بقلم: الأديب قزحيا ساسين
الأمومة تعادل الحياة. وما أصعبها حين تعادل الموت. الأمومة التي تهزّ السرير فتزداد الشمس ذهبًا والبحار ماءً، ما أكبر ألمها حين تنادي ابنها صامتًا في نعش. الأمومة التي يعد رحمها الأرض بالفرح ما أصعب رؤيتها مرتدية الأسود كفنًا قبل الكفن.
في جديدها “أنا والجنّة تحت قدميك” تزور أمل الجبوري حزن الأمّ العراقية، وتتقاسم معها دمعتين: واحدة تبكيها العين، والثانية تجود بها اللغة. وفي الإهداء لا تفرّق بين أمّ القاتل وأمّ القتيل فكلتاهما أمّ ضحيّة، والاثنتان لم يعد لهما شبّاك أزرق تطلاّن منه على الدنيا: “الأمّ وحدها من تعرف جريمة اغتيال الحياة، حتّى وإن كانت بعدالة القضاة أو بسطوة الطغاة”. ولا شكّ في أنّ إضافة هذه الـ”أنا” إلى القول الأموميّ الرائع إضافة موفّقة، جعلت عنوان الكتاب قنديلاً يغمر بنوره الحزين معاني النصوص المكسورة الخاطر.
تستهلّ الجبوري بوحها بنصّ “العراق غير الرحيم” مخاطبة الأمّ العراقيّة، طالبة منها الاستقالة من حزنها لأنّ في الحزن خلاًّ يمنع حليب الثديين من أن يكون سببًا للحياة، ولأنّ صانعي الحرب يفرحون بنواحها ويعتبرونه إعلان انتصار لهم: “لا تحزني أيّتها الأمّ / حزنك هو خلّ يفسد حليب ثدييك / … لا تهتمّي لنباح الطائرات / … لأنّهم لا يريدونك أن تتوقّفي عن الندب والنواح. / النواح موسيقى تؤكّد أنّهم انتصروا عليك”…
وتحاول الكاتبة أن تقنع الأمّهات بأنّهن خُلقن للبكاء والانتظار شأن حوّاء ومريم وزينب… وفي الوقت نفسه تستنكر وتحتجّ على الموت غامزة من قناة السلاطين وأباطرة النفط: “هل النفط هو أغلى من ولدي؟! / هل غضب السلطان حقّ وأمومتي باطل؟!”.
الموت العراقي
والجبوري تعلم أسرار الموت العراقيّ، وتعرف كيف يوقّع الأهل تنازلاً عن حياة أولادهم لأجل قضيّة تحتمل الأخذ والردّ، لأنّ الناس لم يلدوا أولادهم للتراب قبل الأوان بكثير، إنّما هم أنجبوهم ليشاركوا الله في الخلق وفي صناعة الحياة: “لماذا عليّ أن أتوسّط جاري الحزبيّ ليملأ لي استمارة براءة من قلبي الأصغر / الذي أصرّ أن لا يكون وقودًا لحرب الأشقّاء”.
وإذا كان من ذنب للأمّ العراقيّة فهو أنّها أنجبت في زمن لم يكن صالحًا ومؤاتيًا للإنجاب، لأنّ رياحه تفتح أشرعة الموت حيث السفن نعوش عملاقة والبحر مقبرة كبرى: “ذنبكِ أنك أنجبتِ في الزمن الخطأ / وأنّك حملت شهادة ألم عراقيّة”.
وتدخل الجبوري في تفاصيل الحقيقة، تذكر الأسماء والمكان والزمان بأمانة مؤرّخ معنيّ بكلّ الشهداء، باعتبار أنّهم أولاده بلا استثناء، فعلى سبيل المثال، إنّ حسين كامل، صهر الرئيس العراقيّ صدّام حسين، أسرع في القتل من دعوات المظلومين إلى السماء، وضحاياه لا تعدّ، إنّما تعدّ عظام كلّ ضحيّة على حدة: “لا تفزعي أيّتها الأمّ إذا أخطأتِ بعدّ عظامه / ووضعتِ في الكيس أصابع صديقه الأصمّ، / أو أنّكِ أضعتِ قليلاً وظننتِ أنّ هذه القدم لابنك”.
