوم، تطال المجالات والفئات الاجتماعية كافة، بحيث صار بالإمكان أن نتكلّم على ثورة أدخلتها الصورة على حياة البشر، كذلك فإن انتشار الصورة عبر التلفزيونات والوسائل الأخرى قلّل من إمكانية الرقابة. لذا بات الناس يشعرون اليوم أنهم أكثر حرية؛ فهل هذا الشعور صحيح فعلياً؟
فيض الصور
نظراً لكثافة تواجد الصورة في مجالات عديدة من حياة الإنسان وأثرها المطّرد على حياته، لا يمكن النظر فعلياً إلى الأمر بهذه البساطة. فإنسان اليوم يعيش في فيض من الصور قد تتجاوز قدراته على تحليلها أو إدراكها إدراكاً صحيحاً. لذلك نجد أنه من الضروري طرح سؤال يتعلّق بمستوى الوعي بهذا الوجود، خصوصاً في مجتمعاتنا العربية. إذ ليس من الصعب ملاحظة مدى التغيير الذي أدخلته الفضائيات العربية على شكل التعامل مع الخبر والمعرفة، كذلك ليس من الصعب ملاحظة نتائج تواجد الصورة على حياتنا اليومية، والذي يتجلّى بشكل واضح في التنميط السائد حالياً في مجالات كثيرة، منها اللباس والسلوك اليومي، وشكل التفكير، وطبيعة التذوّق الجمالي وشكل الحياة الاجتماعية. لقد أصبحت الصورة في متناول الجميع، وكسر هذا الانتشار أسطورة “التصوير” كنتاج لفنّانٍ مبدعٍ حصراً. فبواسطة آلة تباع حتّى في محطات الميترو(وتستعمل لمرّة واحدة كشفرات الحلاقة)، أصبح بإمكان طفل أن يحمل جهاز كاميرا ويصوّر.
هل يتناسب وعي مستهلك الصورة (وعلى الأخصّ المستهلك العربي) مع التغيّرات التي أحدثتها في حياته؟ فنحن، وعلى الرغم من الإيجابيات كلّها التي أدخلتها الصورة على حياتنا ندفع ضريبة هذه الثورة التكنولوجية على مستوى إنسانيتنا. لقد صار كلّ واحد منّا يمتلك وعياً خاصاً ومحدّداً- وغالباً ما يكون منمّطاً- بما يجري في العالم، لا بل يمكننا القول إنه يُفرض علينا في أغلب الأحيان وعياً معيّناً عبر هذه الوسائل. فالإنسان يشعر بأنه يعرف وهو لا يعرف بالضرورة، وتتساوى أحياناً الأحداث الجسام بالأحداث الأقلّ أهمية. الأحداث الكبيرة والخطيرة تقدّم إلينا بشكلٍ موازٍ ومتساوقٍ تماماً مع مشاهد أخرى عادية وأقلّ خطورة. الحروب المصوّرة، التي تُنقل نقلاً حيّاً ومباشراً، تبدو كأيّ لعبة رياضية أو كأيّ برنامج آخر يعتمد مبدأ التشويق. تعوّدنا مشاهد العنف وألفناها؛ ونحن نغيّر المحطة التلفزيونية لأن المشهد لا يعجبنا وكأننا غيّرنا مجرى الأحداث. ويبدو الأمر أكثر تشويقاً وخطورة في الآن ذاته عندما يتعلّق بالطفل المتابع للصورة، والذي لا يميّز بين الحقيقة والخيال، ويقبل بكلّ ما يُقدَّم له، لا بل يصبح هذا الذي يعرض له جزءاً من عالمه اليومي.
