نحو”الرابطة العربية لعلوم الاتصال” (*)

بقلم: د. مي عبدالله (رئيسة تحرير مجلة الاتصال والتنمية)

may abdallahعمت مبادئ الثورة الفرنسية التي انبثقت فى عام 1820 كل انحاء الشرق فى مصر والعراق وايران وتركيا وسورية ولبنان، وشاع حينها ما يعرف بالصدمة الحضارية نتيجة التماس المباشر بالغرب، وخصوصا ببلد مثل فرنسا الذى احدثت ثورته على الصعيد الحضارى تغييرات بنيوية كبرى وخصوصا في المجال السياسي حيث انشئت الاحزاب وفق دستور جديد يؤكد لاول مرة على قيم العدالة والمساواة والحرية.

فلقد جائتنا الثورة الفرنسية بحقيقتين هما اولا ان العالم قد تغير، وثانيا ان التغيير السياسي العظيم قد احدث ثورة ادبية وفنية شاملة على صعيدي الشكل والمضمون، بمعنى ان الادب هضم داخليا التغييرات العامة بابتكار اشكال ومضامين تغييرية جديدة ومتمردة .

هذا يعني أنه، كلما دخل الادب والفن، كما البحث العلمي، فى حالة ركود وخف ايقاعه التجديدي تاخرت الثورة الاجتماعية، او بعبارة ادق هو دليل على تاخر التغيير وطول فترة الركود وامتداد ازمنة التاخر. فان التغيير جهد انساني تستدركه النخب من علماء اقتصاد وعلماء اجتماع ومثقفين من مختلف الاختصاصات، لان المثقف ببساطة هو الانسان الذى يملك عقلا تحليليا يفرز الحقائق ويعاينها ويعيد تركيبها بذهن استشرافي مستقبلي بعيدا عن المداهنة لفئة متغلبة او سلطة حاكمة. اى ان المثقف هو المعني بالواقع الموضوعي والحقيقة الخالصة، لذا يجرى التاكيد على ان شريحة المثقفين الحقيقيين الذين هم فى منأى عن اي سلطة سوى سلطة الحقيقة والضمير، هم فعلا الطلائع التى تصوغ الوعي بالمرحلة وتنقله الى الطبقات الاجتماعية لتسليحها به واعدادها الى مرحلة التغيير.

المثقفون هم الذين يصنعون الثورات وهم يهدمونها اذا انحرفت، فالثوره الروسيه المعروفه بثورة اكتوبر التى انفجرت فى عام 1917 صنعها المثقفون امثال لينين وتروتسكى وبوخارين وزئييف وغوركى وغيرهم، وهدمها ايضا مثقفون مثل ساخاروف وسولجنستين وباخنتين وبرودسكى وتاركوفسكى على سبيل المثال، واذا قصرت هذه الشريحة من النخب المثقفة عن اداء واجبها، فالجماهير حتى اذا ثارت لاسباب موضوعية ستكون بدون برنامج، وفاقدة لأية بوصلة اجتماعية، وستكون ثورتها مجرد هياج طائش ضد الوضع القائم فاقد لأي أفق مستقبلي يضع نصب عينيه بناء دولة وحياة مدنية مبنية على التنمية والتقدم والازدهار.

ان ركود الانتاج الادبي والفني والتنظيري يدل على تخثر وتعفن مجمل النسيج الاجتماعي، وغياب الابداع الفكري يدل على وقوع الوضع السياسي بين كماشتي التفسخ والتفتت الوطني، وكلاهما يدل على ضمور دور النخب المثقفة وموت الطبقة الوسطى او انكفائها الى مراحلها الجنينية الطفولية…

وللأسف اذا نظرنا الى واقعنا في العالم العربي نجد اننا نعيش فى مرحلة الطفولة البشرية، مرحلة السحر والخرافة والدين الطقوسي الشعبوي الظلامي. نعيش فعلا فى مجتمعات بلا عقل، لاننا مجتمعات بلا مثقفين…

وبغياب دور المثقف في مجتمعاتنا العربية، ومع تطور التكنلوجيا والتبدلات السريعة في المشهد العالمي الاجتماعي، ظهرت أمامنا تحديات واشكاليات وتساؤلات عميقة في كل المجالات الحياتية، وخصوصا في مجالات العلم والبحث …

من هنا ألحت علينا كباحثين في علوم الاتصال، فكرة انشاء الرابطة العربية لعلوم الاتصال التي نسعى ونطمح من خلالها الى توحيد جهود الباحثين العرب المتفرّقة، وتقريبهم من بعضهم البعض، ليتوصلوا الى الاتفاق على قواعد البحث في علوم الاتصال، والخروج بدراسات تسعى لتطوير الاتصال في العالم العربي ومعالجة مشاكله وتصويب أدائه.
لذلك نعلن في افتتاحية هذا العدد من بيروت عن تأسيس “الرابطة العربية لعلوم الاتصال” AACS، وهي مؤسسة بحثية علمية ثقافية غير ربحية تعنى بالبحث في علوم الاتصال وتطمح لأن تكون فضاء علميا لتلاقي الباحثين في شؤون وقضايا البحث العلمي، يتفرع عنها “المركز العربي لبحوث الاتصال والتنمية”ACCDR وهو قاعدة بحثية يصدر عنها منشورات وكتب مشتركة ومجلات علمية محكمة، مثل هذه المجلة الفصلية “الاتصال والتنمية” الصادرة لتاريخه بعشرة أعداد، والتي تحتاج الى أرضية ثابتة لضمان الاستمرارية والتطوير. سوف يضم المركز في المدى المنظور مختبرات بحثية، ويتفعّل عمله في تنظيم مؤتمرات وورش عمل دورية في مختلف الدول العربية تجتهد لدعم دور البحث العلمي المنظم في مجالات الاتصال. وتتوثق نشاطات الرابطة في منشوراتها ومطبوعاتها وموقعها الالكتروني.

نأمل أن تشكّل الرابطة قاعدة مشتركة للبحث العلمي في لبنان والعالم العربي، عبر انشاء هذه المختبرات البحثية التطبيقية المشتركة التي تضم الباحثين اللبنانيين و العرب في مختلف مجالات الاتصال والتنمية، واصدار الدراسات البحثية المشتركة التي تلبي احتياجات الانماء في لبنان والعالم العربي. كما نأمل أن تساهم في اشراك الباحثين اللبنانيين والعرب في سياسات التخطيط الاجتماعي على قاعدة البحث العلمي، وفي بناء الجسور ما بين الأكادميين والمفكرين والباحثين والمسؤولين السياسيين في لبنان و الدول العربية.
لعلها تكون خطوة الى الأمام لمعالجة قضايا المجتمع المتفاقمة، وردم الهوة بين المثقفين والنخب والباحثين في العالم العربي من جهة، وبينهم وأهل السياسة والقرار من جهة أخرى.

هي نافذة الأمل الوحيدة التي علينا فتحها بالقوة لنخرج أنفسنا من النفق المظلم الذي نحن فيه ونعيد للمثقف والباحث العربي كرامته ودوره في المجتمع المحلي والعالمي…
كم من عمل ينتظرنا لكن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة…وكلنا واعون لخطورة المرحلة التي تنادينا …

********

(*) افتتاحية العدد 10 من مجلة الاتصال والتنمية

اترك رد