أنطوان الدويهي في “غريقة بحيرة مورَيه” احتفال بالموت في طقوس الماء (*)

بقلم: الشاعر والأديب قزحيا ساسين

قد تكون الفنون كافة، بما فيها الأدب، متأثّرة بذاكرة الإنسان المبدع، غير أنّ الرواية تبدو، بدرجة أولى، مدينة بولادتها لذاكرة الروائي. سواء في تبنّيها ماضيًا لا يزال يمدّ يده kozhaya-1بوقاحة إلى الغد ليصيّره جزءًا منه، أو في محاولتها صناعة مستقبل مختلف، يوحي بتبرّئه من الماضي، إلاّ أنّه مبنيّ عليه.
في جديده الروائي “غريقة بحيرة مورَيه”، يغوص أنطوان الدويهي في عمق ذاكرته.

يهرب الشاعر والروائي أنطوان دويهي في روائيته “غريقة بحيرة مورَيه”، إلى الغرب حيث احتمال ولادة جديدة، غير أنّ ذاكرته تسبق أشياءه الصغرى إلى حقيبة السفر. فالغرب حلّ لشرقيّ، أو للبنانيّ، تحديدًا، حين يولَد فيه، فينشأ ويعبر العمر بذاكرة واحدة، تنجّيه من ألم المقارنة، وتخلّصه من عناء التأرجح بين ضفّتي نهر هو الحياة نفسها. الحياة التي تتقمّص الصيّاد الغريب، الذي تسقط كلّ ضحاياه خلفه، فهو أبدًا ينظر إلى الأمام، إلى ضحايا لم تكن من قبل. أمّا مَن يترك لبنان مزيّنًا جناحَي الطائرة بأحلامه، فماذا ستهبه فرنسا سوى ذاكرة ثانية؟! ذاكرة موصولة بالذاكرة الأولى، التي قد لا تموت بموت الإنسان. ذاكرة تجود على آلام الذاكرة الأولى بأعمال طويلة، فيمسي صاحب الذاكرتين ذا صليب ينمو على كتفيه وذا جروح تتناسل بخصوبة لافتة ولا تبلغ سنّ اليأس.

dwaihi

د. أنطوان دويهي

في “غريقة بحيرة مورَيه” صنع أنطوان الدويهي الكثير من الماء ليذوّب فيه الكثير من الموت. ربّما لأنّ الماء خبير في صناعة الحياة قد يكون أكثر اتّساعًا للموت. فمن أين أتى الدويهي بكلّ هذا الموت؟! لقد استعان بحفّاري قبور كثيرين، يقيمون في ذاكرته، ليوضّب مشاهد الموت اللبناني الهائل، ويمدّه على الورق بين السواد والبياض. رجع إلى الحرب اللبنانيّة ليؤرّخ بعضًا من موتها الكثير على أمانة وأناقة لغة. وفتح توابيت العشيرة، وغمس إصبعه عميقًا في جرحها الأمّيّ… ومضى إلى الغرب ليجد الموت هناك أيضًا. وجده في أماكن كثيرة، لاسيّما في مقبرة مائيّة عملاقة تدعى: “بحيرة مُورَيه”… الموت، على اختلاف أسبابه، قاسم مشترك بين لبنان وفرنسا، بين الشرق والغرب.
إلاّ أنّ الموت الدويهيّ ليس بالموت الهشّ. الموت الذي يعني نهاية الحياة. إنّه هدف الرغبة، القادر على تتويج الحبّ بنهاية سعيدة مفجعة. ولو أنّه في مواضع كثيرة من الرواية ليس كذلك.

هكذا نفهم نهاية عشيقَي بحيرة مورَيه. عشيقان جمعهما الماء إلى الأبد. وهكذا نفهم نهاية “لورا”، بعد عشر سنوات من الحبّ والمزاجيّة المتّهمة فيه. فالراوي/البطل ولورا حبيبان يجمعهما الحبّ ويفرّقّهما كلّ شيء حين تفتح هي كتاب الغرب ويفتح هو كتاب الشرق. إنّ الجرح الذي لا تمحوه إلاّ يد السماء في جسد الراوي، الذي حفَرَته رصاصة لبنانيّة، في مجتمع لا يزال منذ وقت طويل يبحث عن حضارة بلا دماء وثأر وتخلّف وعائليّة… ذلك الجرح يقول ذاكرةً جماعيّة مخيفة، لا يستطيع الراوي أن يتبرّأ منها، رغم أنّه من أعدائها، ورغم أنّه أسّس بوعيه التقدّميّ لحاضر ولغد يكونان ذاكرة بيضاء في ما بعد. هذه الذاكرة لا تنفصل فيها الطبيعة الفردوسيّة، التي هي جزء من نسيج الراوي الروحيّ، عن البشاعات التي تضطهد حياة الإنسان وحرّيّته وكرامته… وتبقى مشكلة لورا مع الراوي أنّه آتٍ من مكانٍ آخر وإنسان آخر، وتخشى شياطين مائتة في ذاكرته. وتخشى قتلى بلا عدد يقيمون فيه. وتخشى أولادًا منه يحنّون إلى مطارح أبيهم الجغرافيّة والوجدانيّة، مثلما حنّ “رامي” الذي تبنّته عائلة فرنسيّة بعد مجزرة في مكان من أمكنة لبنان، فكانت نهايته أن ائتمن مياه نهر الرون على ما فيه من جسد وروح…

