“التراث الشفويّ والـمادي في بيروت الأمس” في ندوة مركز التراث اللبناني- الجامعة اللبنانية الأميركية

محاضرةُ هذا الشهر لـ”مركز التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأَميركية تناولت التراث الشفويّ والـمادي في بيروت الأمس مع الدكتور نادر سراج والمحامي عبداللطيف logoفاخوري، في ندوةٍ حضرَها ممثّل رئيس الحكومة تمام سلام الدكتور أمين فرشوخ، والوزير السابق محمد يوسف بيضون ونقيبا الصحافة والمحررين محمد بعلبكي والياس عون، ورئيس الجامعة الدكتور جوزف جبرا، وجمعٌ من المثقفين والمهتمّين بالتراث اللبناني وتراث بيروت تحديداً.

افتتح المحاضرة مدير المركز الشاعر هنري زغيب بكلمةٍ أشارَ فيها إلى “أهمية التراث الشفويّ في حفظ الذاكرة، والتراث الماديّ في الإبقاء على عناصرِها حيةً متنقّلةً من جيلٍ إلى جيل”، وأشار إلى “البيارتة القدامى وعيشِهم الهنيّ أُسرةً واحدةً بعائلاتٍ روحيةٍ متعددة موزعة على أحياء بيروتية متمازجة مختلطة سعيدة”.

القسم الأوّل من المحاضرة كان للدكتور نادر سراج: “أَهَـمِّيَّةُ الـمَصادِر غيرِ التقليدية في عمليّة جَـمع التراث” انطلاقاً من تكوينه العلمي لسانياً اجتماعياً مهتماً بمسائل التواصل ومركزاً على الرواية الشفوية في دراساته اللغوية التطبيقية ودراسة العلاقة بين العمران والمنظومات اللغوية والثقافية والفكرية وصولاً إلى تاريخ المدن السوسيولوجي. لذلك أشار في مداخلته إلى أنّ “بين المصادر غير التقليدية: الصورة الفوتوغرافية، تذكرة الهوية، الوثائق الخطية، المراسلات، الطوابع التذكارية، البطاقات البريدية” وسواها مِمّا سمّاها “أنسجة الإثبات والتغيير”، وفيها “المذكّرات الشخصية أو الحسابات الفردية والعائلية، إضافةً إلى الروايات الشفوية الملمومة من الأولاد والأحفاد حكاياتٍ ونوادِرَ ومعلوماتٍ ومعالِمَ تُفيدُ عَمّا توارَثَهُ جيلُ اليوم من جيل الأمس وما قبله من أجل بناء ذاكرةٍ قوية متماسكة تحفَظُ تراث العائلة ومعه تراث المدينة بلوغاً إلى تراث الوطن”. واتّخذ نادر سراج كتابه “أَفَنْدي الغَلْغُول” نـموذجاً لمداخلته مؤكّداً على “دور المرويات الشفهية في تشييد الواقع الاجتماعي انطلاقاً من التاريخ الاجتماعي بين ربط اللسان بالعمران والحراك الاجتماعي، وتوظيف منسيات التاريخ والوثائق المصاحبة”.

المشاركون في الندوة

وفي هذا السياق عدّد سراج شواهد عدةً للوثائق التي طالَها بوضع كتابه بين مكتوبٍ ومرويّ معتبراً أنّ “استحضار الرواية الشفوية أساسيٌّ وضروريّ لتوظيفِها في المتن المكتوب بعد التدقيق في الرواية الشفوية وانتخاب معطياتِها على أُسسٍ منطقيةٍ وعلمية. وبذلك يتمّ المزج بين التقنيتَين: السَّرد والتأريخ، “لأن الكاتب عندئذٍ يتحوّل راوياً وناسِجاً من جديدٍ وقائعَ التاريخ وإثباتات الوثائق. وعندئذ ما تقصّر عنه وثائق الأحوال الشخصية والمذكرات الفردية والمدوّنات اليومية والمراسلات العائلية تعوّضه الرواية الشفوية المـُستَقاة من قائليها بعفويةٍ وبدون تكلّف فتكون جديرةً بالدرس والاعتناء ويمكن الوثوق بها والبناء عليها، استناداً إلى تقنيات في الرصد والجمع والتحويل والتحليل والتدوين والمقارنة والتدقيق العلمي، وهكذا تتحوّل المصادرُ غيرُ التقليدية مصادرَ علميةً في عملية جمع التراث”.
عبداللطيف فاخوري

