بقلم: د. ناتالي خوري غريب
الصراعيّة الأبديّة الثقافيّة في أدبيّات الكتابة، ليست كامنة بين التقليد والتجديد، كمسرح حامل شتّى القضايا والمحمولات والتجليّات والموضوعات، بل في العقليّة الانهزاميّة والانتصاريّة القائمة على عقدة الأنا المرضيّة للذات المبدعة الكامنة في “أفعل التفضيل”، بين )بعض(التقليديين والحداثويين.
فالتوليفة الناتجة من طريحة (بعض)التقليديين المتوهّمين بأحاديّة الأحقيّة في الحقيقة، ونقيضة (بعض)المجدّدين المتمسّكين بأحقيّة النقد والهدم لإعادة البناء، تُظهر(هذه التوليفة) جدليّة مبنيّة على ذهنيّة تنازعيّة قائمة بين ذاكرة (بعض)متأخّرين أرادوا أن يمحوا ماضي بداياتهم، ويكرّسوا مجد حاضرهم، وينسفوا كلّ جديد مستجّد قد يتفوّق عليهم، وبين(بعض) مجدّدين يريدون خرق شرنقة الحياء والاستصغار التي يمكن أن يُدفنوا فيها إلّم يجاهروا بأسبقيّة التماع أفكارهم واستواء رؤياهم وتطلّعاتهم.
وأكثر، فالتقليديّون، يريدون ذاكرة حداثويّة لا تعترف إلّا بهم، ولا تستظهر إلا إبداعهم. ومن لا يتوّجهم ملوكَ الفكر الثقافة، يطرحونه خارج حاشية التفكّر والإبداع. ومن لا يرنّم لهم أغرودة الوفاء، يردّدون أنّه انتفاضة طمع وغباء. من لا يعترف بأعجوبة نتاجهم، يجرّدونه من جنديّة خدمته في الفهم والإفهام.
أمّا أزمة المجدّدين في ضيق تضجرّهم للوصول السريع إلى تكريس الإبداعية الخاصّة بهم، فتراهم ينظرون إلى التقليديين صعاليك يكتبون معلّقات من جاهليّة نفوسهم وقلّة حيلتهم على مجاراة حداثة لم تدخل تاريخَ عظيمِ حضاراتهم. فمن لم يعترف بهم يرمونه بحجارة الغيرة على فنّ الأصول، الذي لا يعرفون منه إلّا جلبابه. ومن يقدّم إليهم النصح والاعتصام بالصبر يردّون بضرورة جدوى انتصاحهم بأخذ قيلولة حتميّة لا استفاقة منها.
لقد نسوا جميعًا أنّ السماء كبيرة تتسّع لجميع المجرّات والنجوم، ولكلّ منها له التماعها المتفرّد، ومحور وجودها في المنظومة الكونيّة كما المنظومة الفكريّة.
لقد نسوا جميعًا أنّ ما يجمع معظمهم أكانوا مقلّدين أم مجّددين، أنّهم يتزّلفون ل”زعيم” إليه ينتمون ويقدّمون ولاءهم، ويتمنطقون بمايتلاءم وتطلّعاته، على شريطة أن يعطيهم شرف الانضواء في حاشيته، فتنقلب المعادلة، ليخطّوا اتجاهًا فكريًا قائمًا على التبعيّة بما يخدم سياسة فرديّة، بدلًا من أن يجعلوا همّهم إيجاد منظومة فكريّة تحمل لواء الخلاص الجمعي، لتحمل لواءها جميع السياسات.
لقد نسوا جميعًا، أو ربمّا تناسوا، كبارًا وصغارًا، قدماء ومحدثين، أنّهم يتركون قناعاتهم وانفتاحهم وتمدّنهم وتحضّرهم حين تستدعيهم غيرة الطائفة والدين، فيسخّرون أقلامهم ويستحضرون مخزوناتهم التراثية واقتباساتهم للعن الآخر وشتمه، بوجدانيّة تنفصل عن كلّ موضوعيّة، التزامًا باصطفافات تستدعيها أسياد الطائفة بعيدا من المحاجّات المنطقيّة والبيّنات المقبولة على كّل من أنكر ذلك.
