بقلم: إيرينا بوكوفا (المديرة العامة لليونسكو)
إن تدمير فندق كارلتون – القلعة، الواقع في مدينة حلب القديمة المندرجة ضمن مواقع التراث العالمي، يدل إلى تفاقم حدة أعمال العنف في سوريا مجدداً. فبعد فترة استمرت أكثر من ثلاث سنوات وشهدت مظاهر هائلة من المعاناة الإنسانية، تجري هناك مأساة ثقافية سيكون من شأنها محو ذاكرة شعب بأكمله. وسوف تتواصل مظاهر المعاناة هذه لفترة طويلة في المجتمع السوري الذي أصابه التفكك، مما سيؤجج مشاعر الكراهية والرغبة في الانتقام، وهو الأمر الذي سيفضي إلى القضاء نهائياً على كل أمل في استعادة السلام.
لا يغيب عن الأذهان أن حماية التراث الثقافي، المادي وغير المادي، إنما لا تفرق عن حماية الأرواح البشرية، فالأمر يقتضي حماية هذا التراث اليوم كشرط أساسي للمصالحة في الغد. وهنا تكمن الفكرة الأساس لاتفاق لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حال نزاع مسلح، وهو الاتفاق الذي اعتمد منذ 60 عاماً عقب الدمار الذي لحق بمدن عدة من بينها برلين وروتردام والهافر ووارسو أثناء الحرب العالمية الثانية. وبعد مرور 60 عاماً، بقي هذا المبدأ كما هو بلا تغيير.
أما الحرب فقد تغيّر شكلها، ومن ثم ينبغي لنا التكيف تبعاً لذلك. فالحرب تستهدف أكثر فأكثر المدنيين والمدارس والصحافيين والمباني الثقافية في شكل مباشر. وينطبق الأمر بعينه في كل مكان، سواء في جنوب أوروبا أو في أفغانستان أو في العراق أو في ليبيا أو في مالي: فقد اُحرقت مكتبات ودُمرت مواقع ثقافية، بغرض إضعاف التماسك الاجتماعي والنيل من معنويات الخصم. كما دُمرت تماثيل بوذا في باميان وأضرحة في مالي، وذلك للأسباب نفسها المتمثلة في الاعتداء على الهويات وتأجيج تصاعد أعمال العنف، فضلاً عن فرض نظام للقيم عبر بث الرعب والإرهاب.
أُتخذت تدابير قانونية عديدة، ترمي إلى حماية الثقافة والمدنيين أسفرت عن نتائج متفاوتة. ومن هذه التدابير اتفاق جنيف (لعام 1949)، واتفاق لاهاي (لعام 1954)، فضلاً عن سائر اتفاقات الأونيسكو الثقافية الخاصة بحماية التراث العالمي (1972) أو لمكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية (1970). أما نظام روما الأساس للمحكمة الجنائية الدولية فإنه ينص على أن الاعتداءات عن قصد التي تلحق بالمباني الدينية أو الثقافية أو التاريخية تشكل جرائم حرب، شأنها في ذلك شأن الاعتداءات التي تتعرض لها المستشفيات. وفي ما يتعلق بالتدابير التي اتخذها أخيرا مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، في ما يخص مالي وسوريا، فإنها تنحو هذا المنحى بعينه وتدل الى تبني وجهة نظر لا رجعة عنها.
إن هذا التطور هو أمر إيجابي على رغم أنه لا يتميز بكثير من الفعالية، إذ أن بعض دقائق تكفي لتدمير تراث ثقافي ألفي. فأمراء الحرب لا يبالون بالاتفاقات، ومن ثم علينا أن نتكيف مع هذه الوقائع الجديدة التي تتسم بها الحروب الحديثة.
وعلى رغم أنه ليست هناك حلول جاهزة، فإن في مقدورنا أن نعمل في اتجاهات كثيرة. أولها أن ندعم الدول التي تتولى بشكل أساسي مسؤولية حماية التراث الواقع في نطاقها، وذلك عبر توعية وتدريب الجنود والقوات المسلحة والمواطنين الذين يتولون حماية التراث في نهاية المطاف. ثم إن الأمر يقتضي تنفيذ القوانين الوطنية الكفيلة بحماية هذا التراث. وتتقاسم الأونيسكو ما لديها من المعلومات والإحداثيات الجغرافية للمواقع المحمية، وتقوم بتحذير الجمارك وأجهزة الشرطة في البلدان المجاورة من مخاطر الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية، مع التذكير بالتزامات الدول الأطراف.
