منيرة مصباح
الثقافة العامة من الصور أو المفاهيم التي تحتل مكانة خاصة في الفكر الاجتماعي والسياسي، فهي بؤرة تجتمع عندها عناصر رؤية للسياسة والاجتماع تغذي الخيال التاريخي للإنسانيةمنذ زمن طويل، فالعامة هي العام الشامل، وهي طلب العدل واحقاقه، وهي حركة التاريخ وتجدده، وهي الحياة الحرة بعيدا عن القمع والظلم وهي أيضا المساواةوهي أشياء أخرى لا تقل جمالا وخيرا. كما انها الرد المتجسد على الجمود وعلى الرتب والحياة السجينة وعلى الموت الذي يأخذ بأطراف التجدد المستمر. العامة هي وولت ويتمان الشاعر الذي امتلأت أوراق عشبه بالنجوم المتساقطة، كما وأنها امرؤ القيس وألف ليلة وليلة وحيفا ويافا وما هو قائم الان رغم كل ما حصل ويحصل من مجازر وابادة.
وما ذكرته هو مزيج من وقائع وأخيلة، وبهذه الكلمات هناك ملجأ تستقر فيه الاحلام وتنزل فيه الكتابة. وبهذا المعنى فهي مبدأ فعل وحركة تفتح زمنا ومستقبلا بقدر ما تشق احتمالات وترسم إمكانات. أما نشر العدل وطي صفحة الظلم – التي لا تنطوي ولم تنطو عبر التاريخ -لاستقبال الزمن المتجدد،فلن تقوم به ألا بشرية متأخية ومتساوية.
غير ان الثقافة العامة هي تاريخ أيضا، انها ما مضى وانقضى وتحقق، والعامة حينتحمل مفاهيم “اليوتوبيا” عليها النظر الى الخلف من اجل تحقيقها والاستفادة من تجاربها. أما الادب فهو بناء يقدم رؤيا بعيدا عن محاكمته عبر المواقف السياسيةوالاجتماعية. والادب عامة يعبر عن تجربة معرفية وعن فيض من المخيال والصور والابداع المرتبط بالبناء اللغوي والفكري لدى الكاتب.
في القرن الماضي بعد انهيار آخر الاوهام، رحل اميل حبيبي مخلفا وراءه مجموعة من الاعمال الادبية الرائعة، “سداسية الايام الستة، لكع بن لكع، اخطية، سرايا بنت الغولة، الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد ابو النحس المتشائل، لكن مع رحيله لم يرحل الوجود الانساني الفلسطيني، ولم يبق محفورا فقط على شاهدة قبره “باق في حيفا”، ولكن بقي عبر صوت “يعاد” وهي تصرخ: “هذه بلدي وداري وهذا عمي، وكان سعيد هو عم يعاد في رواية المتشائل، حيث كانت تقول له فيها: “الماء لا يترك البحر ياعماه، انه يتبخر ثم يعود في الشتاء، يعود انهارا وجداول، ولكنه يعود”.
هكذا ادب اميل حبيب لم يغب في غيابه، انما يعود كما الماء المتبخر انهارا وجداول في الذاكرة الثقافية الفلسطينية والعربية.
ولد اميل حبيبي في حيفا في فلسطين عام 1920، وتوفي في حيفا اسرائيل! عاش دائما بين ضفتي الجرح موزعا بين الماضي والمستقبل، بين الوطن والمنفى الداخلي، بين السياسة والادب، ناثرا سخريته المريرة كالعدوى الشافية، مخاطرا بالوقوف فوق المطبات الوعرة والاراضي المزروعة بالالغام.
انخرط اميل حبيبي مبكرا في العمل السياسي ولم يحترف الادب الا متاخرا، ليكون ثمرة لتجربته ونضجه، وملاذا ليأسه ومكانا لمواجهته الفعلية في الدفاع عن هويته الفلسطينية، تماما كبطل روايته، الوقائع الغريبة لاختفاء سعيد ابي النحس المتشائل. عايش مأساة ضياع فلسطينو ولادة الكيان الصهيوني وتعلم كيف يواجهه ويشق لشعبه مكانا فيه، بعيدا عن كل الشعارات التي اختبأ وراءها كثيرون غيره، عبر تضخيم صورة العدو وعبر التمسك بصورته غير الواقعية.
