” مراحل من أحداث لبنان” لنواف كرامه … حقيقة واضحة لتاريخ عبر (*)

بقلم: الدكتورة سلوى الخليل الأمين

salwa-111التاريخ هو الحقيقة لمن يكتبه بتجرد ووضوح رؤية، والحقيقة دائما صعبة تثقل كاهل راويها، فالحساسيات الشخصية والعائلية والعشائرية والقبلية ما زالت حاضرة في أذهان بعض المؤرخين الذين يفبركون المعلومات حسب اهوائهم الشخصية ومرجعياتهم السياسية.

إلا أن تهيؤات الواقع دائما ترتفع على موازين العقل المنضبط بسلوكيات أخلاقية، تجمع ألوان الدروب في ماضيها وحاضرها .. تطلعات رؤى مستقبلية، تهتف بسمو القيم وحقيقة التاريخ التي يتبعها المؤرخ والمؤرشف ، حين تبقى النصوص هي الحقيقة الملموسة الشاهدة على العصور.

قرأت كتاب المؤرخ الراحل نواف كرامه ” مراحل من احداث لبنان” توقفت عند العديد من الحقائق المجهولة لدى الكثيرين ممن قرؤوا التاريخ، إن في مرحلة الدراسة أو عبر المطالعات التي تغري الناس عادة بالغوص في مدارات الماضي ،وصولا إلى الإمساك بخفقات حاضر ما زال يتهيأ لرسم المستقبل بأحرف يتمناها كل مواطن وطني .. مذهبة وبراقة.

نعرف جميعا أن غروب الزمن واضمحلاله لا يعني عدم الشروق من جديد ، والشروق يحمل غمامات الفرج المثقلة بحوليات الزمان والمكان التي تمتطي قوارب النجاة .. وهج مسارات ، ترسم على خرائط الكون مطامح النعم والأنعام ، المشغولة بنورانية العقول، الهادفة إلى رسم التاريخ.. انجذاب حضارات، ترفع ضبابية الأحداث وهدأة الخواطر التي طالما شقت ظلمة القدر بسيوف بتارة، رفعت هامات الأوطان إلى استدارات النصر، المؤرشف بيراع الراحل المؤرخ نواف كرامه في كتابه” مراحل تاريخية من أحداث لبنان”.

هذا الكتاب الصادر بعد رحيله، هو تكملة لمسيرة باحث أحب التاريخ ، فغاص في أعماقه باحثا، منقبا ومكتشفا لحقائق لم تكن معروفة بالتفصيل الذي أورده المؤلف ، وذلك من وحي رسالة تمنطق أهدافها بإحساس وطني وتربية معروفية أصيلة ، تشمخ على قمم العروبة، تتلقف مدارات الحق حين الإضاءة على مسار الثورة العربية التي قادها الأمير فيصل بن الحسين ، حين عمد إلى إرسال نسيبه نسيب البكري إلى صديقه ابن الجبل الأشم الأمير سلطان باشا الأطرش يحثه على الاشتراك في معركة التحرير من عهود الظلمة القاهرة، لبى الأمير المناضل النداء مع عدد كبير من أبناء الجبل من بني معروف الأشداء والمتطوعين تحت رئاسته من رجال حوران وقبائل البدو وعشائر جبل الدروز، وذلك تتويجا لمسيرة نضالية عربية الأهداف، سجلت انتصاراتها على المستعمر التركي بأحرف من نور . هذه الصورة المؤرشفة بقلم المؤلف نواف كرامه، تظهر عمق الانصهار العربي القومي في وحدة مسار تشهد على حقيقة المستعمر الذي ما زال يغل في بلادنا ، ويمعن فيها تمزيقا وتفتيتا تحت ستار الطائفية والمذهبية، التي لم يؤمن بها قاداتنا الأوائل العظام ، ومنهم عظيم من هذا الجبل الصامد بوجه الرياح العاتيات، هو المفكرالعظيم والمناضل الوطني العروبي ، وأحد ركائز الكرامة العربية والعنفوان الوطني عبر تاريخ لبنان الحديث، والثائر الدائم من أجل حقوق الفقراء والمقهورين ، عنيت الراحل الكبير الزعيم الوطني كمال بك جنبلاط.