يقتضي القيام بهذا العمل توفير الموارد والخبراء، كما أنه ينبغي أن يبدأ في أوقات السِلم، من خلال تقاسم الممارسات الجيدة، واتخاذ إجراءات الحماية الوقائية. أما إنشاء قوائم جرد كاملة فقد تبين أنه أمر يتسم بالفعالية في ما يخص استعادة الممتلكات المسروقة. ويحتاج الجنود إلى معلومات واضحة ومباشرة: فإصدار “جواز سفر خاص بالتراث”، الذي وزعت الأونيسكو 8000 نسخة منه على القوات المشاركة في الأعمال الحربية في مالي، إنما يُعتبر إجراءً من الإجراءات الفعالة. وهذا مثال ناجح، ولكن غالباً ما يتم إهمال التراث بسبب قلة الموارد أو غياب الإرادة السياسية.
جدير بالذكر أنه، في هذا السياق، يمثل إصلاح المواقع التي دُمرت أمراً أساسياً. أما أنشطة الأونيسكو التي أفضت إلى ترميم جسر موستار التاريخي في البوسنة والهرسك، أو إلى إعادة بناء الأضرحة التي تمت أخيرا في مدينة تمبكتو، في مالي، فإنها تبين إلى أي مدى يتيح إصلاح التراث الثقافي لمجتمع برمته إعادة بنائه. والثقافة بطبيعة الحال لا تكفي لإحلال السلام؛ ولكن إن غابت الثقافة، فلن يدوم السلام.
ويتعين علينا أيضاً أن نقيم تحالفات أقوى رسوخاً من أجل إنقاذ التراث، من شأنها أن تضم شركاء من القطاع العام والقطاع الخاص ومن المنظمات غير الحكومية، فضلاً عن المنظمات الدولية. فالانتهاكات التي تنال من الممتلكات الثقافية، لأي شعب من الشعوب، إنما هي انتهاكات تلحق بالتراث الثقافي للإنسانية جمعاء؛ ومن ثم يجب علينا جميعاً أن نحمي كل أشكال التراث أينما وُجدت. غير أن ذلك يقتضي التزاماً أكثر قوة مما هو عليه الحال اليوم، وذلك هو ما ينبغي للدول أن تقوم به على وجه الخصوص.
إن ما يجب علينا القيام به بصفة خاصة إنما يتمثل في دمج حماية التراث بشكل أفضل في عمليات الطوارئ، حيث غالباً ما يتم تأجيل القيام بذلك حتى لا يتبقى ما يمكن إنقاذه. وثمة حجة مموّهة مفادها أنه يجب “الاختيار” بين الأرواح البشرية والتراث. وهذه حجة زائفة لا تعدو كونها ذريعة لمن لا يريد أن يفعل شيئاً. إن حماية التراث إنما تتمثل أيضاً في حماية الأرواح البشرية وإعطاء الناس الأمل في مستقبل أفضل. إن ذلك هو ما فعله سكان مدينة تمبكتو عندما أعادوا 300 ألف مخطوطة إلى مدينة باماكو، معرضين بذلك حياتهم للخطر، وذلك أثناء فترة الاحتلال. وذلك إنما يُعبر أيضاً عن رسالة كل هؤلاء، نساءً أو رجالاً، الذين يواصلون النضال حتى اليوم من أجل إنقاذ ثقافة شعوبهم أثناء النزاعات وفي أوضاع خطيرة كل الخطورة.
إنها الرسالة التي يتوجه بها إلينا السوريون الذين يذكروننا، وهم يعانون من قصف القنابل، بضرورة إنقاذ تراثهم. إن هؤلاء يذكروننا بما قاله سيغموند فرويد في رسالته إلى ألبرت أينشتاين، التي نُشرت في العام 1933 بينما بدأ النازيون في حرق الكتب، وجاء فيها: “إن كل ما يعمل على إحياء الثقافة يعمل في الوقت نفسه ضد الحرب”.