روايات سورية بعد سنوات من الزلزال (*)

بقلم: د. نبيل سليمان (*)

nabel-sulaimanروايات عربية كثيرة ظهرت عن حروب عربية مختلفة، فيما هذه الحروب لا تزال في أولها، أي من دون انتظار انطفاء الأتون، أو اكتمال الحدث والمرحلة، واختمار التجربة، وما شابه هذه الأفخاخ النقدية والصحافية. فماذا عن الروايات السورية والحرب في السنوات الثلاث الماضيات؟

سوف أتحدث عن ثلاث مخطوطات روائية مجبولة بالزلزلة السورية، ممّا أتيح لي أن أطّلع عليها، وأكاد أجزم أنها سوف تظهر جميعاً في النصف الثاني من هذا العام. وقد أبدو في هذا الصنيع عجلان، وأستبق الأمور، لكني آمل أن يكون لي شفيع في ما سأجلو ممّا انطوت عليه هذه المخطوطات من خطاب فنّي حار، بل مدمى، تتضاعف ضرورته في هذا المآل التدميري الذي آلت إليه سوريا، على أي مستوى شئت، وأنّى أدرت وجهك، أو قلبت بصرك، أو كتبت، أو قرأت.

الذين مسّهم السحر

هذا هو عنوان مخطوطة رواية لروزا ياسين حسن. وتحت العنوان الرئيس ثمة عنوان فرعي هو “من شظايا سوريا 2011–2012″.

Rosa-Yaseen-Hasan

روزا ياسين حسن

يؤشر العنوان الفرعي إلى ما اختارت الكاتبة من أفانين العمارة– وهي مهندسة في العمارة–لروايتها. فعدا عن تقنية العمارة والحيّ، هو ذا الاختيار الرائج في الروايات التي تشتغل على الحروب أو الثورات: “تقنية التشظية” التي تيسّر للكتابة أن تترامى أنَّى شاءت في الزمان والمكان، وأن تقدّم حدثاً بكامله ونتفاً من سواه، وأن تقدّم لمحة من شخصية، أو لمحات، لما تيسّر التشظية للمخيّلة أن تضاعف تحرّرها في اللعب، وأن تستثمر ما شاءت من الصحف أو الأخبار أو التغريدات أو أي متناصّات. وهنا أذكّر مرّة أخرى برواية غادة السمان “كوابيس بيروت”. فتقنية الكوبسة هي توأم تقنية التشظية، إن لم أقل إنهما واحد في اسمين– اثنين.

أما العنوان الرئيس لمخطوطة روزا ياسين حسن، فيشير إلى المنظور الذي ظهر منه العالم الروائي. فكما يلي في الرواية، لحظة الثورة هي لحظة سحرية، والسحر مسّ الجميع في سوريا، موالين ومعارضين. ولكن أي سحر هو هذا؟ هل هو سحر الأيديولوجيا التي تعصف بالجميع؟ هل هو سحر الطائفية مثلاً؟ هل هو سحر العسكرة؟ هل هو سحر السياسة؟

من سوء الحظ، وربما من حسنه، أن كل ذلك ليس سحراً، بل هو واقع، هو بشر ومدن وقرى ومظاهرات ومعارك وتشريد وتدمير واعتقالات وخيانات وخطف وتجارة سلاح وأحزاب …إلى آخر ما تسعى الرواية سعياً حثيثاً إلى الإحاطة به في مئات الصفحات، ليوجهها السؤال الفنّي الحارق عمّا بين الانتخاب والاختيار، وبين الإحاطة، وكذلك هو السؤال عمّا بين التوثيق الروائي ومختلف أدوات وأشكال التوثيق الأخرى في التاريخ أو الأرشيف أو اليوتيوب أو…..

