نظم “اللقاء الثقافي” في بعلبك حفل توقيع رواية “عائد إلى…” للكاتب الأديب سعيد أبو نعسة، في مقهى Sol Bistro مقابل قلعة بعلبك الأثرية، بمشاركة حشد من المهتمين بالشأن الثقافي.
وقدم الحفل رئيس “اللقاء الثقافي” أحمد شيبان.
جمعة
واعتبر الأديب والشاعر سليمان جمعة في قراءته للرواية، أن الكاتب “قرأ قضية فلسطين المعمرة قرنا من الانتظار بين دم ودم، حتى أثخن الجسم، وكاد أن يلفظ أنفاسه لولا ثلة نذرت نفسها شهادة للحق. فكرته هي موقفه من القضية بظل رؤية واضحة، فكرة أسماها السر الأعظم اسما مهيبا وغامضا في آن، ولكي يبلورها اقترح لها حياة افتراضية أمدته القضية يمفرداتها وشخوصها ولكن هذه الحياة لا تمثل القضية وان كانت منها”.
ورأى أن “البنى المعرفية التي شكلت حركة المعنى المتولد من القراءة، هي: بنية الشيخ الجليل، الجغرافيا، تجديد الخطاب الديني، العائلة قبل التهجير وبعده، الآخر أي الموازي السلبي للشيخ رشيد المعبر عنه ب (ع.غ) والشعب المضيف، والشعب العدو المتمثل بالسلطة ورجال التحقيق والسجن، الأقوال المأثورة والأمثال الشعبية، والسر الأعظم”.
وأكد أن “الرواية تكشف لنا شخصية ثقافية تنتمي إلى بيئتها ولغتها وموسوعتها المعرفية ونصها الأعلى، أي بروحيتها الانسانية. تلك الشخصية تحاور رؤية النص، أي الرواية، من خلال بناها المعرفية تحت سقف مرجعية معروفة هي القيم والقانون المعترف به دوليا، وكذلك الشرع الذي يأذن بالقتال لمن أخرج من دياره قسرا ليسترد حقه. لذا فالرواية تسعى لبناء شخصية ثقافية تؤمن بتلك البنى وروحيتها التي تستمدها من تلك المرجعية، ومن ذاتها”.
وأضاف: “الحياة المقترحة الممكنة تعترضها صعوبات فتحاصرها، والرؤية تجد لها منافذ ذات أبعاد روحية وإنسانية تفك حصارها فتحقق بذلك سلامها النفسي وثقتها بذاتها. وذلك هو مفهوم الكتابة لإعادة التوازن بعد ان يسود التشظي والضياع والعبث والتخلي”.
واعتبر جمعة أن “الكتابة هي مشروع تغيير من حال إلى حال كما هو معنى عائد من .. إلى عائد إلى.. أي استشراف غد”.
نون
وأشار الأخصائي النفسي محمد نون إلى أن “الرواية هي عن عودة كاتب روائي للجذور التي لم يولد فيها، لكنه قد تشرب فكرة العودة قبل ولادته، لأنه الطفل المختار في نبوءة والده، وقد حمل على عاتقه هذه المهمة منذ نشأته، من خلال رؤياه الخاصة ودورها التوجيهي في مسار الأحداث”.
وأكد أن “البعد عن الوطن الأم لفترة طويلة يترك أثرا على إحساس الشخص بهويته وانتمائه. في هذه الرواية، بطلنا رشيد كان يعيش صراعا داخليا بين هويته البعلبكية التي نشأ عليها، وهويته الأصلية المرتبطة بوطنه من خلال حديث الأهل والأقارب والجيران في المخيم، هذا الصراع يعكس مشاعر الاغتراب والبحث عن الذات، حيث يحاول الكاتب إعادة تعريف هويته في ضوء التجارب الجديدة والماضي الذي لا يمكن نسيانه”.
وختم: “الرواية تعالج قضايا نفسية عميقة تتعلق بالحنين، الهوية، التكيف، الأمل، والخسارة الشخصية. يواجه “رشيد” صراعات داخلية معقدة، بينما يحاول التوفيق بين ماضيه وحاضره، والأمل بمستقبل أفضل، وبين ذكرياته وتوقعاته. هذه القضايا النفسية تجعل من الرواية غنية بالتجربة الإنسانية وما تعنيه العودة إلى الوطن بعد غياب طويل، وتتحدث بقوة عن التطوير الفكري والتنمية الثقافية والمرونة الفكرية بمسمياتها وعلاقتها بالسر الأعظم حسب تعبير الكاتب. هذه العوامل تجعل من رواية “عائد إلى …” وبطلها الرشيد عملاً أدبيا مؤثرا يعكس العمق النفسي لتجربة الفلسطينيين في بلاد اللجوء وتعزز فكرة ما يمتلكه هذا الشعب من أفق فكري وثقافي وتنموي مؤثر”.
طليس
ورأت الدكتورة سمية محمد طليس أن “للحكايةِ فلسطينها، طالما أنَّ النزف يترك النيات تستقر في التراب، فتأتيك الذات الحالمة لتكمل تفاصيل السياقِ، بما يحرّض فكرك النقدي، لذا تستهل السياق برواية “عائد إلى…” لتتبين أدبيتها وفاق عنوان: “تصنيفات وعي الذات الفلسطينية المثقفة على وقع إشكاليات الاختزال والاختراق الثّقافي”.