إن هذا الكتاب هو حقيقة واضحة لتاريخ عبر، استهلك ضمائر القادة النجب، وسواعد الفرسان الشجعان، رسم المؤلف بغزارة علمه ومعارفه ويراعه الثر تسلسل مشهدياته ومراحله التاريخية الواضحة كالشمس في نورانية أحداثها، التي لا يجوز لأي مؤرخ إخفاء تفاصيلها مهما كانت الأهداف ، لأن التاريخ هو الحكايات الواقعية التي لا تحتمل الخداع ولا المآرب الشخصانية، بل تتطلب الإطلاع الواسع ،والمعرفة الشمولية، والتحليل المنطقي، وهذا ما سيجده كل قارئ لكتاب المؤرخ الراحل نواف كرامه.
أهمية هذا الكتاب تكمن بإيضاح المفهوم الاستعماري الذي قام وما زال على التفرقة الدينية والمذهبية، إلى جانب إيضاح المخطط الصهيوني وبروتوكولاته اللعينة، وتجاهل إسرائيل للقوانين الدولية،وعملهم الدائم على تقسيم لبنان،واحتلال الجيش الإسرائيلي لبيروت أول عاصمة عربية تدوسها أقدام الغزاة الصهاينة، وحين يصل إلى ما يدور في المنطقة من انتفاضات ربيعية يشهد أن سورية لا تخشى الداخل بل الخارج ويصف بدقة ما هو حاصل اليوم من تلكؤ في تنفيذ الحل السياسي على الأرض السورية ومن تشابك المصالح الدولية والإقليمية خاتما الرأي بالقول:” إن ما يجري في المنطقة منذ ثورتي تونس ومصر وانشطار السودان وفجأة صرنا أمام ثورات من المحيط إلى الخليج، ما يجري ليس بريئا، هناك عنوانان لا ثالث لهما النفط وأمن إسرائيل” ( انتهى الاقتباس).

يبقى هذا الكتاب التاريخي الموثق بدقة المعلومات، للمؤلف الراحل نواف كرامه ، أنشودة الحق في زمن الصراعات الدموية القاتلة والمدمرة، وفي زمن طمس الحقيقة التي أرادها الكاتب عنوانا كبيرا لمساره المعرفي كؤرخ صادق شفيف ، لم يخن الأمانة التاريخية ولم يتلاعب بالمضامين ، ولم يسقط معايير الصدق في أتون التعصب والتمذهب والعنصرية البغيضة . بحيث لم يتوان عن سرد الأسرار التاريخية وفصولها المكتومة بلغة مكشوفة، طوت شهقات الزمن الغابر، رفعتها انتظارات رجاء وأمل، من أجل قيام غد مشرق يوحد أبناء الأمة العربية من محيطها إلى الخليج من أجل تحرير الوطن السليب فلسطين.

تبقى الرحمة للمؤرخ الراحل نواف كرامه،مطلب دعاء وتسابيح صلاة أرفعها أمامكم ، باسمي وباسم زملائي في ديوان أهل القلم وندوة الإبداع وملتقى الأديبات العربيات إلى روحه الطاهرة. أما مواساتي لعائلته الكريمة فهي القول : إن من ترك هذا الإرث التاريخي الأدبي منارة معرفية .. لا يموت، بل يبقى حيا على مدى الأدهار.

*****

(*) كلمة ألقتها الدكتورة سلوى الخليل الأمين، رئيسة ديوان أهل القلم، في الندوة حول كتاب

“مراحل من أحداث لبنان عبر التاريخ” للمؤرخ الراحل نواف كرامة، في المكتبة الوطنية في بعقلين

في 12 أبريل 2014.

 

اترك رد