وكما يخشى الغربيّ على ما ومن فيه من الشرق، كذلك يخشى الشرقيّ على ما ومن فيه من الغرب. وأسما سعادة خير مثال لذلك. أسما اللبنانيّة الهاربة من لبنان إلى أستراليا، خسرت أولادها أحياء. لأنّهم عاشوا الغرب عارين من قيم أمّهم ووجدانها، فتوارت بعيدًا في ظلام مأساتها، وبقي لها أمنية وحيدة هي أن ترجع إلى لبنان ترابًا لترتاح قرب تراب والديها.

وليست “أسما” أفضل حالاً من “لميا سعادة” ابنة أخيها رؤوف. فقد أحبّت لميا البروفسور فيليب غير أنّ شيئًا آخر غير موته، منعها من أن تفتح معه شراعها إلى آخر الرحلة. وهذا الشيء يُختصر بكونه إنسانًا آخر: “كأنّه آتٍ من لا مكان وذاهب إلى لا مكان. كأنّ الحبّ مقيم لديه في مجمع الملذّات… ثمّ هذه القدرة الهائلة لديه على التبدّل، وعلى التخلّي، وعلى النسيان، وعلى عدم التعلّق… تجعل منه في نظري كائنًا غريبًا لا أحتمل أن يلج قلبي وجسدي”…

تغلّف رواية “غريقة بحيرة مورَيه” كآبة عميقة، وتشاؤم لا يقلّ عنها عمقًا. فالدويهيّ، الخبير العتيق في علم الإنسان والأرض، يضع لقاء الحضارات في دائرة الاستفهام الصعب، معلنًا أنّ كلّ إنسان يأتي من مكان ما ويمضي في الاتّجاه نفسه، فهو يعبر الغد نحو ماضيه. وعليه فإنّ مشكلة “لورا” هي في أنّها ليست من لبنان، وليس في ذاكرتها ضحايا أو شياطين مائتة، وكذلك هي مشكلة فيليب هارمن، الذي يحتاج إلى مضمون قيمي ووجداني كالذي تحتضنه لميا سعادة في أعماقها… ولا يعني الدويهي الماضي بكلّ ما فيه إنّما الماضي بكونه ماضيًا، وبكونه قابلاً للتعديل في المستقبل. وعليه، فإنّ الانتماء لا ينال منه البُعد الجغرافي، أو المعطى الثقافي، أو الحرّيّة الإنسانيّة بالمعنى الشامل، وكأنّ علينا، نحن المتطلّعين إلى الغد، أن نبحث عن أنفسنا في الماضي قريبًا وبعيدًا، ونعيد صياغة أنفسنا لنكون جُدُدًا. لكن لنبقى نحن بكلّ ما للانتماء من معنى. وفي هذا السياق، يستطيع القارئ أن يخلّص الرواية من فجيعتها، فيجمع بين البروفسور فيليب ولورا، وبين الراوي ولميا سعادة ويبني العلاقات بين الشخصيّات على نحو يتلاءم مع شريط حياة كلّ شخصيّة قبل أن تصل إلى الزواج أو الموت بمعنييه المادّي والنفسي…

إلاّ أنّ أنطوان الدويهي، وعن سابق تصوّر وتصميم، حرص على صناعة الفجيعة بالمعنى الروائي، ليقول إنّ الشرق لا يلتقي مع الغرب إلاّ في الموت الذي يسبقه حبّ كبير. نعم، إنّ الدويهيّ، يعرف أنّ المقاهي والجامعات الفرنسيّة، والرقيّ الإنساني في عالم الفنون، والطبيعة بكلّ ما فيها من سلطة على الإنسان، غير قادرة على منح الإنسان ولادة ثانية وهويّة تكون بدلاً من ضائع للذاكرة. والموت، على قساوته، وسيلة إقناع وحجّة دائمة على امتداد صفحات الرواية.

إنّ “لورا”، الحبيبة الدائمة: “بثوب نومها الطويل الأبيض، المفعم بأريج جسدها، طافية بلا روح على سطح المياه”، إعلان بالغ الإيلام، يجعل الموت الجوهرة الأثمن في تاج الحلم، حيث لا حياة تتّسع لعشّاقها الكبار إلاّ بالإقامة… خارج الحياة.

*****

(*) جريدة “الجريدة” الكويتية 

اترك رد