لقد نسوا أو تناسوا، أنّ الإعلام حين يسلّط ضوءه على أحدهم، لا يحجب عن الآخر نور الشمس، ولا بمقدوره أن يكبّر حجم من لا حجم له في ضخامة تواضعه، من دون إنكار أهميّة دوره الفاعل.
حبّذا لو أنّ المثقّف العربي يجتاز محنة العقدة النيتشويّة في التفوّق، المتفشيّة لدينا على قاعدة التقليل من المعادلة القيميّة لنتاج الآخر، فتراهم لا يهتّمون بالإنتاجيّة التي تحمل غائيّة إنسانيّة، بقدر ما يهتمّون باتّهام هذا الآخر، وإضاعة الوقت في البحث في سرقاته ومسروقاته، إظهارًا لتفرّد إبداعهم المبني على الأصالة والإبداع، وضعف نتاج الآخر المسلوب من تجاعيد الآخرين.
حبّذا لو أنّ مسرح الثقافة العربيّة يتوقّف عن أن يكون ساح عداء وتزلّف ونفاق، وتراشق أسهم في حلبة المقارنات والمزايدات، لربّما تتوقّف النزاعيّة على استحصال المرتبة الأعلى ولو كانت ولادتها من رحم التصداميّة غير الشرعيّة، وضريبة الجائزة إعلاء شأن النرجسيّة استكمالًا لتقويض دعائم الإبداعيّة وليس العكس، ارساء لمفاهيم البطولة الفارغة والواهمة….
حبّذا لو يعرف جميعهم، أنّ “الضجّاج” بمآثره والرنّان بما جادت قريحته، من كلا الطرفين، هو حقّ مبرّر له، لأنّ الجميع ضحيّة مخزونات ثقاقية وموروثات أدبية قائمة على تمجيد صورة-البطل، أوهميّة كانت أم أسطوريّة، لكن اللوم يقع على الأصحّاء المعتدلين الذي يدركون تقنية فصل “الذات” عن الموضوع” وضرورة إعلاء صرختهم في مواجهة هذا المدّ المرضي في النقد غير البنّاء ونقد النقد المضّاد الهدّام(ونعطي مثالًا على ذلك، ما كتبه محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي وردود جورج طرابيشي على كتبه في نقد النقد).
اللوم الأكبر على من يقبل أن ينصّب نفسه حكمًا عادلًا معتدلًا يحكم بالأسبقيّة والألمعيّة وهو يعلم بما شابه من عوارض الإصابة بالمرض المميت المخزي للمثقّف العربي لأنّه يحمل تلك المرآة التي تجعلك ترى في انعكاساتها ما هو يريد، جاهلًا أنّ زمن الاستغباء قد ولّى، واستغلال فكرة العراقة في “العتاقة” قد مضى، وأنّ الأصالة أو الحداثة تلازميّة زمن وحالة، وحتميّة تلاقح وإثمار، في سيرورة المسيرة الثقافيّة وديمومتها.
يبقى أن نقول، إنّ المثقّف العربي بحاجّة ماسّة إلى ضرورة الوقوف أمام نفسه، والاعتراف بمسؤوليّته تجاه ذاكرة أجياله، من دون أن يتعارض الأمر مع أصالة تراثه، والاستشعار بحتميّة تنقية ذاكرته من الكثير من الموروثات المرضيّة، في مسألة التقاتل بين التقليديين والحداثويين، وتقبّل إعطاء كلّ حديث فرصته ونجاحه، وعدم كسر حناجيه عند محاولات إقلاعه الأولى.
فلا يُخرج المثقف العربي من محنته إلّا انفتاحه واتّساع دائرة رؤيته وتدريبه على ذائقة انتقائية لا تنفي الموضوعيّة ولا الاستنسابيّة، تكون مبنيّة على تقنيّة التمييز بين المستحسن والمستقبح، بما يتضمّن من قيم الحقّ والخير والجمال والبناء والإعلاء.