بقلم: الأديب جورج جرداق
على أثر ما استجدّ من تحركات في الجو “السياسي” بالأسبوعين الأخيرين، وما تلاها من انفعالات وتأويلات. وعلى اثر التعليقات التي يجود بها المعلقون “السياسيون” في بعض الصحف وفي كل وسائل الإعلام حول ما يجري وما يستجد من أحوال ومفاجآت، دار الحديث في أحد المجالس على “المواقف” التي يتخذها كثير من الصحافيين الذين يُعنون بـ “السياسة” وبالتجار والمستنفعين الذين يشتغلون في القضايا العامة، فاختلف المتحدثون لاختلاف “مبادئهم” ووفق جهلهم بالموضوعات التي يعالجونها، وكان اشدّهم نفاقاً اكثرهم كلاماً، واشدهم غباءً ارفعهم صوتاً.
وشردت طويلاً عن القوم ورحتُ أتأمل حماراً رأيته من خلال شباك إلى جانبي، وفكرتُ في أن أمضي إليه فأحادثه وأؤاخيه وأعرف رأيه في مختلف الشؤون والقضايا، وأسأله عما إذا كان يرغب في أن يكتب عني تعليقاتي الإعلامية في الموضوعات “السياسية”.
ولكن القوم، ومعظمهم من أهل الوجاهة وأكل أموال اليتامى، اغتالوا هذا الشرود السعيد الذي أعيشه في المجالس التي يكون فيها ناس لا يعلمون ولا يعملون… بل يتكلمون، ولاموني على صمتي الطويل، وألحوا عليّ في أن أقول رأيي في الآراء والتعليقات التي يجود بها كثير من الصحافيين الذين يحترفون الكتابة في “السياسة” وأحوالها دون سواها.
ولما كنت أتضايق من الإلحاح وأحاول الخروج من جوّه بأي ثمن، فقد أجبتهم إلى ما طلبوه مني، وفكري ونظري لا يزالان عند الحمار الطيب الفهيم من خلال الشباك، وقلت:
– سأروي لكم خبراً يعود تاريخه الى شهر ايار من السنة 1815، وفيه كل رأيي في “المبادئ” و”المواقف” التي تحدثتم عنها طويلاً في أثناء غيابي عنكم في هذه الجلسة الممتعة، فاسمعوا واعجبوا:
بالتدرُّج
في اليوم التاسع من شهر أيار في العام 1815، فرّ نابوليون بونابرت من منفاه بجزيرة “ألبا” الإيطالية حيث احتجزته الدول الأوروبية جمعاء على أثر معركة واترلو الشهيرة، ودخل الأرض الفرنسية وشرع يزحف شمالاً في اتجاه باريس على رأس طائفة من جيشه القديم ومن انصاره.
وبين التاسع والرابع والعشرين من هذا الشهر نشرت جريدة الـ “مونيتور” الباريسية ما يلي، موزعاً على الأيام التالية بالترتيب:
– 9 أيار: فرّ الوحش من منفاه.
– 10 أيار: نزل الوحش عند رأس “جوان”.
– 11 أيار: ظهر الوحش في “جاب”. ولكن الجنود البواسل يتقدمون في اتجاه الموقع المذكور من كل جانب لوقف مسيرته وإفشال مسعاه. وسوف ينهي الوحش مغامرته الرعناء بالهزيمة والتشرّد في الجبال الموحشة والغابات الكثيفة… كما يليق بالوحوش.
– 12 أيار: تقدّم الطاغية وبلغ مدينة “غرينوبل”. ولكنه سيمنى هنالك بالهزيمة على أيدي مناويئه الأبطال.
– 13 أيار: وصل الطاغية إلى مدينة “ليون” فتنادى المواطنون لقتاله ودحره وتخليص الوطن نهائياً من شروره.
– 14 أيار: لا يزال الطاغية يتقدم، وقد اخذ الرعب يدب في أوصال اوروبا بأسرها. ولكن ملوك أوروبا جميعاً قد استنفروا قواتهم للقضاء على الغاشم. إن نهاية الغاشم باتت قريبة.
– 15 أيار: اجترأ الغاصب الغاشم على الظهور أمام المواطنين.
– 18 أيار: إن الغاصب يدنو من العاصمة التي أصبح على مسيرة أيام قلائل منها.
وهكذا اخذت القابه في هذه الجريدة تتدرّج تبعاً للمسافة التي تقارب بينه وبين الانتصار، وهي تسعة أيام فقط، من الوحش، إلى الطاغية، إلى الغاشم، إلى الغاصب… ثم:
– 19 أيار: يزحف نابوليون في سرعة نحو باريس ولا نعلم متى يدركها.
– 20 أيار: قد يبلغ نابوليون بونابرت ضواحي باريس بعد غد.
– 22 أيار: دخل الامبراطور بونابرت ضاحيةٍ “فونتين بلو”.
– 23 أيار: مساء أمس دخل باريس الامبراطور المعظم بونابرت واستقر في قصر “التويليري”، ولا نستطيع وصف فرحة الشعب بعودة بطله المظفر إليه.
– 24 أيار: الشعب بأسره يبايع جلالة الامبراطور بونابرت الذي حقق أماني الأمة بعودته المظفّرة. إننا نهنىء الوطن بهذا النصر العظيم، و ليخسأ أولئك المتآمرون على بطل اوروبا والمعالم الداعون الى الجهاد ضدّه!؟
وهنا قلت للوجهاء في هذا المجلس: إلا تجدون في كثير من الصحف ووسائل الإعلام في معظم بلدان العالم الثالث صورة طبق الأصل عن جريدة الـ “مونيتور” هذه؟
وعدت أنظر من الشباك إلى صديقي الحمار!