للتوثيق غوايته، التي قد تميل أو تجنح بالروايات التي تشتغل على الحروب والثورات. وغواية التوثيق لروزا ياسين حسن مضاعفة، فقد سبق لها وسمّت كتابها ” نيجاتيف” بـ “رواية وثائقية”، وهو مجموعة من السرود الموثقة عن تجارب مريرة لسوريات في السجن السياسي أواخر القرن الماضي. ولكن إلى أيّ مدى يصح القول بالرواية الوثائقية على غرار الفيلم الوثائقي؟

لقد أعلنت “الذين مسهم السحر” التوثيق كمهمّة وهدف رئيسين، ومن أجل ذلك جاءت شخصية ريما الفنانة التشكيلية التي توثّق ما ترى وما تسمع من يوميات الزلزال السوري. وإلى ظلّ الكاتبة في “ريما” حملت شخصية فراس عبء التوثيق في الكاميرا. وهكذا، ومن دفاتر ريما، ومن صور فراس، وممّا يبقى لغيرهما من فسحات القول، تمور المخطوطة بالتفجيرات والحواجز والإصابات والجثث والحوارات والاصطفافات والخصومات الأسرية والصداقوية والسياسية، ويعتور ذلك ما يعتوره جراء الحرص على قول كل شيء، وجراء “السحر” أيضاً، وأولاً.

قميص الليل

هذا هو عنوان مخطوطة رواية سوسن جميل حسن. وقد افتتح الرواية واختتمها قول الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز “إن فشل الثورات سيشعل صيرورة ثورية من جديد”. وإذا كانت هذه الفاتحة– الخاتمة تعلن رأي الرواية في فشل “الثورة السورية”، فراويتها حياة تقفلها متمتمةً بعبارة– شعار: “الثورة مستمرة”. وعلى الرغم من أن فضاء الرواية تركّز في مدينة الكاتبة (اللاذقية)، فقد ناوشت الروايةَ غوايةُ أن ترمح في الفضاء السوري اللاهب، كأنّما صعب عليها أن تبقى حبيسة اللاذقية، كما عزّ على رواية “الذين مسّهم السحر” أن تبقى حبيسة حيّ جرمانا من دمشق، أو حبيسة دمشق. غير أن “قميص الليل” اكتفت من الغواية بقدر. ومن أجل ذلك نسجت العلائق بين راويتها حياة وزوجها حمدي السجين السابق اليساري المعارض، كي تنفتح على مدينة حماة كوة الرواية، حيث تظهر أيضاً وداد، شقيقة حمدي المتعصبة والطائفية، وهي “السنية” مقابل حياة “العلوية”. ولم تنسَ الرواية أن تفتح كوّة على مدينة حلب عبر الطالب الجامعي نوّار، ابن حمدي وحياة والمشبوح بين الطائفتين. ولم تنسَ الرواية أن تفتح كوّة على حمص، لتنسرب من حكايات تنضاف إلى ما ينسرب من حكايات حماة وحلب.

sawsan

سوسن جميل حسن

إذا كانت “قميص الليل” تتركّز في اللاذقية، وهي ترمح من حيّ إلى حيّ، فقد تركّزت أيضاً في أسرة حياة. فعدا عنها وعن ابنها (حلب) وزوجها (حماة) ثمّة أخوها المريض النفسي. وإلى تقنيتيْ المدينة والأسرة، لعبت الرواية لعبة النكبات على المكشوف، أي أمام القارئ. فحياة لا تفتأ تتحدث عن كتابتها لرواية عمّن أسندت له بطولة قميص الليل، وهو (جيغا) أسطورة حيّ الخرنوبة في لحظة موته، حيث يدوّم السؤال عن دفن هذا الذي لا تعرف طائفته ولا ديانته. وإذا كانت “قميص الليل” تتألق في أسطرتها لشخصية (جيغا)، فليس يخفى الإلحاح على تعرية الطائفية ونقضها عبر هذه الشخصية، كما في حوارات وسجلات عديدة، ليظهر التاريخ المحفور على الوجوه: تاريخ التعصب والمذهبية والأنانية وكره الآخر.

تتوقف رواية “الذين مسّهم السحر” في نهاية العام 2012، بينما تمضي رواية ” قميص الليل” إلى نهاية العام 2013، مثل رواية خليل صويلح “جنة البرابرة” كما سنرى. وقد أتاح ذلك لرواية سوسن جميل حسن أن تتقرّى فيما شهد ريف اللاذقية الشمالي من قتل وخطف وحرائق وتهجير ونهب تحت شعارات مضلّلة ومدمرة. وفي هذا السياق تصوّر الرواية كيف صارت جدران اللاذقية فسيفساء بأوراق النعي، كما أعمدة الكهرباء وحيطان المدارس. ولا تنسى الرواية من لا يجرؤون على نعي أبنائهم ولا على كتابة كلمة شهيد، لأن الأبناء التحقوا بالمقاتلين في الجبال.

