بقلم: د. عبد العزيز العلوي الأمـراني (*)
ما هي التربية التي يمكن أن تضطّلع بها منظومة التعليم العربية في مواجهة التحدّيات الناشئة عن التحولات المتسارعة وغير المتوقعة، التي تطبع البلدان العربية اليوم؟ إنها تربية النشء العربي على الحق في الاختلاف الذي يمكن له إعادة تشكيل سياساتنا وبرامجنا التعليمية من أجل بناء مستقبل للعيش المشترك بين جميع المكوّنات الاجتماعية في الوطن العربي، على أن تكون تلك التربية قائمة على الديمقراطية والإنصاف والعدالة الاجتماعية.
في العام 1999 استهلّ المدير العام السابق لليونسكو السيد فيديريكو مايور، كلمته التي قدَّم بها الوثيقة التي أعدَّها المفكّر الفرنسي إدغار موران لليونسكو، بقوله: “التربية هي قوة المستقبل، لأنها أكثر الأدوات التي تحقق التغيير قوةً وأهميةً”. وفي الوقت الذي سارعت فيه بلدان العالم المتقدم، في الغرب والشرق، إلى مراجعة برامجها التعليمية وإصلاحها، وتطوير سياساتها التربوية بما يتلاءم وطبيعة العصر الذي نعيشه، ما تزال الأنظمة التربوية في الكثير من البلدان العربية على جمودها، غارقة في الكثير من الاختلالات البنيوية في برامجها الدراسية ومناهجها التربوية.
ولعلّ هذه الاختلالات ناجمةٌ في معظمها عن غياب التربية على الاختلاف، وعلى قواعد الحوار البنّاء والجاد في الكثير من المدارس والجامعات في البلدان العربية، ما جعل منظومات التربية والتكوين، في كثير من الأقطار العربية، في المراتب المتأخرة، قياساً إلى جودة وفعالية المنظومة التربوية على الصعيد العالمي. فقد ربطت تقارير ودراسات كثيرة غيابَ الحسّ الابتكاري والإبداعي لدى الطلاب والمتعلمين في المدارس العربية، بغياب الحرية والحوار وسيادة قيم عدم الاعتراف بالآخر والوعي بالاختلاف بين الناس. فبفعل تهميش فئات واسعة من المجتمع، يتحول الكثير من هذه المجتمعات العربية إلى بيئة تنمو فيها جماعات متطرفة تتبنّى ثقافة الكراهية ورفض الآخر، وتلجأ إلى العنف كخيار لفرض قناعاتها على الآخرين، علاوةً على الأوضاع الاجتماعية المضطربة في بلاد عربية مختلفة، والأحوال الاقتصادية الجامدة.. وقد كلَّف التعصب والكراهية تجاه الآخر، سواء في الداخل أم في الخارج، كلّف الشعوب العربية الكثير من التراجعات والانهيارات المتلاحقة والمتتالية، وعلى الصعد كافة.
ولأن التعليم هو الباب الواسع لولوج مشروعات التغيير والإصلاح في المجتمعات كلّها، فقد أصبح جلياً، أن معالجة وباء التعصب والكراهية، اللذين يغذيان التهميش والتخلف في كثير من البلدان العربية، لن يتأتى سوى بغرس التربية على قيم الاختلاف وقبول الآخر وترسيخها، استناداً إلى مبدأ الحوار البنّاء بين صفوف الناشئة، بوصفها أمل المستقبل.
غياب الحق في الاختلاف عن مناهجنا التربوية
تتعدّد الأسباب والإكراهات التي تَحول دون تفعيل التربية على الاختلاف وقبول الآخر في منظومة التربية والتعليم في الوطن العربي. ولكن، قبل ذكر هذه العوامل والأسباب، لا بدّ من التأكيد على أن مجال التربية والتعليم في كل مجتمع من المجتمعات يتأثر، إيجاباً أو سلباً، بباقي مكوّنات المجتمع الاقتصادية والثقافية والسياسية. حتى أن البعض شبّه المدرسة بالمرآة التي تنعكس عليها تناقضات المجتمع، وتتجلى فيها كلّ الصراعات والقيم والذهنيات التي تنمِّط سلوك الأفراد وتقوده داخل المجتمع.