واذا كان اميل حبيبي قد اخطأ في بعض المواقف، فهو قد اخطأ عن الجميع ليحفر اسم هويته الفلسطينية في ذاكرة شعبه الجماعية، كما قال عنه الراحل محمود درويش ابان تأبينه حيث تساءل وهو يعلم ان الاقانيم الثلاثة لفكرة الحرية والعدل والسلام قد زرعها اميل حبيبي في تربة فلسطين، كانه اتم مهمته وساهم في هذه النقلة الصعبة بين زمنين تاركا الاخرين ان يواصلوا المغامرة في لعب دور البطل، ليستدرج الشهود في رجمه بتهمة الوطن.
قال محمود درويش :
” هل انتصار الأطار هو هزيمة المعنى؟ وهل هزيمة الاداة موت الفكرة؟ ”
لكن اميل حبيبي بقي بجانب العامة في كتاباته الاستفزازية، ذلك العنصر الحيوي في الحياة الفكرية والأدبية، الذي يكشف الغوغاء ويعري اللغة من مفرداتها الميتة ويدفعنا الى البحث عن مخارج فعلية لازماتنا السياسية والفكرية والحضارية، وهي تلك الاستفزازية نفسها التي نجدها في روايته مع المتشائل، الذي يجمع بين (دون كيخوتيه، وشفايك، وجحا، وكانديد).
فالسخرية كما قال اميل حبيبي نفسه: “هي مانع الصواعق الذي أنقذني من الاحتراق وانا اكتب عن مأساة شعبي.”
لقد كان الجرح الفلسطيني العميق النازف، هو المرجع الوحيد في كتاباته، كما كان في كتابات غسان كنفاني وجبرا ابراهيم جبرا منذ اواسط القرن الماضي. حيث كان غسان كنفاني مشروعا ادبيا لم يكتمل واصواتا عديدة لم يتح لها الوقت لتتمازج وتتحد وتصب في اناء واحد، وان كان قد اعطى اعمالا بارزة مثل رواية ام سعد وعددا من الروايات التجريبية التي كان يبحث من خلالها عن صوته الاشد حميمية ومعانقة للقدر الفلسطيني التراجيدي. وكان جبرا مرتبطا روحيا بجذره الفلسطيني في القدس وبيت لحم، وبقي هذا الجذر يشده على الدوام حتى ظهر في ر وايته الرائعة والاهم ” البحث عن وليد مسعود”. واستمرت فلسطينية جبرا تتجلى على نحو روحي في اعماله الاخرى، لتذكرنا بما كتبه ادوارد سعيد عن سيكولوجية المنفى وانعكاساتها النفسية عليه.
اما اميل حبيبي فهو يختلف عن الاثنين فقط لانه ظل في الوطن، وبقي في مواجهة يومية ومباشرة مع العدو. وبالتالي عرف هذا العدو الخصم معرفة مباشرة. وربما تكمن هنا بذور النظرة الساخرة او “المتشائلة” في تلك التفاصيل اليومية للمواجهة وانعكاساتها على النزعة المقاومة. اضافة الى ذلك كان متشربا بالروح الفلسطينية كما تتجلى في الموروث الشعبي والحكايات المتوارثة حيث اخذ منها عنوان روايته ( سرايا بنت الغول).
لقد ازهر سعيد ابي النحس المتشائل في الرواية، بوصفه شخصية خاصة تحمل التفاؤلوالتشاؤم ، معجونة بنكهة مأساة ارض لم يبارحها جغرافيا ولا تاريخيا، ولا حتى بالذاكرة التي تمتلئ بالحنين الجارف واليأس الكسير. لذلك فقد كتب اميل حبيبي نوعا خاصا جدا من الشوق الذي لا يعرفه الا من يكابده. فهل كتب شوقه المأساوي في حالة من الالتباس، من اجل وضوح ما؟ لقد توهج المتشائل في الاحتراق بنارين:
نار أهلية لا تسمع الا صوتها،
ونار نازية اسرائيلية مازالت قائمة لا تتوقف.
لقد حمل اميل حبيبي في عينيه حلمه المكسور ورحل كما حمل سطوة اليأس على الحنين ازاء السماوات والطائرات التي لا تعيش الا من الانتقام من الارض والناس، وهو يردد ماقالهالمتشائل: “وضعت يدي فوق عيني فاغمضتها، حتى لا ارى النهاية كما رايت البداية”.