استحقاقات عراقية حارقة

بقلم: الباحث خالد غزال

على رغم أن ما ظهر من مسار الأحداث العراقية الدامية أخيراً لا يعطي مؤشراً كاملاً حول مستقبل العراق، إلا أن ما بدا يكفي للمغامرة بالقول ان هذا البلد دخل نفق الانقسام khaled-ghazalوالتقسيم المجتمعي والجغرافي، وأن الفوضى الكيانية تبدو السمة التي ستحكم مساره الى أمد غير منظور. وكما شكل الاحتلال الاميركي – الغربي للعراق عام 2003 ومعه إسقاط نظام صدام حسين، منعطفاً في مسار البلد، فإن «الانتفاضة» الجارية اليوم تشكل الوجه الآخر لمسار سياسي ومذهبي امتد عقداً من الزمن.
كان العراق موحداً في عهد البعث بقوة الديكتاتورية وليس بالتوافق الاجتماعي بين مجموعاته السياسية والإثنية. مارس الحكم السابق تمييزاً طائفياً وقهراً للمجموعات الطائفية التي تشكل العراق. وعلى رغم الادعاءات القومية للحكم السابق والعلمانية المبتذلة التي اعتمدها، فإن سياسة إقصائية واستئصالية جرى تطبيقها من أقلية حكمت البلاد بالحديد والنار. حطم الاحتلال الاميركي التركيبة السابقة، لكنه، وخلافاً لادعاءات إقامة حكم ديموقراطي في العراق، نصّب منظومة مذهبية مكان السابقة، وحطّم مكونات السلطة البعثية، فبات البلد في قبضة المذهبية الشيعية.

شكلت السنوات السابقة مختبراً لممارسة المذهبية الطائفية للسلطة، فلم تكن أقل إقصائية واستئصالية من المذهبية السابقة، حيث اعتمدت وجهة «تشييع البلد»، وتصرفت بمنطق الثأر، ليس عن سنوات حكم البعث، بل عن الصراع القديم المستمر. اذا كان البعث والتركيبة السنية السابقة مارسا التمييز الطائفي تحت غطاء القومية والعروبة، فإن ممارسة الحكام الجدد كانت طائفية مذهبية عارية، في كل الميادين العسكرية والسياسية والإدارية، مستلهمة النموذج الإيراني في الحكم.

كان العراق يحفر عميقاً خلال العقد الماضي في تراكم الأحقاد والكراهية بين مجموعاته، وكان انفلات العنف والعنف المضاد قانوناً يحكم قواه المتعددة هنا وهناك. وكان الفشل المتمادي لسياسة نوري المالكي يؤسس ويراكم عناصر التمرد الذي كان واضحاً لكل مراقب أن ناره قادمة. هكذا رسم الاهتراء الداخلي وانقسام المجتمع والإمعان في القمع والعجز عن اقامة توافق سياسي حول السلطة، معالم المستقبل، بما جعل التقسيم الجغرافي نتيجة منطقية وتكريساً للانقسام الداخلي وتمزيق النسيج الاجتماعي للعراق.IRAQ-UNREST

اذا كانت الاحداث العراقية قد وضعت تنظيماً إسلامياً متطرفاً في واجهة المعارك التي تخوضها قوى فعلية عسكرية وسياسية بعضها ينتمي الى النظام السابق وبعضها الآخر من العشائر السنية التي اضطهدها النظام الحالي، إلا أن هذه الواجهة يجب ألا تغفل حقيقة أو حجم المشروع الجديد لقوى المعارضة، التي بات من الواضح انها تهدف الى إسقاط حكم المالكي ومعه الهيمنة الطائفية القائمة في حد أدنى، او الى تقسيم العراق بين مجموعاته الطائفية وتكريس جغرافيا جديدة في البلاد. لعل مجريات الأحداث من قبيل انهيار الجيش العراقي او تسليم مواقعه ما يشي بحجم التطورات الكبيرة المنتظرة، والتي لا تفيد فيها تصريحات المالكي عن مؤامرة وخيانة وغيرها من الأوصاف. هذا على الصعيد الداخلي، أما على الصعيد الخارجي، فإن الموقف الإيراني هو الأشد تأثراً بما يحصل. تصرفت ايران منذ الاحتلال الأميركي على ان العراق امتداد لإيران وقد بات عملياً تحت وصايتها، وهي حقيقة لم تكن غائبة، تمثلت في بناء السلطة التي كان لإيران اليد الطولى فيها. لا تخفي ايران استعدادها للتدخل العسكري لإعادة الامور الى ما كانت عليه، وهو مركب سيدخلها في رمال الحرب الأهلية بكلفة كبيرة لا تقاس بما تدفعه في سورية. اما الولايات المتحدة الاميركية، صاحبة فضل أساسي في تفجير بنية العراق، فلا يبدو انها فوجئت بما حصل، لكنها أعلنت صراحة عن عدم استعدادها للتدخل لإنقاذ نظام المالكي، من دون ان تنفي إمكان التنسيق مع ايران في شأن المواقف الممكن اللجوء اليها عسكرياً وسياسياً، مع دعوتها المالكي الى وجوب الوصول الى تسوية سياسية.

تقف القوى العراقية اليوم، كل على سلاحها. يكلل الشحن الطائفي والمذهبي شعارات المرحلة. يعلن السيد علي السيستاني الدعوة الى الجهاد المقدس ضد «غزوة السنّة»، وهو الذي افتى عام 2003 بعدم التصدي للاحتلال الأميركي، ويمتطي عمار الحكيم لباس الحرب ويدعو الى المنازلة، وهو الذي اتى على الدبابات الأميركية خلال الاحتلال. في المقابل، يعلن مفتي العراق السنّي ان ما يحصل هو انتفاضة الطائفة السنية على التسلط الشيعي المتمادي منذ عشر سنوات. تحتشد القوى المتطوعة من هنا وهناك لحرب عنوانها ضرب القوى الإرهابية من جانب جيش المالكي، واستعادة السلطة ووضع حد للاضطهاد من جانب التحالف السنّي.

قبل خمسة عشر قرناً، شكل العراق ذروة التقاتل المذهبي بين الشيعة والسنّة زمن قتال الحسين ويزيد. بقيت نار الكراهية تعتمل طوال هذا الزمن، ينفخ فيها كل طرف ويؤججها خدمة لمصالحه، في سياق الصراع على السلطة. قد يكون ما نراه اليوم ليس سوى «رأس جبل الجليد» في الصراع الراهن المقبل، أما وقود هذا الصراع فهو العراق شعباً ومجتمعاً وأرضاً وتاريخاً وتراثاً…

اترك رد