الإيحاء بالحقيقي
تبدو عملية استقبال الصورة، في الظاهر، عملية سلسة لا تتطلّب جهداً خاصاً. فالإنسان قد يتعامل معها بخفّة لا تتناسب مع التغيّرات التي قد تدخلها على حياته. فللصورة، ومهما كانت طبيعتها ومجالاتها، تأثير على متلقّيها يمكن أن يوصف بالحاد، أو بالعنيف أحياناً. ويحقّ لنا أن نتساءل ما هو هذا العالم الذي تنقله له الشاشة التي غالباً ما ننسى وجودها؟ هل هو عالم حقيقي وكامل أو أنه عالم افتراضي ومجزأ؟ ما علاقة هذا العالم بالواقع والحقيقة؟
للردّ على هذا التساؤل لا بدّ من البحث في موضوعات أكثر عمقاً مثل: ما هو التغيير الذي أحدثته الصورة في المفاهيم السائدة والمنطلقات المعرفية التي ترتكز عليها حياتنا اليوم؟ هل تحتلّ الصورة اليوم المكانة التي كان يتبوؤها الفكر- الكلمة في الماضي؟
السؤال حول طبيعة تأثير الصورة على متلقّيها هو سؤال مبرّر وضروري، ويرتبط بسؤال آخر لا ينفصل عنه تقنياً: هل هذا التلقّي هو مجرد إدراك حسّي أو أنه يتجاوز ذلك بكثير؟ هل يطرح المتلقّي علاقةَ ما يراه بالواقع والمرجع الذي تنطلق منه وتحيل إليه أو أنه يقبل بما يراه ويصدّق؟. إلى أيّ مدى يتابع مشاهد الصورة ما يراه، ناسياً أو متناسياً وجود الشاشة، التي تشكّل حدّاً فاصلاً بين الواقع والخيال، فيصدّق ما يراه من دون نقاش؟.
ممّا لا شكّ فيه أن الصورة اليوم تشكّل الوسيلة الأهمّ لنقل الحدث الواقعي، لكنها دوما تحاول أن تبدو وكأنها نقلٌ وفيٌّ صادق ومباشر، وهي تتطلّب من متلقّيها تصديقها على أنها حقيقية. في المقابل، هناك كمّ من عمليات التحكّم بالصورة مخفيّ وغير ظاهر، وقد بات واضحاً في الآونة الأخيرة لأيّ مشاهد تابع – ولمّا يزل- الأحداث العنيفة التي نقلت عبر شاشات التلفزيون من خلال المحطات الفضائية، حرب الخليج الأولى، ثم أحداث11 إيلول/ سبتمبر، ثم الحرب على العراق، التي بدت وكأنها “حرب صور”، أن الصورة ليست بريئة، وأن الذي يتحكّم بها يستطيع أن يلعب بها كما يريد، حتى صار بإمكاننا الحديث عن صور دخلت التاريخ.
مع ظهور الصورة الفوتوغرافية الثابتة، ثم الصورة المتحرّكة، بدأت وظيفة الصورة ( بمعناها الواسع) تتغيّر. هذا التغيير بدا واضحاً على الأخصّ، مع التكنولوجيا الهائلة التي رافقت استخدام الصورة وساندتها وسمحت لها بتغيير وجه العالم وشكل إدراكه. فنحن اليوم، وبخاصة بعد تخطّي مرحلة الصورة النقطية واختراع الصورة الرقمية (الديجيتال)، التي تسمح بعمليات تركيبية عالية المهارة، نعيش في عالم من الصور. وقد بدأنا نشهد تحوّلات هائلة في فلسفة المعرفة وفي شكل إدراك العالم، واستتبع ذلك تغييرات عديدة في مجالات فكرية وحياتية لا ندري إلى أيّ مدى يمكن توصيفها توصيفاً موضوعياً بهذه العجالة. غير أننا سنكتفي هنا بفكرتين رئيستين:
أولاً: لم تعد صناعة الصورة موجودة بشكل مستقلّ عن مجالات أخرى، كما في السابق، بل دخلت مجالات الحياة كافة. فقد توصف هذه الصناعة، أي صناعة الصورة، بالإبداع، لكنّه إبداع من نوع آخر، يختلف عمّا كنّا نعرفه في السابق.