تتساءل حياة بعد ثلاث سنوات من الزلزلة السورية: أين هي الثورة؟ وتتساءل عمّن قال بأن الأمهات راغبات بهذا النوع من الثورات المبنيّة على العسكرة. وحياة تختلف حدّ التناقض مع ريما في رواية ” الذين مسّهم السحر” حيث يجهر غالباً تمجيد الكفاح المسلح، كيلا أقول الحرب أو العسكرة، فأين هي رواية خليل صويلح من ذلك؟

جنّة البرابرة

هذا هو عنوان مخطوطة خليل صويلح، وهو العنوان الذي يتصادى مع رواية كويتزي ” في انتظار البرابرة”، ومنها اقتطف صويلح ما يخاطب الحالة السورية:

khalil

خليل صويلح

((هناك جريمة لا تحتمل)). كما أسسّت المخطوطة لعنوانها في فقرتها المؤرخة في 1/7/2013 وهي أقوال مأثورة في البرابرة، تتتوّج بإعلان دلالة العنوان:(( دمشق هي اليوم جنة البرابرة والأرض الخراب)).

تتبدّى السيرية في رواية خليل صويلح بجلاء وقوة، بينما تظل مواربة في رواية روزا ياسين حسن. وقد تصدّرت رواية صويلح بإلحاح رواية ساراماغو “العمى” عليه، ليعلن أنه – صويلح – لا يعتقد أننا أصبنا بالعمى، بل نحن عميان من البداية. والمخطوطة مبنيّة من فقرات لكلّ منها تاريخها، منذ بداية الزلزال السوري حتى 9/12/2013، وبما يغطّي ألف يوم ممّا تسمّيه: الثورة/ الجحيم/ الحرب/ الحراك/ المستنقع/ سجادة الظلام……

وتنهض المخطوطة بالاشتباك الفنّي مع ابن خلدون وابن عساكر، وبخاصة مع المؤرخ الدمشقي الشعبي: البديري الحلاق. وإلى هؤلاء سيحضر المعرّي في المواجهة الروائية مع الظلاميين والإرهابيين المتدرعين بالإسلام. ولا توفّر هذه المواجهة النظام، لتكتمل “الدياسبورا السورية” والوليمة السورية التي ترادفها الرواية بوليمة القتل ووليمة العظام، فإذا بالموت بضاعة سورية في أكبر مزاد للقتل. وقد تلفّعت هذه المأساوية المريعة بالهجاء الروائي، أو بالسخرية الروائية التي لا توفّر أحداً، ممّن يرغب بالزواج العرفي من الثورة، أو ممّن يفضل زواج المتعة منها، إلى من حوّل الثورة إلى أيقونة مقدسة، إلى دائرة نفوس الثورة التي ضاقت بأسماء الكتائب المسلحة المقاتلة ضدّ النظام، والتي لا تحتاج– بحسب الرواية– إلى مؤرخ مثل الطبري، بل يكفيها بثّ شريطٍ مصوّر لمذبحة صغيرة في قرية نائية، كي يجد مقاتلوها من يموّلهم للقيام بعمليات أكثر بطشاً.

ربما تلتقي المخطوطات الثلاث، ومثلها ما قد يغامر من الرواية في كتابة الزلزلة السورية، بالقول بأولوية الواقع الأغنى أو الأغرب أو الأكبر من كلّ خيال. ويمكن للمرء أن يؤشّر بقوة إلى ما في المخطوطات من سيرية أو تشغيل للحبر أو تعرية للطائفية أو العسكرة أو الديكتاتورية. وإذا كان في هذه المخطوطات ما يكبر به الوعد الروائي، فلا ريب في أن الوعد سيكبر في المجهول من مخطوطات تنكتب أو تنتظر النشر، وبخاصة ما قد يكون منها لأصوات جديدة وشابة.

******

(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق

(*) روائي وناقد- سوريا

اترك رد