بقلم: الكاتب غازي شعبان
ثمة مصطلحات كثيرة يجري استخدامها بغزارة في التحليلات السياسية، التي تنشرها الصحافة اليومية والأسبوعية، وكذلك في الدراسات التي تنشرها الدوريات الشهرية والفصلية، فضلاً عن الكتب المختصّة، وذلك من دون مراعاة مدلولاتها العلمية المحدّدة والملائمة، حتى أنها تكاد في عيون القرّاء وأذهانهم تكتسب معانيَ سطحية تصرفها عن مدلولاتها الصحيحة والدقيقة.. من هذه المصطلحات كلمات مثل “جيوبوليتيكا” و”جيوستراتيجيا” و”جيوسياسي” “وجغرافيا سياسية”.. فما هو مصدر الإبهام والغموض في استخدام تلك المصطلحات، وما هو تفسيره؟
يشهد المجمتع الدولي الإنساني الراهن تكوين نظام عالمي جديد، عصبُه اقتصاد السوق المتخطّي للدولة ـ الأمة، الدولة الحامية. نظام عالمي متعدّد الأقطاب على أُسس القوة الاقتصادية، بحيث تكون السياسة في خدمة الاقتصاد. إنه عصر المصالح الحيوية المتنافسة على الموارد، التي تشكّل بذاتها سبباً أساسياً، وجوهرياً للنزاعات الساخنة.
استبَقَ الفيلسوف الفرنسي جان غيتون (Jean Guitton) فرنسيس فوكوياما باستخدام مصطلح “نهاية التاريخ”، عندما أطلق في العام 1969 مصطلح “ميتا – استراتيجي” (Meta strategie) آخذاً بالحسبان استخدام السلاح النووي في الحرب العالمية الثانية بإحراق هيروشيما وناكازاكي بالجحيم النووي. هذا الاستخدام جعل البشرية تدمر نفسها بنفسها، ولأول مرة، بفعل إرادي. فالقرار المتخذ باللجوء الى السلاح النووي من قبل الرئيس الأميركي، في حينه، وصل بالمرحلة التاريخية إلى نهايتها، والدخول في مرحلة تاريخية جديدة. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن الذهنية والخلفية الثقافية والأخلاقية تجاه الإنسانية، انطلقت من ثقافة Yomigi التي تقوم على سحق الآخر وإبادته. كما أنها تتجاوب مع مقولة الأميرال ألفرِد ماهان بنظرة استعلائية ودونية تجاه الآخر: “إن بلادنا (أي الولايات المتحدة) واحة خضراء في صحاري البرابرة”. وجد غيتون في هذا الفعل التدميري ضخامة في العنف، ومسافة ما ورائية ميتافيزيقية. لذلك طرح بالضرورة أن تجتمع الاستراتيجية إلى الفلسفة، كون الثانية ذات بُعدٍ إنساني، وبإمكانها ضبط القوة القاهرة، وتحجيم العنف التاريخي
.
إذا عدنا إلى كتاب “نهاية التاريخ”، نجد أن معنى ذلك هو نهاية مرحلة تاريخية محدّدة، نهاية نظام له علاقة جديدة بالسلاح النووي، وانطلاقة عصر جديد. والمعروف أن الاتحاد السوفياتي حصل على سلاحه النووي، في العام 1949، وتبعته بريطانيا، ثم فرنسا في عهد الرئيس شارل ديغول، في ستينيات القرن الماضي.
استمرت مرحلة الحرب الباردة، أو العصر النووي، ما يقارب نصف القرن، أي حتى العام 1989، حينما انهار جدار برلين، الذي وضع حداً لها، وأنهى مرحلة تاريخية، ليَدخل المجتمع الدولي الإنساني عصرَ القطب الواحد. وهي مرحلة اعتقد البعض أنها ستدوم قرناً من الزمن، لكن سرعان ما اتَّضح خطأ هذا الاعتقاد.
لم يكن مصطلح “جيو- ستراتيجيا” معروفاً من قبل. وكان أوَّل من أطلق هذا المصطلح هو الجنرال الإيطالي Giacomo Durando في كتابه عن القومية الإيطالية، وهو عبارة عن دراسة سياسية عسكرية صدرت في كتاب، العام 1864. ثم عاد هذا المصطلح إلى الظهور في العام 1955، عندما اعتبر الأميرال Celerier أن الجيوستراتيجيا هي نظرية التضاد والتعارض بين الدول، أو بين قوى سياسية متنافسة ومتخاصمة، على الدوام. واستُخدِم مصطلح “جيوبوليتيك”، للمرة الأولى، من قبل السويدي Johan Rudolf Kzellan أستاذ العلوم السياسية في جامعة Gotenberg، وهو يرى أن للعوامل النفسية الجغرافية، بوصفها أرضاً لحياة دولة، أربعة أشكال: فهي مسرحٌ لنشاط الدولة الاقتصادي، ولشعب بخصائصه الوطنية والعرقية، ووعاء لحلم في مظهره الدستوري، ولطائفة اجتماعية بطبقاتها وأعمالها.
