بقلم: الباحث خالد غزال
يشهد لبنان منذ فترة، ولا يزال، اندلاعاً لتحركات اجتماعية تراوحت بين المطالبة بتحسين مستوى المعيشة عبر زيادة الرواتب ووضع انظمة جديدة لتطورها، وبين مطالبات بتثبيت مياومين في وظائفهم، وصولاً الى انفجار قضية السكن من خلال القانون الجديد الذي أقره مجلس النواب بمادة وحيدة. هذا «الانفجار الاجتماعي» هو الابن الشرعي لممارسات الحكم على امتداد عقود من الزمن، ونتيجة لسياسة اقتصادية اجتماعية سياسية، سمتها الرئيسة النيوليبرالية، مارستها الطبقة السياسية على مختلف انتماءاتها، وكانت تصب جميعاً في إفقار المواطنين لمصلحة رأسمالية متوحشة عقدت حلفاً مع الطوائف وممثليها، وأمعن الإثنان نهباً في موارد البلد، وتسييد الفساد في جميع مرافق الدولة.
لم تسقط المطالب الاجتماعية من سماء صافية، فعلى امتداد عقود، ومنذ هيمنة الوصاية السورية على البلد، اعتمدت الفئات المسيطرة من ممثلي الطوائف، سياسة تنفيعات أدخلت بموجبها الى أجهزة الدولة الإدارية اعداداً كبيرة من الموظفين والعاملين، بما لم يكن يتناسب وحجم الأعمال المطلوبة، فتضخمت الأعداد وباتت لها مطالبها في ديمومة العمل وتحسين رواتبها، في كون ذلك حقاً من الحقوق الاجتماعية. في المقابل، وبعد السياسات العشوائية في معالجة مسألة الرواتب والأجور، تحرك العاملون في القطاع العام، سواء في السلك الاداري او في قطاع التعليم الرسمي والخاص، لوضع سلسلة رواتب وأجور جديدة، جرى التعاطي معها في البداية من موقع المزايدات السياسية، فأعطيت الهيئات النقابية وعوداً بتشريع السلسلة، ما لبثت ان ارتبكت الوعود وبعضها تبخر عندما تبين حجم الواردات المطلوبة لتمويل السلسلة، والمخاطر الناجمة عن عدم تحقيق هذه الايرادات على انهيار اقتصادي، يعاني فيه الاقتصاد في الاصل من معضلة بنيوية تهدد قطاعاته نتيجة الازمة السياسية المتواصلة منذ اكثر من عقد من الزمن. هكذا تجمعت المطالب لمختلف القوى الاجتماعية دفعة واحدة، وكان طبيعياً انفجارها في فترة زمنية واحدة بالنظر الى ان الحكم كان معطلاً على امتداد عام، وان الحكومة الجديدة لن تطول إقامتها في السراي، والأهم من كل ذلك ان هذه المطالب تحتاج الى قوانين يشرعها مجلس النواب، ومدة التشريع لدى المجلس ستتوقف في منتصف شهر ايار (مايو)، حيث يتحول المجلس الى هيئة ناخبة لرئاسة الجمهورية.
يمكن المناقشة في مدى أحقية جميع المطالب المرفوعة، فبعضها حق لا سجال فيه، وبعضها يحتاج الى تدقيق لفرز ما هو ضروري ويقع في قلب الحقوق المشروعة، او تعيين ما لا يجب الإصرار عليه. ولكن وفي الاجمال، نحن امام مطالب اجتماعية تحتاج الى سياسة اقتصادية مالية وموارد من اجل تلبيتها. هنا يفتح المجال على الوجهة السياسية في معالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي ناقشتها وتناقشها السلطات الحاكمة.
ليس جديداً في تاريخ الطبقة الرأسمالية اللبنانية السعي الدائم الى إبعاد كأس الضرائب المباشرة على أرباحها وتوظيفاتها، وتحميل عبء تأمين الموارد من الضرائب غير المباشرة التي تطاول جموع الشعب اللبناني، فتؤدي الى مزيد من افقاره، وترتفع الاسعار لدى البحث في الزيادات قبل ان تعطى لأصحابها، فتتآكل هذه الزيادات مباشرة، وتخلق نوعاً من النقمة الشعبية على المطالبين بكل زيادة. انتفضت الهيئات الاقتصادية ومعها الرأسمالية المصرفية عندما أقر مجلس النواب ضرائب على أرباحها، وهاج المستثمرون على الأملاك البحرية لمجرد اقتراح فرض نسبة زهيدة من الضرائب، وهي أملاك في معظمها مستولى عليها في شكل غير شرعي من امراء الطوائف وسماسرة العقارات. ارتفعت الأصوات من هذه الرأسمالية مهددة بالانهيار الاقتصادي ما لم تلغ هذه الضرائب التي مستها مباشرة.
لكن الفضيحة الكبرى للسياسة النيوليبرالية تمظهرت في قضية السكن وقانون الإيجارات تحديداً. من المعروف ان قضية السكن والسياسة الإسكانية قديمة في لبنان ولها حراكها الدائم منذ كان النائب الراحل فريد جبران يقود هذا الحراك. هناك مشكلة في قضية الإيجارات حيث لا تنصف القوانين المالكين بعد التضخم الذي حصل منذ عقود. لم تستجب الطبقة الحاكمة الى مطالب تنطلق من وضع سياسة إسكانية تؤدي الى حل مشكلات المالك والمستاجر، وهو أمر معروف في كل بلدان العالم. الجديد الذي اعتمدته السلطة وأقره مجلس النواب وضع قانون جديد للإيجار سيؤدي من السنة الأولى الى تهجير مئات الآلاف من المستأجرين خصوصاً في العاصمة بيروت، ويلغي اي حقوق لهم، مما يولد في البلد ازمة مهجرين ونازحين من ابنائه. منذ وضع مشروع القانون، كان واضحاً ان المصارف والشركات العقارية تقف وراءه. فهذه المصارف تمتلك كتلة نقدية ضخمة ترفض ان توظف اي جزء منها في القطاعات الإنتاجية، ورأت ان التوظيف في القطاع العقاري يضمن لها زيادة ارباحها، ولا يتحقق ذلك الا بهدم المساكن القديمة وتحرير عقود الإيجار، وتحويل المباني الى أبراج، من دون الأخذ في الاعتبار النتائج الاجتماعية لهذا المشروع. مر المشروع في مادة وحيدة، لم يقرأه معظم النواب كما صرح أكثر من واحد منهم، وتتهم «لجنة المستأجرين» النواب بقبض عمولة لقاء الموافقة، وهو اتهام لا ينبع من فراغ اذا ما تذكرنا حالات مماثلة يوم إقرار مشروع «سوليدير».
لا شك في أن اندلاع المسائل الاجتماعية طرح مسألة ما اذا كان البلد قد دخل منعطفاً سياسياً جديداً بعيداً من التموضع المذهبي والطائفي. فالقضية الاجتماعية توحد بالتأكيد، لكن التحفظ مطلوب على هذا الاندفاع في الحماسة الذي وصل بالبعض الى وصف الجاري بـ «ربيع لبناني». فالقوى الاجتماعية العابرة للطوائف لا تزال أسيرة التموضع المذهبي، ولا تكفي موجة حراك للحكم الإيجابي على تحولاتها. لكن مهما يكن من تحفظ، فلا بد من الاعتراف بأن شمعة أضيئت وسط هذا الظلام الطائفي والمذهبي الذي يكبل القوى الاجتماعية بقيود حديد.