في القسم الآخر من المحاضرة روى المحامي عبداللطيف فاخوري “ملامح نوستالـجيّة من تُـــراث بـــيروت أَيَّــام زمان” مستنداً إلى “حياة البيارتة وأحوال بيروت ودورِها المحوريّ بين لبنان ودول الجوار مدينة مشتركة ضمّت الكثير من التراث المسيحي والكثير من التراث الإسلاميّ حتى سميت منطقة التأثّر والتأثير”. وفي هذا السياق “كانت الاحتفالات الدينية بين المسلمين والمسيحيين في تمازج شفوي واجتماعي، منه مثلاً أن يختم العلاّمةُ أحمد بن حجر الأنصاري مخطوطته عن المولد النبويّ الشريف بعبارة “أبد الأبدين ودهر الداهرين” المصادفةِ العبارة المسيحية “الآن وكلّ أوان وإلى دهر الداهرين”، ومنها إطلاق بعض المسيحيين اسم عمر على أبنائهم، أو استخدام مسلمي بيروت دارة يونس نقولا جبيلي للاحتفال بمناسبات أفراحهم وأعراس أولادهم، ومنها قيام مفتي بيروت وقاضيها الشيخ أحمد الأغرّ بنظم موّالٍ يتقرّبُ فيه من عائلةٍ مسيحيين كان شابٌّ مسلم يرغب في الزواج من ابنتهم”.

henry-11-1
جانب من الحضور

وروى الفاخوري أن والده مصطفى ولِد ليلة الميلاد سنة 1909 فألبسه والداه مسوحَ الرّهبان وتقاطرت جارات الحي المسيحيات يقدّمن للمولود الجديد أيقوناتٍ ذهبيةً تحملُ صور القديسين واشتهر المولود الجديد في الحيّ باسم مصطفى ميلاد. وحين كَبُر الصبيّ مصطفى وانتسَب إلى مدرسة الإخوة المريميين في الجميزة، حَفِظ بالعربية والفرنسية “أبانا الذي في السماوات…”، وكانت والدته تزهو بأن ابنها يتعلّم في المدرسة الصلاة المسيحية وفي البيت صلاة المسلمين. ومِمّا روى الفاخوري أنه كان في صغره يَسمع من جدّته وعمّاته عبارة “فلانة دَبّت ياليسون” عند وقوع حادثة، ثم اكتشف لاحقاً أنها كلمة “كيرياليسون” يستعملها المسيحيون ومعناها “يا رب ارحم”. وذكر الفاخوري أن “لم تكن في بيروت القرن التاسع عشر مناطق مخصصة للمسيحيين وأخرى للمسلمين بل كان التجاور متمازِجاً بين الجميع، فكانت أسرٌ مسيحية تسكن في جوار زاوية الإمام الأوزاعي في سوق الطويلة بينما كانت أسرٌ إسلامية تسكن في جوار الكنائس”.

وختم الفاخوري مداخلته ببيانٍ أذاعه مطران بيروت بالأصالة والنيابة عن رؤساء الطوائف المسيحية عندما قصف الأسطول الإيطالي بيروت سنة 1912، وجاء في البيان: “إن أديرة النصارى وبيوتَهُم في جبل لبنان مفتوحة للأولاد والنساء من المسلمين الذي نحن معهم في السرّاء والضرّاء”.

وكان ختام المحاضرة بأسئلة وحوار بين الجمهور وكِلا المحاضرَين حتّى أعلن مدير المركز عن المحاضرة المقبلة حول “تاريخ البيت اللبناني” مع المهندسَين المعماريَين أنطوان لحود وأنطوان فشفش، وملصقات عن بيروت من المهندس بهاء رفاعي.

اترك رد