استعاد الاستراتيجي الفرنسي الجنرال Lucien Poirier مصطلح “ميتا استراتيجي” بمضمونه الماورائي بالتفكير بإعادة النظر في تنظيم الحسابات الاستراتيجية على أساس السلاح النووي؛ بعدما دخل العالم عصر سباق التسلح، وتراكم المخزون، وتطوير الصواريخ الحاملة للرؤوس النووية العابرة للقارات. وترافق ذلك كلُّه مع نشاط علمي مُركَّز على تكنولوجيا عسكرة الفضاء الخارجي.
توّجَ الجنرال Poirier نظريته بإمكانية حصول موت جماعي تاريخي للبشرية، تفرض انقلاباً جذرياً في الفكر السياسي الاستراتيجي، مضيفاً: “إن الاستراتجية العسكرية لا يمكن أن تكون أداة للسياسة، أياً كانت هذه السياسة”. وهذا ما يفرض على الدول إعادة النظر في حدود حريتها وسيادتها. كذلك يفرض مواجهة كل حالة نزاع، بتحليل طبيعتها بدقة، لمعرفة ما هو ممكن من أجل تقدير حجم العنف الضروري، ومبلغ شدّته، لتحقيق الهدف الاستراتيجي. أما المفكر والفيلسوف الفرنسي J.P. Charnay فيقول: “علينا أن نجعل من الميتا-استراتيجي نظاماً تلقائياً يضمّ التغييرات في السلوكيات من خارج البيت العسكري، ولكن من دون التخلّي عنه”.
أين تكمن قوة الدولة؟
لما كان لكل مرحلة تاريخية مصطلحاتها ومضمونها ومفهومها، فإن الاستراتيجية في عصر الحرب الباردة وسباق التسلح، تعني خروجها من إطارها العسكري المحض، إلى الاستراتيجية الشاملة والاستراتيجيات الكونية؛ وذلك بفعل تطوّر تكنولوجيا الاتصالات والمواصلات وتطوير الأسلحة التقليدية ومداها. أضف إلى ذلك النزوع الدائم نحو المصالح الحيوية والمجال الحيوي.
يذهب الخبير والمستشار الاستراتيجي الدكتورBertrand Lang، في معرض تعريفه، أو توصيفه، للاستراتجية، إلى القول بأن الاستراتيجية هي تطبيق عملي، ونظام تفكير ابتكاري مبدِع، بالفعل والأداء؛ فالمطلوب أن نعمل من حيث ما هو مقرر وموجَّه. إنها نمط وأسلوب تفكير ابتكاري مبدع يتفاعل مع الرؤية والتصور والتخيُّل بأننا “نعرف كيف نفكر ونعرف كيف ننفّذ” (“Savoir Penser Savoir Faire) . وفي مجال التفكير والتخطيط يُفترَض بالاستراتيجي أن يكون متحرراً من كل ذهنية وتفكير مسبَق، مبتعداً قدر الإمكان، عن الخلفية الثقافية والعقائدية، ما يؤثر سلباً على تفكيره وابتكاره، ليكون حكماً نزيهاً متجرداً في تصوره الاستراتيجي. وعليه أيضاً أن يكون عارفاً بالحقائق المادية والوقائع الطبيعية، وبتقديره للإمكانيات والطاقات المُتاحة، في عملية بناء الدولة وقوتها. ومن هنا قدرته على معرفة وتحليل أنماط الآخر السلوكية، وتطلعاته وأهدافه التوسعية، لأن الشعوب تسعى إلى احتلال القوة والمقدرة، ولها أطماع دائمة في التوسع والهيمنة، ولاسيّما إذا كان الجار والمحيط في حالة ضعف.
لكن هل ثمة استراتيجي يرسم الأهداف متحرراً من خلفيته ونظرته المستقبلية؟ أم إنه يبقى مرتبطاً أساساً بأهداف وتطلعات مجتمعه ودولته وكيانه السياسي؟ ذلك أن السياسة هي المنظم والناقل لتصوراته. وليس من هدف سياسي إلا الفعل في المستقبل. ولا بدّ، من أجل ذلك، ومن أجل بلورة المشروع الاستراتيجي، من أخذ المتخيَّل والمتصوَّر بالحسبان.
إذا اعتبرنا أن الاستراتيجية، بالمفهوم العام السائد، هي القوة العسكرية، فإن استراتيجية الدولة والمجتمع لا تنحصر في قوتها العسكرية وقدرتها الدفاعية فقط. فالواقع أن استراتيجية الدولة وقوتها وقدرتها متلازمة، قبل كل شيء، مع إرادة مجتمعها وتماسكه، وما يحمله من مبادئ وقيم إنسانية خلاقة، وأهداف تسمو إلى الرفاهية والعدالة وتوازن مصالح الطبقات. فالخلل في هذا التوازن الاجتماعي يشكِّل حلقة ضعف، ويفتِّت القوة، لأنه يسهِّل عملية الاختراق، ويُحدِث بلبلةً في النسيج الاجتماعي الثقافي التعددي.