ثانياً: حقيقة أن الصورة، وبسبب هذا التداخل مع التكنولوجيا، خدّاعة. إذ إن أيّ مجال يعتمد اليوم فنّ الصورة يقوم على مبدأ الإيهام بأن ما يقدّم على شكل صور هو حقيقي، سواء كان نقلاً مباشراً وحيّاً أم تسجيلاً أم روائياً متخيّلاً.
والصورة اليوم بإمكانيّاتها الهائلة، توحي بالحقيقي إلى أبعد حدّ؛ فهي تنقل فضاءً مادياً حقيقياً وأجساداً حقيقية، وتوحي بمرور الزمن بسهولة كبيرة، وهي، بطبيعتها فنّ يؤثّر في متلقّيه بشكل حسّي انفعالي أكثر منه عقلاني. من ناحية أخرى لا يمكن إنكار قدرة الصورة، لكن لا بدّ من التنبيه لخطورتها، وللقدرات الكبيرة التي تملكها اليوم على تسجيل الحقائق ونقلها. نقول إنها وسيلة نقل “الواقع” أو “الحقيقة” الأجدى، إلا أنها في حالات كثيرة ليست كذلك، فهي غالباً ما تخضع لعمليات تركيب عالية أو أنها تصوّر أشياء ليست حقيقية (الأفلام والمسلسلات والإعلانات التي تعتمد الخيال) وتقدّمها على أنها حقيقية. وهي بذلك تقوم على مبدأ مغاير تماماً لمبدأ الأيقونة في الماضي أو الفنون الأخرى، كالمسرح أو الرسم، لأنها قادرة على الخداع بسهولة أكبر.
ثم إن عمليات الكادراج واللصق والنسخ سمحت باستعادة وتكرار وإعادة استخدام الصورة نفسها في حالات عديدة. وبشكلٍ موازٍ تماماً، سمحت الصورة المتحرّكة بتسجيل الأحداث، ولم تعد الصورة حالة غير متكرّرة وغير قابلة للمعالجة.
من الناحية الفلسفية، خلقت الصورة علاقة جديدة بالزمن؛ فقد سمحت بالتقاط اللحظة، من جهة، بعدما قامت الصورة الفوتوغرافية بتثبيت لحظة معيّنة، ثم قامت، من خلال الصورة المتحرّكة بتسجيل الامتداد الزمني وعبّرت عنه بسهولة كبيرة. وصار بالإمكان العودة للوراء. ولكن الأهمّ من ذلك كلّه هو التحوّل الذي طرأ على إدراكنا لمفهوم الزمن (بمعناه المجرد) من خلال قدرة الصورة على استعادة الماضي وموضعته في الحاضر والرجوع إلى الوراء. وتبدو الصورة المستعادة كأنها إشارة إلى ظلّ الواقع، بالمعنى الأفلاطوني؛ ومن هنا فإن الواقع بحدّ ذاته قد يبدو ظلاً هو الآخر لحقيقة أبعد.
في الحقيقة غالباً ما يغيب الوعي بأن ما تحمله الصورة مفبرك، وأن الرسالة التي تريد إيصالها إنما هي رسالة مركّبة إلى أبعد حدّ. كما يغيب أيضاً أن الصورة في أحيان كثيرة ما هي إلا منتج استهلاكي موجّه إلى مستهلك ليستهلكه. ومع أن المتلقّي (المستهلك)، الذي يقف وحيداً في مواجهة الصورة بعيداً عن منتجها، يبدو وكأنه حرّ في كيفية التعامل معها، إلا أنه، في أحيان كثيرة، يكون مجرّداً من إمكانية التعامل معها تعاملاً نقدياً فكرياً.
*********
(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق
(*) أستاذة جامعية وناقدة مسرحية – سوريا*