وصحيح أنّ الموت صعب، غير أنّ ما هو أصعب من الموت طريقة الموت، فها هو أحمد، وحيد أبيه، أخو البنات، يصطاده القدر الأسود، ويُجبر أبوه على تسديد ثمن الرصاص الذي يغتال الأحلام: “… لم يكتفوا باغتصاب رأسك الفتيّ بالرصاص / بل تمادوا بإجبار أبيك على تسديد ثمن الطلقات التي توسّدت فمك”. ومن نص إلى آخر يكتشف القارئ بألم عبقريّة المجرمين في اختراع أشكال غريبة للموت “تخال من الخرافة وهي صدق”.
دموع الأمهات
ومن حيث تدري، أو لا تدري، تنحرف الجبوري نحو العاديّ من الكلام بين ومضٍ أدبيّ وآخر، وكأنّها بهذا الانحراف يتغلّب عليها الألم وتمتلكها الحالة الشعوريّة على حساب الجماليّة، فتبدو الصياغة فقيرة والجملة تحتاج إلى ملء، وتعبئة، وشحن بالإيحاء أو بقليل من الرمزيّة: “ألم تُتخموا أو تشبعوا من فضلات الموتى؟! / لِمَ لم تستيقظ ولو مرّة واحدة ضمائركم؟! وتخجلوا من عزلة الشهداء في قبورهم أو دمع الأمهات وحرقة الغياب؟”…
والجبوري الفاتحة ملفّ الدمع الكبير عند أمّهات العراق، تنشغل بكلّ التفاصيل المحيطة بالفاجعة، تقدّم وثيقة غير قابلة للطعن، وكأنّ نصوصها مرافعات مُحكَمة البناء تملأها الأدلّة والإثباتات. فـ”أم أسامة”، على سبيل المثال، انتظرت ثلاثين عامًا لوصول حزب الدعوة إلى السلطة عام 2003 وشعرت بأبي أسامة قد خرج من أكفان الشهادة وعاد إلى الحياة. واستطاع أسامة أن يرى صورة والده: “ولا يعرف من والده غير ملامح تشبهه تعرّف عليها بعد 2003، حين أطلقت سراح الصورة من أسر صندوقك الخشبيّ، خوفًا من اتّهامك بالتستّر على صورة “مجرم” في حزب محظور”.
غير أنّ أمّ أسامة افترستها الخيبة مرّة أخرى لأنّ السجون لم تتحوّل مدينة ألعاب للأطفال، ولأنّ أسامة الذي يرفض أن يكون في ميليشيا وصلت إليه شباك الإرهاب و”ابتلعته سيّارة رسميّة لترميه متّهمًا في مركز شرطة الصالحيّة لعامين”… وبعد خروجه من السجن “كسب مقاولة الموت” وانتهى شهيدًا…
وقد تكون الجبوري أرادت، عن سابق تصوّر وتصميم، نصوصًا تحتفظ بالحقيقة، بكلّ ما أمكن من تفاصيل الحقيقة، ليأتي الهمّ الجمالي في المرتبة الثانية. وكأنّها تنتظر من قارئها أن يقول لها أوّلاً: “آخ، كم هي موجعة حكايات الأمّهات العراقيّات”، قبل أن يقول لها: “ألله، ما هذه الكتابة الجميلة!”.
ومن أسباب الموت العراقيّ ما لا يرقى إلى الذهن ليكون سببًا. فالموت من اليوميّات، وممكن أن تقترفه كرة تنتقل من قدم إلى قدم في رياضة من المفترض أن تسوّرها روح رياضيّة: “حينما أغاظ فوز الفريق العراقيّ على كوريا سفّاحي تجّار الدم الجدد في بلدك / أسرعوا بتوجيه سمومهم القاتلة في المقهى البغدادي / راح الشباب المحتفلون بدل العودة كما خطّطوا في الشوارع منتشين بانتصار الحياة / عادوا أشلاء متناثرين تناقلت الأخبار سرياليّة موتهم”…
في “أنا والجنّة تحت قدميك” حاولت الجبوري أن تكون كلّ الأمّهات العراقيّات. وسعت إلى إيجاد ما هو مشترك في مجتمع متناقضات لا تحصى، وكان هذا المشترك مأساة الأمومة. وكأنّها بذلك تؤسّس لعراق جديد يستمدّ بياضه من دموع الأمّهات، لعلّ هذه الدموع تنزع شوك الطائفيّة من العقول، وتغسل كرسيّ السلطة فلا يصل إليه إلاّ من يؤمن بأنّ الحياة الكريمة حقّ لكلّ العراقيّين، وتمتزج بالطحين فيصير للخبر طعم الحنان والحبّ، وبذلك ينكسر سمّ الموت وإن بقي على قيد الحياة.