إن قوة الدولة في استراتيجيتها الشاملة الجامعة، نابعة من كونها استراتيجية سياسية لتحديد الأهداف، ورسم السياسات، وتعزيز الإرادة، واستراتيجية اقتصادية تنموية بهيكلة الاقتصاد وتفعيل الإنتاج وتطويره، واستغلال الموارد الوطنية، التي هي ملك المجتمع. وهي أيضاً استراتيجية تتلازم مع استراتيجيتها التربوية، ومع احتياجات المجتمع، وتكامله، وفق خطة مرحلية لتعزيز الفرص وتشجيع النمو والتطور الثقافي ليتلاءم مع التطور الإنساني وتقدم العلوم ومسارات الثقافة.
إن علاقة القوى بعضها ببعض، أي مع الآخر، تفرض هذا التكوين للتوازن الاستراتيجي في الجوار والإقليم، وحتى تجاه العالم، ما يردع الأطماعَ التوسعية للطامعين. إذا استخدم السلاح النووي بفصله عن الضمير العالمي الإنساني، فإنه من الصعب على الإنسانية أن تسمح بالعودة إليه، والعيش في ظل الرعب من الفناء. لذلك ذهب العملاقان النوويان إلى اتفاقيات “سالت1″ و “سالت2″ للحدّ من سباق التسلح وتخفيض فائض المخزون بتدميره.
الاتحاد لا يقوم على العرق
لا يغيب عن الباحث المتابع أن مرحلة الانفراج في العلاقات الدولية، لم تفرز مصطلحاتها السياسية. بل جرت استعادة مصطلحات تعود جذورها ومضامينها إلى زمن بعيد. ففي أواسط سبعينيات القرن الفائت عادت الجيوبوليتيكا، والجيوستراتيجيا، والجغرافيا السياسية، بشكل نشِط إلى أعمدة الصحف، في المقالات والتحليلات السياسية والسوسيوسياسية، وهي مصطلحات ليست جديدة، فجذورها التاريخية قديمة، وقد أُعطِيت لها عشرات التوصيفات والتعريفات، ومع ذلك لم يتوصل العلماء والخبراء حتى اليوم إلى الاتفاق والتوافق على تعريف تقريبي دقيق.
يرى Fredrick Ratzel (1844- 1904) مؤسس الجيوبوليتيكا الألمانية، أن الجيوبوليتيكا تدرس العناصر العضوية المكوِّنة للمجتمع الدولة، مفسحاً في المجال أمام التوسع الذي تحدث عنه، فيما بعد، الجنرال هوشفور، تحت مصطلح “المجال الحيوي”. كما يرى أن الجغرافيا السياسية هي مثلَّثٌ مكوَّنٌ من: المقدرة، والشعب، والأرض. فالأمة هي مجموع رجال متَّحِدين بشعور الانتماء إليها. وهذا التوحد لا يقوم على العرق. كما أن الشعب مكوّن من مجموعة أفراد وجماعات مرتبطين بالأرض والمجال المشترك. أما البعض الآخر من علماء الجغرافيا، فقد أطَّر الجغرافيا السياسية بعلاقتها بالدولة والسلطات والتنوّع السياسي والتعدّد الثقافي بين الجماعات، لترسيم الانتخابات. وهي غير الجيوبوليتيك التي لها توصيفات ومضامين أخرى.
أما مؤسس مدرسة الجيوبوليتيكا الفرنسية Yves Laeoste، فإنه يرى أن الجيوبوليتيك (أو جيوبوليتيكا) تدرس وتحلل قوى المنافسة والتعارض بين السلطات على أراضٍ محدّدة ومتجاورة؛ أي أن الجيوبوليتيك هي دراسة الصراع بين الدول في الخارج، وبين الجماعات المتعارضة في الداخل. في حين يطرح Ladis K.D.Kristolf السؤال التالي: هل تختلف الجيوبوليتيكا عن الجغرافيا السياسية؟ ويجيب إن الجغرافيا السياسية تتمركز حول العوامل الجغرافية لتعطي تفسيراً سياسياً. أما الجيوبوليتيك، فإنها تتمركز حول العامل السياسي لتخلص إلى تفسير جغرافي، وتدرس المظاهر الجغرافية لهذه العوامل. والجيو- ستراتيجيا هي دراسة تصنيع، أو تكوين المجالات الجغرافية بفعل الحرب، وتُشرِك في ذلك جغرافيةَ كلِّ دولةٍ، وواقعَها التاريخي والسياسي.
*******
(*)ىمؤسسة الفكر العربي – نشرة افق