في السياسة، يُرجِع المفكّر الاقتصادي العربي جورج قرم، في كتابه “التنمية المفقودة” (1981)، فشل المخطّطات التنموية في البلدان العربية إلى المناهج المتَّبَعة، في السياسات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية، لكونها المسؤولة عن استمرار حالة التخلف والتبعية. ففي ظل غياب الديمقراطية تبقى حالة الفساد والاستبداد قائمة تُرهِق كاهل المجتمعات العربية ومنها مؤسسات التربية والتعليم. ومن هذا المنطلق، تغدو التربية أداةً لإعادة إنتاج نمط العلاقات السوسيوـ اقتصادية القائمة، بالاستناد إلى أساليب تربوية تكرس سلطة صانعي القرار التربوي، بدءاً من الإدارة التربوية، وانتهاءً بسلطة المدرس داخل حجرة الدرس، الأمر الذي يغيّب الاجتهاد والإبداع.
مقارنةً بثقافة التعددية والاختلاف التي باتت سمة مميزة للمجتمعات الحديثة سواء على المستوى العالمي أم المحلي: تعددية القيم، تعددية الحقائق، تعددية الأذواق والثقافات، يصعب الحديث عن وجود ثقافة التعددية والاختلاف في عمق بنية المجتمعات العربية، على الرغم من تحوّل الكثير منها إلى حياة المدنية والعيش الحضري. وتعود أسباب ذلك أساساً إلى استمرار سيطرة تقاليد الوجاهة وتفشي الأمية والفقر، وهيمنة أشكال عديدة من التفكير الخرافي والشعوذة الذي ما يزال يلجأ إليه الكثير من المواطنين العرب لحلّ مشكلاتهم اليومية بسبب استفحال ظاهرة الأمية. وهو ما يكرس الانكماش على الذات، وعدم الانفتاح على الآخر، نظراً لغياب الثقة والشعور بالاطمئنان إلى الغير، فتعيش كلّ مكونات المجتمع وفئاته حالة أشبه ما تكون بحالة نفاق عام، حيث يعيش الكل مع الكل ولا يقبل به في الوقت نفسه، فتصبح العلاقات الإنسانية بين الأفراد غير متوازنة، ويغيب مبدأ الاعتراف بالآخر. وعوض أن تكون العلاقة الإنسانية قائمة على مبدأ “أنا هو أنت”، لتنبني العلاقة على الاعتراف الضمني بالآخر كذات إنسانية، على الرغم من الاختلافات الممكنة مع الآخر، على الصعُد الثقافية، اللغوية، الدينية، والعرقية، تصبح العلاقة الإنسانية قائمة على مبدأ (أنا هو ذاك)، وهي علاقة لا تعترف بمبدأ المساواة مع الآخر بل بتشييئه. وهذا ما ذهب إلى تأكيده الدكتور مصطفى حجازي في كتابه “التخلف الاجتماعي” (2001)، وهذا ما يعطي الشرعية ضمنياً للأنا في اتخاذ مواقف وممارسة أفعال إزاء الآخر من قبيل: الاستغلال، الغبن ،الاحتقار، القتل ،النهب ، الترهيب، التسلط …إلخ .