وأشارت إلى أن”العنوان الموسوم بنقاطه الثّلاث، يُضمر جدلية الذات الفلسطينية المنقسمة على حضورها، بفعل الهوية الأصيلة المخترقة، من دون مقدمات، بما يربكها ويعطل سيرورة حياتها المنهجية، إذ شكّل الإنفصال، الانسلاخ الطّارئ عن المكان فلسطين بقراه ومدنه، تحديدا قرية عين ماهل، تزويرا لإرادة المواطن الفلسطيني، وصدمة عطّلت الحركة الديناميكية الزمنية بأبعادها الثّلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل”.
وأردفت: “يقدم بناء الرواية سيرة رشيد الذاتية، وهو البطل المحوري، رجل الدّين والكاتب والمثقف الفلسطيني الذي التأمت حول يومياته الأزمات والتحديات منذ بداية طفولته، وبعد صدمة مناوئة رغبته في استكمال تحصيله العلمي الأكاديمي، إذ ألحقه والده قسرًا بالمعهد الديني في بيروت، وبعدها بالأزهر في مصر. وورث رشيد اللجوء بالوكالة في مخيم الجليل في بعلبك، وكذلك ورث حلم عودة الاتصال بالجذور في المكان عينه، لذا تجاذبته نزعتان حادّتان مرتبطتان بفضائين زمانيّين ومكانيّين مختلفين هما: نزعةُ العودة إلى فلسطين المستوجبة إرادة وتخطيطا، ونزعة التشبث ببعلبك فضاء ذكريات الطفولة والشباب، على الرغم من قساوة المعاناة فيها”.
أبو نعسة
وبدوره قال الكاتب أبو نعسة: “يفرح قلبي وينتشي، وأنا أرى أمامي هذا الحشد المثقف، يتعلق بأهدابِ الأدبِ المقاوم، فأوقن أن الوعي قائم، والتنوير قادم. حضوركم تشريف لي، ووفاء كبير لفلسطين التي في عيونكم تزغرد، وفي قلوبكم تنبض، وعلى ألسنتكم تصدح بنشيد العودة والنصر المؤزر. عودة يرونها بعيدة، ونراها أقرب إلينا من حبلِ الوريد”.
وتابع: “كنت أختلس النظر إلى أمي، وهي تبالغ في إخفاء كيس مخمليٍ أحمر صغيرٍ في صدرها حيث القلب. طمأنت نفسي: كيس كهذا لا يخفي إلا الذهب الرنان… غافلتُها ذات مرة؛ فتحت الكيس وذهلت: حجر صغير أبيض، على هيئة كعكة؛ قرش مثقوب أسود؛ ومفتاح موشى بالاخضرار. صارحتُها فتنهدت: الكعكة جبلتها من ثرى الجليل بدمع الوداع، القرش شاهد على دولة كانت تسمى فلسطين، وسيبقى اسمها فلسطين، وهذا مفتاح بيتنا الصخري في عين ماهل؛ صدئ قليلا، لكنه ما زال قادرا على فتح الباب. ووالدي كان يعلق على الحائط جرابا جميل التطريز، يضم مصحفا، وكتابا عنوانه “الزهر النضر في حال الخضر”، قال: هذا ما تبقي لي من فلسطين. أدمنت عشق ما في الكيسين فكانت هذه الرواية”.
وأضاف: “حين تكون جائعا إلى الوطن، يصغر في عينيك الرغيف، والقصر المنيف، يهون عليك فراق المال، والأهل، والولد، والمقام المستعار، تغدو العودة معادلا موضوعيا للوجود، فيختزل الزمان والمكان، وتصبح أنت أنت، والوطن أنت؛ ولا فرق آنذاك أن تعود حيا أو شهيدا، فقد عانقت الجدود، وحققت الخلود”.
وأوضح أن “فكرة الرواية قفزت إلى ذهني يوم حادثني ابن خالي المقيم حاليا في قريتنا عين ماهل قرب الناصرة، قال:” نتابع منشوراتك الحالمة بالعودة، سأفعل المستحيل كي أجعلك تعود، ولو كزيارة. قدم الطلب إلى وزارة الداخلية، فكان الجواب بالرفض: ابن عمتك مقرب جدا من المقاومة، فنلت الشرفين: الفخر بالقربى، ولذة العودة بالخيال”.
وتابع: “مع كل مراجعة للرواية كانت دمعتي تغلبني، وأنا أودع مسقط الرأس، معين الذكريات، البقعة الأغلى على قلبي بعلبك، الجلال والجمال، السناء والبهاء، والسر الخفي. كيف يودّع الإنسان حياته، ولا يتأثر؟! عانقني أبي في الجبانة، ناصحا: “العودة تكون تحت ظلال الزنابق، لا تحت إرهابِ البنادق. أنت قرأت عنهم، أنا جربت”. والدتي ذرفت دموع الشوق، وقالت: “لا تعد وحيدا، أعرفك عنيدا، لكنني عُدت وحققت الهدف، كيف حصل هذا؟ اقرأ تعرف، ولا تقل أنا لست بقارئ، فلربما كنت المستهدف القادم. وكلنا نصطف أمامهم في حقل الرماية”.
وأشار إلى أن “الكاتب، في كل الروايات، يقوم بخلق الشخوص وتسييرها على هواه. في هذه الرواية قادني رشيد إلى حيث هو يشاء، وانحرف بي ممسكا بخيط السرد نحو أبعاد ما كنت أقصدها، فأرجو أن تنالوا بقراءتها المتعةَ مع الكوميديا السوداء، والفائدة مع أفكارٍ قد تجدونها جديدة”.
وختم: “تمسكوا بلبنان بأشفار العيون؛ لن تعرفوا قيمة الوطن إلا إذا أصبحتم لاجئين؛ وهذا لا أتمناه لكم أبدا، فلا تجربوه، لأن من جرّب المجرَّب عقله مخرَّب”.
ووقع الكاتب روايته للحضور.