تخضع المنظومة التعليمية العربية لمختلف التأثيرات المجتمعية، باعتبارها مرآة تنعكس عليها مشكلات المجتمع وتناقضاته، وهي بذلك تلعب دوراً مهمّاً في تكريس ما هو سائد والحفاظ عليه واستمراره، بسبب اختلالاتها، وفساد مناهجها وبرامجها أحياناً. بحيث تُعتبر بنية المنظومة التربوية في العديد من البلدان العربية مسؤولة عن غياب ثقافة الوعي بالاختلاف؛ فتُعيد بذلك إنتاج التعصب والكراهية ورفض الآخر. ولو تأملنا مكوّنات المنهاج التربوي، بدءاً ببرامج تكوين المدرسين، مروراً بنوعية الإدارة التربوية والإشراف التربوي وطبيعتهما، وانتهاءً بنظام الامتحانات والتقويم، سنقف على حقيقة، مفادُها أنه لا توجد إرادة سياسية حقيقية لإصلاح وتغيير المنظومة التربوية في الاتجاه الذي يسهم في جعلها فضاء للتربية على الاختلاف والحوار مع الآخر واحترامه والقبول به. فمؤسسات إعداد المدرسين ما تزال تعتمد على الأساليب والطرائق التقليدية نفسها في التكوين، ما يرسخ الصورة النمطية لدى المدرس، والقائمة على السلطة والتميّز، ولا يفسح المجال أمامه للإبداع والاجتهاد. فالمناهج التعليمية ما تزال تعتمد على التلقين وطرائق التدريس التقليدية القائمة على الحفظ وإعادة اجترار المعارف من قبل المتعلمين، عوض العمل على إشراكهم في بنائها وتعلمها.
تعليم نسبية المعرفة
إن تفعيل التربية (البيداغوجيا) النشطة القائمة على التشاركية التربوية في المدارس العربية ما يزال محدوداً بسبب ثقل سلطة المدرس والكتاب المدرسي في العملية التعليمية، حيث ما يزال يُنظر إلى محتويات الكتاب المدرسي كحقائق ثابتة ومطلقة لا تقبل النقد ولا الردّ. ما يجعل المتعلّم فاقداً لأهم مقاصد التربية العلمية الحديثة، وهي الإيمان بنسبية المعرفة البشرية. ففي دراسة أنجزت على عينة لبعض الكتب المدرسية العربية، لاحظ الدكتور عبد الحي تحسين، في مقال نشره في مجلة “الفيصل” العام 1987 (العدد 121) أن الكتب المدرسية لا تحاول أن تقدم وجهات نظر متعارضة في تفسير الأحداث، لكي يلمّ الطالب بجميع جوانبها، بل تعوِّده على التفسير الواحد والرأي الواحد. فالتعليم الحديث اليوم، هو ما يمكّن المتعلّم من إدراك نسبية المعارف، ومعها نسبية الحقائق الكونية، بحيث تصبح التصورات والنظريات كلّها قابلة للتصحيح والتجاوز.
خلاصة القول، إن التنمية الانسانية الشاملة ليست نمط حياة نستورده من الخارج، بل هي صناعة مركبة، والتربية هي أساسها، فلا تنمية حقيقية من دون تربية حقيقية، لأنها صناعة المستقبل. إن غرس قيم التربية ومبادئها القائمة على الاختلاف، داخل المنظومة التربوية العربية، يتطلب التأكيد على مبدأي الحق في الاختلاف والحق في الحوار، حيث يصبح الحوار فاعلاً وفعالاً.
إن تطوير منظوماتنا التربوية العربية، وجعلها تتبنّى قولاً وفعلاً مبدأ الحق في الاختلاف واحترام الآخر والحوار الفعال، هو السبيل إلى إعادة بناء ما هدمته ثقافة التعصب وحطمته معاول الكراهية. ولعلّ الخطوة الأولى على طريق تجاوز الأزمة تتمثل – بحسب الدكتور كمال عبد اللطيف- في نقد التصورات التقليدية السابقة، والتخلّي عن لغة النقد الهدام والسلبي، الذي يعزّز الجفاء والتباعد بين البشر في لحظات التصدّي للمشكلة.
**********
(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة أفق
(*) باحث في علوم التربية- المغرب